هل سننتمي نحن العرب إلى شبكة اتصالات الجيل الخامس ؟
نشرت
قبل 4 سنوات
في
اتّخذ الحديث عن الجيل الخامس للاتّصالات في العالم المتقدم نسقا تصاعديّا خلال الفترة الأخيرة و ذلك باعتبار أن سنة 2021 ستشهد إطلاق المنظومة الرقمية الجديدة “الجيل الخامس للاتصالات” و تشغيلها على نطاق واسع، وبالتالي انطلاق مختلف الاستخدامات المنتظرة من هذا المولود الرقمي الجديد والذي سيُحدث بإجماع الخبراء ثورة في المعاملات التي تُتيحها الطرقات السيّارة للمعلومات و التي ستتحوّل إلى سماء مفتوحة للمعطيات والمبادلات على النطاق الكوني.
المنصّات الرقميّة العالميّة و كبرى الشركات المتخصصة في الاتصالات (ميكروسوفت، آبل، غوغل، أمازون و فايسبوك…) تتجنّد و تهيّئ أرضيّاتها و خوادمها ومهندسيها و تقنيّيها و تضع نفسها في حالة استنفار تكنولوجي و رقمي قُصوى بينما تظل شعوب العالم غير المتقدم و نحن العرب بالخصوص في انتظار انعكاسات هذه الثورة الكونيّة و تداعياتها المتنوّعة و تقبّل نتائجها بصورة سلبية و استهلاكية بدون أية مناعة تُخفّف من هوْل سلبياتها أو الاستفادة القصوى ممّا تتيحه من إيجابيّات و فرص تنمويّة و تشغيليّة كبرى.
لكن قبل ذلك، ما هو تعريف الجيل الخامس للاتصالات «5G» ؟
هو الموجة الخامسة من تكنولوجيات المعلومات و الاتّصالات اللاسلكيّة و التي -حسب مشغّل الهاتف “أورونج” – تمّ تصميمها من أجل الاستجابة للتطور الهائل للمعطيات و “موصوليّة” المجتمعات الحديثة بمعنى ارتباطها بشبكات الاتصال. و تُتيح هذه التكنولوجيا الجديدة إمكانيات ضخمة لتبادل المعطيات و تخزينها وكذلك التصرف في منسوب المكالمات المتعاظم.
هذا و يستعمل الجيل الخامس للاتصالات اتّساعا أو نطاقا غير مستعمل من الموجة الميلميترية (MMW) و الواقع بين 30 و 300 جيغاهرتز مع استغلال بعض التردّدات الدّنيا و المتوسّطة.
المؤكّد أن الجيل الخامس سيكون أكثر اقتدارا و نجاعة من الجيل الثالث و الرابع على أكثر من مستوى باعتباره يفتح مجالات المُمكن على مصراعيها و ذلك في مختلف مجالات التطبيق و التعامل الرّقمي.
أولا : الجيل الخامس ذو سرعة مُذهلة :
سرعة أكبر في الإبحار بتدفق اتصالي عال جدا يُضاعف عشرات المرات ما كان مُتاحا مع الأجيال السابقة. سرعة يمكن أن تصل الى 100 جيغابايت من المعطيات في الثانية، أي مائة مرة أسرع من الجيل الرابع حاليا (4G). بما يعادل على سبيل المثال تأثيث مكتبة سينمائية خاصة على درجة من الثراء و التنوع في حيّز زمني لا يتجاوز بعض الثواني على الأنترنات مقابل الساعات و الأيام العديدة التي تتطلبها اليوم عملية تنزيل الأفلام.
ثانيا : مراقبة الأشياء عن بُعد :
يُصبح ذلك مُمكنا بفضل التقليص بشكل ملحوظ من الوقت الذي يستغرقه حاليا “تفاعل الشبكات و ردّ فعلها”، علما بأنّ مدّة التفاعل في الايّام الراهنة تتراوح بين 35 ميلي ثانية و دقيقة. في المقابل سيمكّن الجيل الخامس من تقليص هذه المدة الى ميلي ثانية واحدة. و هو شرط أساسي للتمكّن على سبيل المثال من التحكّم عن بُعد في السيّارات و الطائرات دون طيّار المرتبطة بشبكة الأنترنات … و كذلك التحكم بالبيوت و أثاثها و أجهزتها عن بُعد مثل غلق الأبواب و تشغيل آلة غسيل الثياب أو القيام بعملية ريّ الحقول و تحويل مصبّات المياه.
