هل انتهى اللاعبون الأفذاذ … باندثار الأسماء المستعارة؟!
فاصل رياضي … وانقراضي
نشرت
قبل سنة واحدة
في
صادف أمس الإثنين، ذكرى رحيل أسطورة رياضية لطالما انشدّت لها الأعين من مختلف الملل والنحل، وجنت تصفيق الخصوم قبل الأنصار، وحفرت صورتها في القلوب والذاكرات إلى زمن غير معلوم … ومن أعني غير حمادي العقربي، رحمه الله؟ …
أنا وضعت معه صفة الأسطورة، ويمكنك أن تستعرض أيضا طائفة من الألقاب التي التصقت بصاحب القميص رقم 8 الأشهر في تاريخ منتخبنا … الفنان، ساحر الجيلين، المبدع، المايسترو، في حين أنه في صفاقس إذا تحدثت عن الكرة وقلت “حمادي” فالمفهوم أنك تقصد واحدا بعينه ولو كان هناك المئات ممن يحملون هذا الاسم الرائج فيتلك المدينة من بين كل المدن … وليس غريبا أن ينفرد العقربي بكل هذا، فهو ليس فقط من أمهر من رأيناهم من مداعبي الكرة، بل يقيني أنه وصل إلى ابتكار حركات معينة ومراوغات لم يسيقه إليها غيره حتى خارج حدودنا … هكذا من دون تفكير أو تخطيط أو درس، فقط الموهبة الصافية تكفلت بكل شيء …
تحدثت عن ألقاب لاعبنا الكبير الفقيد، ونسيت أنه حتى اسم شهرته هو بدوره لقب أو كنية في حد ذاته … وطوال سنوات عديدة، وحدها بلدية صفاقس وملفات إجازات جامعة كرة القدم تعرفان حصرا أنه لا وجود لمواطن تونسي يلعب الكرة ويقود ناديه ويبهر الجميع وطنيا ودوليا، يحمل اسم ولقب حمادي العقربي … لا، فعندهم من تنطبق عليه هذه الأوصاف يدعى في دفاتر الحالة المدنية محمد بن رحيم … العب ياله ! … ولكننا حتى بعد أن عرفنا هذه المعلومة، واصلنا استعمال الاسم الذي تعوّدناه، وسخرنا طولا وعرضا من تقعّر بعض المعلّقين الذين يكررون في كل دقيقة تقريبا تذكيرنا بالاسم الحقيقي وكانهم اكتشفوا قارة جديدة، تماما كما يفعلون مع اسم عبقري آخر، فيكسرون رؤوسنا بعبارة “الصادق ساسي شُهِر عتوقة” … إنهم لا يتكلمون عن بطل من وجداننا الشعبي، بل عن متهم ممسوك في قضية تهريب !
وأنّى لهؤلاء الموظفين الصغار ذلك، أنّى لهم … فقد مضى الزمن الذي كان فيه اللاعب والصحفي ينشآن معا من نفس البيئة الفقيرة والحومة والبطحاء ويمارسان كافة الألعاب والمعارك حتى يرسو كلاهما على المهنة التي يختارها … فلا يتكلف الطاهر مبارك أو محمد بوغنيم أو إبراهيم المحواشي أو مختار بكور أو إسماعيل التريكي ولا يكلفون أنفسهم عناء تغيير قشرتهم وقشرة ابن حيهم ولو صار وصاروا من نجوم البلاد … منذ صغرك أعرفك ويعرفك أبناء حومتنا باسم “ديوة” جنّا أرقط في المراوغة والسرعة والتسجيل من كل الزوايا … فلماذ حين تكبر وأكبر نلبس قفازات ونتصافح بدل أن نتعانق ضاحكين، وما بك تناديني باحترام مصطنع “أهلا سي محمد” فأجيبك منافقا “مرحبا بالسيد نور الدين بن يحمد” ؟! ماهذا القرف …
والواقع أن لكل زمن رجالا … كنية اللاعب في السابق كانت تطلق عليه من أول لمسة موهوبة للكرة، من أول “فانت” تلوي ظهر أحد المدافعين، من أول تصويبة رصاصية على بعد 30 مترا تطير أحجار المرمى (بدل الأخشاب) شظايا … هذا في حومتنا كنا نسمّيه “بزّوكة” ويبقى ذلك الاسم معه حتى وهو بأحفاده … نفس الشيء للآخر الذي يقتنص الكرة من رؤوس اللاعبين وأرجلهم ويصطادها بكلتا يديه مهما كانت عالية أو قوية أو في انفراد (راس راس) … لذلك سمّيناه “كمّاشة” وقد عاد مؤخرا من الحرمين واستقبله الأهل والجيران بشاحنة صغيرة مكتوب على جنبها بالدهن “حجك مبرور وذنبك مغفور كمشون الغالي” …
