ضوْءُ نار

هجرة الأدمغة … و سياسة “الترهدين”

نشرت

في


إذا أردنا أن نُعرّف مصطلح هجرةُ الأدمغة تعريفا بسيطا و قريبا من فهم العامّة فبإمكاننا القول بأنها تعني انتقال الكفاءات، و المختصّين، و أصحاب الشهائد العليا من البلدان ذات الأحوال الاقتصادية و السياسية المنعدمة أو المحدودة إلى البلدان المتقدّمة؛ بحثاً عن ظروفٍ معيشيةٍ أفضل، و بيئةٍ اقتصاديّة و اجتماعيّةٍ و ربّما أيضا سياسيّة أكثر استقراراً من أجل الحصول على فرص عمل أفضل برواتب محترمة و نفاذٍ للمخابر العصريّة و العمل في محيط مِهني يتميّز بالتعامل مع آخر التكنولوجيات تطوّرا …

<strong>محمد الهادي البديري<strong>

و في واقعنا التونسي شهدت بلادنا هجرات فردية للبلدان الغربية و لا سيّما فرنسا و إيطاليا و ألمانيا منذ أواسط الستينات … ثم بدأت الوتيرة تتصاعدُ فأصبحت الهجرة منهجا رسميا منذ سنة 1972 تاريخ إحداث الوكالة التونسية للتعاون الفني و هي “مؤسسة حكومية  لاستكشاف احتياجات الأسواق العربية و الأجنبية من الموارد البشرية و العمل على توفير الكفاءات التونسية لسد هذه الاحتياجات و كذلك إنجاز البرامج و المشاريع التنموية في البلدان العربية و الافريقية” … و تواصلت مغادرة الكفاءات التونسية للبلاد في نسق تصاعدي في الثمانينات و التسعينات… مع تسجيل حركة رجوع للبلاد من حين لآخر كلّما سنحت فُرص العمل أو البحث أو إمكانيات الاستقرار النهائي …

غير أنّ الآفاق المستقبلية بدأت في الانسداد منذ بداية سنوات الألفين حين كثرت أطماع الطرابلسية و عائلة بن علي و من والاهم  من أصحاب المال و الضالعين في التهريب و المستحوذين على عالم الأعمال، إلى أن سقط النظام السابق و جاءنا “جهابذة السياسة” من الفاسدين و السرّاق و سقط المتاع فأغلقوا “فانة” الأمل لدى الشباب العاطل من الذين لا يملكون المهارات المهنيّة إلى الذين تحصلوا على أعلى شهائد التحصيل العلمي.. فانطلقت قوارب الهجرة السريّة و تلتها موجات انتقال أصحاب الكفاءات العلمية إلى أوروبا و كندا تحت مُسمّيات كثيرة منها إجراء التربصات أو تعميق البحوث أو إنهاء الدراسات أو إستكمال الدكتوراه خصوصاً في المجالات المالية، و الصحية، و مجالات البرمجيات، و الفضاء .. و كانت كلّها تنتهي بالبقاء في تلك البلدان لما تقدّمه لأبنائنا من تسهيلات و حوافز.


إنّ هجرةُ الأدمغة ليست ظاهرةً حديثةً، و ليست خاصّة ببلادنا إذ شهدَ التاريخ هجرات الأدمغة من أوروبا إلى أمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، و من بلدان العالم الثالث في آسيا وأفريقيا و بلدان أمريكا اللاتينية، إلى البلدان المتقدّمة و الأكثر احتضاناً للمواهب و القدرات مثل أمريكا  و بلدان أوروبا …إنّ القصور الذهني وضعف ملكة الإبتكار لدى ساسة “الهانة” الذين بلانا بهم ربّ العالمين منذ عقود و لا سيّما منذ 2011 جعل التفكير في موضوع هجرة الأدمغة يُقتصرُ في بُكائيّة على رحيل أبنائنا و خيرة شبابنا “و هات من هاك اللاّوي” و كأننا هيّأنا لهم مجالات العمل و الإبداع أو أحضرنا المخابر و المستشفيات و الجامعات و فرص العمل لكي يبقوا بيننا و تنتفع البلاد بعلمهم و عملهم !

 كفانا نفاقا و كذبا على أنفسنا… فمن لم يُسعفه الحظ من أصحاب الشهائد العليا في السفر للبلدان المتقدمة لفّه النسيان في بلادنا و انضمّ إلى القافلة الطويلة للعاطلين، فهل نرفض هجرة الادمغة لنُلقي بها في جحيم العطالة و الخصاصة لإرضاء شعار زائف بالوطنيّة؟ و كأنه كُتب علينا البقاء في منزلة بين المنزلتين: فلا نحن أحضرنا المناخ الملائم لعمل أصحاب الكفاءات العليا، و لا نحن إبتهجنا بهجرتهم إلى حيث يبدعون.. هكذا نحنُ : ننغّص على الناجح فرحته بنجاحه، في كل المجالات تقريبا …

علينا أن نُغيّر نظرتنا البالية لموضوع هجرة الأدمغة، فنُحوّله من بكائيّة كاذبة إلى شُحنة إيجابيّة تنفع بلادنا و تُنصف مجهود أبنائنا من الإطارات العليا في الخارج… فنخلق منهم “لوبي” يساعد تونس و يلمّع صورتها و يشجع سلطات البلدان الأجنبية على مزيد استقدام التونسيين من مختلف الاختصاصات في إطار هجرة منظمة فينتفع المهاجر و”تتنفّس تونس” وينتفع بلد الإقامة … إضافة طبعا إلى الإيجابيات الأخرى الكثيرة التي تنتج عن الهجرة مثل التحويلات الماليّة التي يُرسلها أبناؤنا لتونس، و نقل المعرفة إلى بلادنا عبر المؤتمرات و المشاركة في المشاريع العلميّة و كذلك احتمال عودة عدد منهم إلى أرض الوطن بعد اكتسابهم المهارات اللازمة لعمليّة التنمية بما يصبّ في مصلحة تونس …

فهل يُقيّض الله لنا من يُفكّر في مصلحة أبنائنا و مصلحة البلاد، بعيدا عن الشعارات و سياسة “الترهدين” ؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version