أسئلة عديدة تخامرنا ونحن نعيش أردأ مراحل تاريخنا الحديث…هل سيُسمح لنا بأن نصرخ بكلمة حقّ في زمن أصبح الجور والظلم فيه لعبة يمارسها الساسة والحكام، ومن يلعقون أحذيتهم ومن انضمّوا للقطيع… في زمن انتشرت فيه صناعة الجبن والنذالة…وتميّز فيه بعضهم بهندسة وفبركة الأوغاد…هل حقّا نحن اليوم أفضل مما كنّا عليه كما يزعم بعضهم؟ وهل حقّا نحن اليوم في مشهد جميل لا خوف فيه ومنه؟ هل هذه حقّا بلادنا التي تمنيناها وبحثنا عنها واختلفنا وافترقنا من أجلها؟ أهذه بلادنا التي نريدها للجميع ولو اختلفوا؟ لا أظنّ أننا كنّا نريد هذه النهاية الموجعة…ولا أظنّ أن هذا الشعب يستحق ما هو عليه اليوم من بؤس ووجع…وإحباط…
قديما تآمر على هذا الوطن الأصدقاء، والاشقّاء، وغدر بنا الحلفاء والأقرباء، لكننا لم نفرّط يوما في وطننا ولم نترك يوما أرضنا، ولم نختر طريقا خاطئة، ولم نسلك مسالك وعرة لا نعرف نهايتها، ولا يستفيد منها الشعب، ولا ترتقي بها الأمة…ونجحنا بحنكة وحكمة كبارنا سواء كان ذلك في عهد الزعيم بورقيبة أو في عهد الرئيس بن علي، في إفشال كل محاولات قوى التآمر وأدواتها من خونة الداخل والخارج، الذين رهنوا ضمائرهم، وباعوا وطنهم وحاضرهم ومستقبلهم…فهل فعلنا كل ذلك لنسقط حيث سقطنا اليوم؟
هل فعلنا كل ذلك لنصل إلى ما نحن فيه من انقسام وفتنة نطردها من الشباك، لتعود إلينا وتطل برأسها من ثقب الباب؟ هل فعلنا كل ذلك من أجل أن يصبح أعظم وأهمّ أهدافنا “كيلو فارينة” و”قارورة غاز” ورغيف خبز فقد طعمه وخفّت موازينه؟ هل فعلنا كل ذلك من أجل أن يصل بنا الأمر إلى خوف من أن نفشل في توفير مرتبات موظفينا؟ هل فعلنا كل ذلك من أجل أن يكون إنجازنا دستورا جديدا نلغي به دستورا لا يلبي رغباتنا وأطماعنا، قد يرميه من يأتي بعدنا أو ينقلب علينا في أول سلة مهملات تعترضه؟ هل فعلنا كل ذلك لينتحر شبابنا في المتوسط هربا من جحيم صنعناه بإرادتنا؟ هل فعلنا كل ذلك من أجل أن يهجر عشرات الآلاف من كفاءاتنا أرض الوطن ليصنعوا ربيع أوطان أخرى؟ هل فعلنا كل ذلك من أجل تنفيذ بعض نزوات حكامنا في فرض نظام حكم أعرج ابتر، لا هدف له ولا برامج غير تصفية الخصوم وإفراغ الساحة لصالحهم وتوسيع صلاحياتهم ليصبحوا ملوكا وسلاطين؟
هل يستحق هذا الشعب حقّا ما يقع معه… وله… وبه؟ هل يستحق هذا الشعب ساسة يحكمونه بالإشاعة والايهام والإلهاء وتحويل الوجهة، ساسة يقلبون فشلهم وهزائمهم إلى انتصارات وإنجازات، لا أثر لها في واقع الحال؟ هل يستحق هذا الشعب ان يعيش على أوهام يصنعها حكامه ويروجونها بحماسة في خطبهم؟ هل يستحق هذا الشعب المنكوب المكلوم حكاما لا يبحثون عن انقاذ ما يمكن إنقاذه، همّهم الوحيد البقاء على كراسيهم إلى أجل يحددونه ويقررونه هم؟ هل يستحق هذا الشعب حاكما لم يحدثهم يوما عن مشاغلهم وأوجاعهم دون أن يلصق بخصومه كل مؤامرات الدنيا، وكل أشكال الخيانة والعمالة؟ فهل كتب على هذا الشعب أن يعيش فقط على أمجاد الماضي…وأن يحنّ إلى نجاحات الماضي وإخفاقات الماضي وأوجاع الماضي، دون أن يسعد بحاضره ودون أن يصنع مستقبلا أفضل لأبنائه؟ وهل كتب على هذا الشعب أن يعيش على ثقافة الخوف والرعب من حاكمه…وهوس الاستبداد والقهر؟