ثالثا : التعليم والطب عن بعد (أو التطبيب الالكتروني) :
يُعتبر الطب من المجالات الدقيقة التي تنتظر ثورة الجيل الخامس. فمنذ عديد السنوات يتمّ إجراء بعض العمليات الجراحية بشكل إلكتروني عن بُعد و يقع التحكّم بتفاصيلها على بعد آلاف الكيلومترات خاصة في البلدان غير المتقدمة طبيا. و بالتالي سيكون للجيل الخامس تأثير مباشر على تحسين جودة الصورة المنقولة و إتاحة تنسيق اكبر بين المستشفيات والأطباء عبر العالم و متابعة أفضل للملفات الطبية للمرضى.
أما بالنسبة إلى التعليم، فسيتحوّل العالم ــ كما يتوقع خبراء المستقبليات ـ إلى قاعة درس ضخمة يحضرها طلبة بالآلاف و الملايين من كل بلدان العالم و يتلقّون فيها ما يعزز قدراتهم و سيرهم الذاتية من أجل تشغيلية أفضل و بشكل غير نظامي، دون مغادرة مقاعدهم أمام الشاشة في غرف نومهم.
فعلى سبيل المثال “الدروس المُتاحة على الخط والمفتوحة أمام الجميع” Massive Open Online Courses (MOOC) و التي تؤمّنها أعرق الجامعات بصفة مجانيّة تماما (إلا بالنسبة إلى المُتابعين الذين يريدون نيْل شهادة أصلية مؤشّر عليها من إدارة الجامعة المعنية) أصبحت منذ بضع سنوات مكمّلا أساسيا في تكوين الطلبة و المؤمنين بمقاربة التكوين مدى الحياة.
تصوّروا أن الدرس المفتوح CS50 (المتخصص في مجال البرمجة الإعلامية) في جامعة هارفارد الأمريكية يُتابعه على اليوتيوب حوالي مليون و نصف المليون من التلاميذ (شبانا و متقاعدين وأساتذة وطلبة من كل الأعمار و من كل بلدان العالم).
رابعا : قوة الربط و شساعة مجاله
من بين أكبر مميّزات شبكة الجيل الخامس أيضا أنّه سيكون بمقدورها ربط عدد أكبر من الهواتف دفعة واحدة لأن الشبكة تستطيع نظريا ربط أكثر من مليون هاتف في الكيلومتر المربع الواحد، مقارنة بقدرة الجيل الرابع القادر على ربط 60 ألف هاتف فحسب.
خامسا : تدنّي كُلفة الربط
من المتعارف عليه أيضا أن الاتصالات السلكيّة (سواء بواسطة الأسلاك النحاسية أو الألياف البصرية) تتطلب حفْرا للطرقات العامة و إنفاقا كبيرا من الوقت و المال، في حين أن تجهيزات الاتصال دون أسلاك عن طريق “الوي في” أسرع و أقل كُلفة … بالإضافة إلى كون سرعة الولوج إلى الويب و تنزيل المعطيات و تبادلها ستُمكّن المستعملين من تقليص كُلفة الربط إلى أدنى المستويات.
سادسا : القطاع المنجمي :
سيُمكّن كذلك الجيل الخامس للاتصالات من تعزيز الإنتاجيّة و ظروف العمل الآمن و التّقليص من الانبعاثات الغازية الخطيرة … في السّويد على سبيل المثال مكّن الجيل الخامس الذي تم تركيزه في الأنفاق تحت الأرض داخل أجهزة و طائرات صغيرة دون طيار، من تفقّد الدهاليز بشكل أفضل و دون أية خطورة على عمال المناجم و بالخصوص بعد القيام بعمليات التفجير بالديناميت و ما يتلوها من انهيارات … و ذلك دون حاجة إلى الربط بالشبكة الخارجية و بالتالي تقليص عدد الحوادث و ربح الوقت و الارتقاء بمستويات الإنتاجيّة.