يعجبني المطرب المتمرّد صلاح مصباح حين يقول: “عهد الفنانين كان ذهبيا عندما كان الفن حراما” وقصده أنه في القديم وحين كانت العائلات تمنع أبناءها من احتراف الغناء، لم يكن يجرؤ على هذه المهنة إلا الموهوبون جدا والمغرمون حقا، إلى درجة أنهم كانوا مستعدّين لتحمّل أقصى العقوبات الأبوية في سبيل ذلك … ولتأجيل القصاص أكثر ما يمكن، كان الفنان (أو الفنانة) من هؤلاء، عادة ما يتخفّى وراء كنية أو اسم فني أو اسم مستعار … وبقدر حجم الموهبة، يرسخ الاسم في العقول والألسن، ويبقى على الدهر حتى بعد افتضاح صاحبه (ته) وصدور عفو تشريعي عائلي في شأنه أو شأنها …
نفس الكلام يقال عن ممتهني الرياضة وكرة القدم خاصة … فقد كانوا عموما إمّا يمارسون هوايتهم تحت سيف المخاطرة واللعب اليومي بالنار، أو كانوا أيتاما مستريحين من رقابة الأب الجلاّد ولكن تلاحقهم لعنات كبار المجتمع، أو كانوا مدمنين على اللعبة إدمان غيرهم على آفات أقل براءة وأكثر ضررا … وربما على الآفتين معا كما في بعض الحالات … وفي معظم الأحيان كان الفقر والموهبة توأمان يرافقان الفتى في حله وترحاله … ومعهما اسم مستعار يلتصق بأخينا حتى وهو يرتدي قميصنا الرسمي ويعزف له النشيد ويستقبله وزراء ورؤساء …
من تلك الفترة نبغ عندنا “ديوة” و”عتوڨة” و”الفرزيط” و”وزّة” و “بَلَدية” و”ڨطوس” و”باڨندة” و”اللص” و”حاج علي” و”عجل” و”علقة” و”عبيثة” و”الأعوج” و”كعونّة” و “الترد” وغيرهم كثير ممن لا أستحضره … وتلاشت الظاهرة تدريجيا باستثناء حالات نادرة فيما بعد … مثل “الڨوشي” و”الشاف” و”التران” و”برڨو” و”بيشة” من السبعينات حتى التسعينات، وانتهى الأمر … والذين لم تكن لهم كُنًى (جمع كنية) كانوا معروفين في أحيائهم والأحياء المجاورة بأسمائهم الأولى التي جرت هكذا على ألسنة المذيعين … طارق، تميم، كمال، بكار، توفيق، عبد الرحمن، الكامل، حسن، عبد الله، غازي، إلخ … ولو علق عليهم مذيعو هذه الأيام بطريقتهم الإدارية لسمعنا تسميات من نوع: ذياب، الحزامي، الشبلي، بن ميلاد، بن عثمان، الرحموني، بن عبد العزيز، بعيو، الطرابلسي، الإمام … أي ألقابهم العائلية بكل جفاف وجفاء …
ربما بسبب تحنّط التعليق الإذاعي وغرق صحافتنا الرياضية في المكاتب بدل متابعة الملاعب… وربما أيضا بسبب التغيير الذي طرأ على ولادة الطاقات وبيئة التكوين، عندنا وفي العالم أيضا … فمن البطحاء التي انقرضت بالغزو العمراني، إلى النهج أو “الكيّاس” الذي صار أكثر خطورة بتكاثر السيارات ومجانينها … وأصبح المجال الوحيد اليوم هو أكاديميات الأندية وحدائق تمارينها، حيث يتنقل الطفل على متن سيارة (Papa) و(Maman) وفي حمايتهما ويفرضانه فرضا بضغطهما ومعارفهما … حتى لو كانت ساقه لا تفرق بين الكرة وعصا الركنية، حتى لو كانت موهبته لا تتجاوز مفاتيح لعبة البلاي ستايشن 5 الباهظة الثمن …
لذلك لا أمل لي ولا لك، في أن يولد لدينا عڨربي جديد، ولا عتوڨة ولا طارق ولا مجدة ولا موحة سدر اللوحة … أكثر مما يتحسر البرازيليون اليوم على ذهاب مجدهم مع أسماء “تنكرية” راحت وانقضت … بيليه، غارينشا، زيكو، روماريو، و”الظاهرة” رونالدو …