هل حقّا حافظنا على الدولة أم لم يبق لنا غير بعض بقاياها؟ فحين نرى اليوم كثرة المنافقين والدجالين نشعر وكأننا نجسّد صورة رسمها لنا ابن خلدون منذ ستّة قرون خلت حين قال:”عندما تنهار الدول والاوطان يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون… والكتبة والقوّالون… والمغنون النشاز والشعراء النظّامون… والمتصعلكون وضاربو المندل… وقارعو الطبول والمتفيهقون (أدعياء المعرفة)… وقارئو الكفّ والطالع والنازل… والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون…تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط… يضيع التقدير ويسوء التدبير… وتختلط المعاني والكلام… ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل.. ” فهل صدق كل ما قاله ابن خلدون عنا وفينا؟ هل انهارت الدولة التي بنيناها وشيدناها بأيدينا؟ فنحن في زمن المداحين…وزمن الهجائين… وزمن قارعي الطبول… فهل بالتطبيل والنفاق سنعيد للدولة هيبتها …وللبلاد مكانتها …وللأمة كرامتها وعزّتها؟ وهل بالمتصعلكين وعابري السبيل سننجح في خلاص ديوننا؟ وهل بالانتهازيين سننجح في درء العجز عن ميزانيتنا؟
هل بهذه الأقلام وأصوات الدعارة الإعلامية سنعيد الأمل المفقود لشبابنا ومن أوجعناهم بما فعلناه بهم منذ أكثر من احدى عشرة سنة؟ هل نحتاج حقّا إلى كل هذه الأصوات التي تحترف التطبيل والنفاق؟ هل نحن في حاجة إلى من يعملون ليلا نهارا على توسيع الهوّة بين أفراد هذا الشعب، بين الحاكم والمحكوم؟ هل نحن في حاجة إلى من يخططون فقط لتوسيع الشرخ بين مكونات النسيج السياسي والمجتمعي؟ هل نحن حقّا في حاجة إلى من باعوا ضمائرهم واحترفوا التغطية والتزييف وخيّروا الصمت أمام ما يقع بالبلاد منذ أكثر من احدى عشرة سنة؟
لا … لسنا في حاجة إلى هؤلاء وامثالهم، ولن نكون في حاجة إليهم ابدا فنحن من صنع تاريخ هذه الأمة وبنى مجدها، وأجدادنا هم من كتبوا تاريخها بأحرف من دمهم ومعاناتهم ونضالاتهم …نحن اليوم في حاجة إلى حاكم لا يفرّق… حاكم يجمع الجميع حول طاولة الوطن وإن اختلفوا… حاكم يحب الجميع وإن لم يتفقوا… حاكم لا يتمسك بالكرسي بقدر تمسكه بوحدة هذا الشعب رغم اختلافه …نحن في حاجة إلى حاكم يتقن إدارة احتياجات هذا الشعب وهذه البلاد …فلا مبرر لوجود من لا يفقه كيف يدير احتياجات شعبه وأمته ويخرجهما من أزمتهما…ولا مبرر لبقائهم جالسين على كراسيهم حين يفشلون في القيام بواجبهم…نحن في حاجة إلى حاكم يخفّض من مستوى الاحتقان بين مكونات مشهدنا السياسي والمجتمعي بخطاب يوحّد… خطاب يجمّع… خطاب حب… لا حقد فيه… ولا تهم ولا شتيمة…ولا محاكمات على الهواء لا إثبات فيها غير بعض الهراء…نحن في حاجة إلى حاكم نبكيه يوم يغادرنا…ونتمسّك به يوم يترك الكرسي… ولا حاجة لنا بحاكم يرفع مستوى الاحتقان ولا يقرأ حسابا لمخاطر الفتنة…فهذا الشعب الذي صبر أكثر من عشر سنوات لن يصبر أكثر… ولا أظنّه يرضى بمثل ما عاشه…وهذا الشعب لن ترهبه السجون ولا التهم الباطلة، ولا القضايا الملفّقة، ولا الاقامات الجبرية، ولن تسكته أبواق السلطان وإن كثر صراخها وعلا صوتها…وتناثر بصاق افواه أقلامها ومادحيها في منابر قنواتها…
نحن في حاجة إلى حاكم يدرك ان رغيف الخبز لا يعوّض الحرية ابدا…وأن “كيلو فارينة” لن ينسينا كرامتنا…هذا الشعب لن يقبل بأن يأكل رغيفه ويداه مقيّدتان… ومحكوم عليه بالصمت… فالصمت جريمة وخيانة لمن لم يسكتوا يوما عن الحق…فإن كنتم يا حكام اليوم تحبون وطنكم مائة مرّة… فهذا الشعب يحبّ وطنه مليون وألف مرّة ومرة…ومرّة أخرى…