هل تعرفون استعارة “القلم” في عالم التربية والتجديد التربوي؟
مساهمة بمناسبة اليوم العالمي للتعليم
نشرت
قبل سنتين
في
أتاح لي تقديم كتاب صديقي الدكتور مصطفى الشيخ الزوّالي “المدرّسون والتّجديد” فرصة الاطلاع على ما كتبهُ في خصوص مُثبّطات التجديد والتّغيير في مدرستنا التونسية، ومحاولة النبش في العوامل التي أدّت إلى عدم توصّل مختلف الاصلاحات المتعاقبة إلى مؤدّياتها المرسومة لها بدءً،
كما أتيحت لي بهذه المناسبة فرصة البحث في بعض أدبيّات المشتغلين في حقل التربية والتعليم في بِطاح أخرى عبر العالم عمّا قد يُساعد على تفكيك هذا اللغز المحيّر، والمتمثّل في أن الإصلاحات التي تُنزّلها الدولة “دفعة عموديّة واحدة” لا يمكنها إلاّ أن تفشل أو تصطدم بإكراهات وتخييبات موضوعية يصعب جدا تحييدها والتغلب عليها، حتى أن بعض منظومات التربية لجأت في النهاية إلى اعتماد مقاربة “الجُرعات الإصلاحية الموضِعية” كصيغة وُسطى تضمن قدرا أكبر من قابلية التحقّق الميداني. واكتشفتُ أثناء هذه الرحلة، استعارة مجازية استخدمها بعض الدّارسين والباحثين في الشأن التربوي من أجل تقريب صورة ما يحدث في التربية إلى أذهان الناس، وخاصة من أجل إتاحة فهم أفضل لمُعيقات الإصلاح وهوْل الانزياح بين النوايا المُترعة والمبادئ المُعلنة من ناحية، وحقيقة ما يُعطَى على أرض الواقع من نتائج زهيدة في ظل كل إصلاح…
هذه الصّورة البلاغيّة هي استعارة القلم.
وجدتُ أن الصورة البلاغية للقلم تنسحب بشكل جليّ على وضعنا التربوي في تونس وعلى مآل الإصلاحات المتعاقبة التي لم يتحقق من نواياها وغاياتها المُعلنة سوى النزر القليل، وذلك على النحو التالي :
سِنُّ القلم، هذا الجزء الطليعي من القلم الذي يتميّز بالحدّة والقدرة على التجدّد من رحِم نفس القلم بمجرّد البَرْي، ويمثل نخبة المُجدّدين والمطوّرين في مجال التربية على مستوى الوسائط المستعملة والمناهج المعتمدة والمضامين المقترحة والآفاق المستقبلية المرسومة. هؤلاء بصورة عامة، عددهم قليل ولا تُعيقهم الظروف المحيطة المُكبّلة : يأخذونها بعين الاعتبار لكنها لا تأسرهم، يلعبون دور المحرّك والقادح ويحاولون تفعيل رؤاهم المُجدّدة ضمن فريق صغير من العناصر المندفعة وضمن مشروع متكامل تقوده نظرة مؤصّلة، ويروم تحقيق أهداف معلومة. هم مجموعة من الرياديّين يكتبون مستقبل المدرسة ومستقبل التعليم، يجرّبون ويوثّقون ويتأمّلون ويطرحون الأسئلة غير المألوفة وينبشون في ما يكتبه الآخر على ضفاف أخرى للمقارنة والاطلاع المتزن على مكتسبات الانسانية ونجاحاتها في مجال التعليم دون عُقد أو تبعيّة.
الجزء المبْري من القلم قبل الكشف عن الغرافيت او الكربون المُعدّ للكتابة (les affutés) هذا الجزء يُمثّل عددا أكبر من “الرياديّين” ويتمترس مباشرة خلفهُ، يراقبُه وينتبِهُ إلى ما يأتيه من ممارسات تربوية تحديثيّة فيها قيمة مُضافة. هم سريعا ما يتبنُّون التجديد واعتماد الممارسات الجيدة لكونهم قريبين جدا من رأس حربة التغيير.
الخزّان أو المستهلكون، وهو الجزء الأكبر على الإطلاق من حيث العدد. فأغلبية المدرّسين في كل المستويات التعليمية يمثلون هذا الجزء الأكبر من القلم. يكونون عادة مستعدّين لتبني التغيير والانخراط فيه شرط مساعدتهم أو تعهدّهم بالتكوين والتحفيز. هم كتلة صامتة تقودها حسابات نفعيّة آنيّة وتنتظر دائما ما سيفرزه الواقع وما ستؤدي إليه تجارب الآخرين، لكنها لا تُعادي ولا تبادر في نفس الوقت. وحتى عندما ينخرط عناصر هذه الكتلة في أي تجديد، فهم ليسوا مغامرين كما يفعل “جماعة سِنّ القلم” على معنى الإقدام على تجديدات تبدو للوهلة الأولى وكأنها طوباوية وصعبة المنال. هم يقفون على حافة التغيير دون التجرؤ على القفز… لذلك هم بحاجة إلى وجود مرشدين بيداغوجيين ومتفقدين أو أية سلطة بيداغوجية أو رمزية أرقى لتحفيزهم وجعلهم يُحلّقون بثبات في سماء إعادة إنتاج فعل التعليم والتعلّم.
المِمحاة في آخر ظهر القلم، وتُمثّل مجموع المُحاة، (من محَا الشيء أي أزال أثرهُ وهم بصورة عامة أصناف من المربّين والهياكل النقابية. يتخندقون عادة في المعارضة ويسعون دائما إلى تحييد المجهودات المبذولة من طرف النخبة الريادية. المُحاة عادة ما يتكئون على “التقليديين والمستهلكين” الذين يقبعون مباشرة أمامهم لفسخ ما يكتبه الرياديون أو ما يفعلونه.
المَشابِك les clamps (وهو الجزء الفولاذي الواقع بين الممحاة والكتلة الصامتة) يتعلقون بما يعرفون ويرفضون تغيير ممارساتهم. هؤلاء هم التقليديون الذين يرفضون إدخال أي تغيير على سلوكاتهم البيداغوجية وممارساتهم المهنية، وغالبا ما يكونون مشدودين (كما يشدّ القلم إلى مشبكه) إلى الصورة التقليدية التي صُنعت للمدرسة والتي يكاد يكون فيها المعلم رسولا أو سيّدا يسعى إلى تحويل متعلميه إلى عبيد، لمجرد كونه علّمهم حرفا ‘كما تقول الأسطورة التربوية المتداولة). وبشيء من الطرافة عادة ما تدعو المنظومة إلى ترك هذه الفئة لحالها…راضية مطمئنة خالدة إلى نومها وقناعاتها التي لا تتزحزح.
مِشدّ القلم (الجزء الذي يعلّق منه القلم أعلى الجيْب) ويمثّل المتفرّجين أو المارّين السريّين، يكونون على علم بكل شيء ويوهمون الآخر بأنهم منتبهون إلى كل شيء ومُلمّون بكل التفاصيل ولكنهم سلبيون ويُغرّدون على هامش الفعل التربوي.
لكن هذه الاستعارة، رغم طرافتها وشموليتها، فإنها تُهمِل في رأيي عنصرين آخرين أساسيّين هما :
العمود الرّصاصيّ الداخلي الواقع على طول الغلاف الخشبي للقلم والذي يمثّل كل الطاقة الكامنة داخل منظومتنا التربوية التي تنتظر من يبْريها ويقلّمها ويجعلها تُفصح عن نفسها مهما تضخّم حجم الممحاة والمُحاة، ومهما تعرّض سِنّ القلم للإحباط والتقصّف على حواجز “مقاومة أي تغيير” والرّكون إلى منطق “شدّ مشومك” المُريح وإلى روح العدميّة السائدة.
العنصر الثاني هو اليد التي تُمسك القلم ممثّلة في المحيط المجتمعي العام الذي تنمو ضمنه مدرستنا والنظام السياسي الذي يشرف على حظوظها. لأن المدرسة هي مجرد ضلع من جملة أضلع أخرى تتكفل بمهمة التعليم والتكوين وتتكامل وتترابط فيما بينها، ومن ناحية أخرى هي تتأثر شديد التأثّر بالمناخ الاجتماعي العام إن كان مُحفّزا على التحصيل ومشجّعا على التأهيل أو عكس ذلك كما هو حالنا اليوم في تونس، مُحرّضا على التفاهة ومُرغّبا في انتهاج سُبل الشهرة السهلة والربح السريع وإعلاء قيم البلطجة والفهلوة والشطارة.