أمام هذه الثورة التكنولوجية العارمة التي ستُغيّر وجه العالم خلال السّنوات المُقبلة من حيث شموليّتها و آفاق تشغيليّتها في المجال الرّقمي و حجم التأثير على سلوكات الناس و تعزيز القدرات الرقابيّة للدول على شعوبها و التحول الكبير في مناويل تنمية اقتصاديات العالم، إلخ… من المهمّ طرح الأسئلة التالية فيما يخصنا نحن العرب :
هل نحن مستعدّون للانخراط الإيجابي في هذه الثورة و الاستفادة من مُخرجاتها ؟
هل سيتعلّم أبناؤنا بشكل أفضل و الحال أن الأغلبية الساحقة من الطلبة في الجامعات العربية في جل التخصصات يُقضّون سنوات الإجازة دون أن يقرؤوا كتابا واحدا في تخصصهم باستثناء الملخصات و المطبوعات التي يوفرها الأستاذ ؟
هل ستتطوّر جامعاتنا و مخابر بحثنا و غالبيّة طلبة الماجستير والدكتوراه تفشل في الوصول إلى المراجع المهمة التي لها علاقة مباشرة بمشاريعِهم البحثية، و لا تستطيع أن تُبدع و تُطور في بحثِها بسبب عائق اللغات الأجنبية ؟
هل سيتغيّر ملمح خريجي الجامعات العربية و معظمهم يملكون المعلومات و الشهائد فقط، و لا يمتلكون روح العلم و المعرفة و المثابرة البحثية ؟ لذلك ترى المدرّس العربي يكاد ينحدر إلى الأميّة بعد بعض السنوات فقط من تجربته المهنية.
هل ستصبح مجتمعاتنا متعلّمة أكثر و معدل القراءة في الوطن العربي (وِفقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن اليونسكو 2017)، لا يتجاوز رُبع صفحة لكل شخص في السنة بينما متوسط معدل القراءة في “إسرائيل” حوالي 40 كتابا في السنة ؟
هل سيقدر الطالب و الشاب العربي بصورة عامة على توظيف الساعات الطوال التي يقضيها على شاشة هاتفه الذكي في سبيل إغناء معارفه و توسيع دائرة اطلاعه على العلوم و منجزاتها بدلا من التشات الساذج و التسكع غير المجدي في دهاليز الأنفاق الجوفية لكوكب الويب ؟
و في الختام، لا يمكن أن أمنع نفسي من إبداء الملاحظتين التاليتين :
لا أساند شخصيا فكرة أن سطْوة الويب بكل ما يُتيحه من استخدامات متنوعة من المعرفة إلى اللعب إلى التعارف إلى التسويق… هي التي تقف وراء عزوف شبابنا عن القراءة و عن التعلّم النظامي و دليلي هو طوابير المواطنين الأوروبيين أمام المكتبات لاقتناء الكتب و مشاهد المسافرين المُمسكين بكتابهم في وسائل النقل المختلفة … و بالتالي فإن المشكل يكمن في كيف نُربّي أطفالنا على القيم البنّاءة أمام زحف التكنولوجيات الجديدة و كيفية الاستفادة من تطورها.
الجيل الخامس للاتصالات يطرح عديد الإشكاليات بالتأكيد لكنه يُشكل في نفس الوقت فرصة حقيقية أمام مؤسستنا التعليمية لتطور مناهجها و مقارباتها البيداغوجية و تمكين خريجي التعليم العالي من جوازات سفر علمية و معرفية تمكنهم من اقتحام سوق شغل مُعولمة و كذلك أمام مؤسساتنا الاقتصادية والتجارية لترتقي بتنافسيتها على الساحة العالمية … إن 65 بالمائة من التونسيين يمتلكون هاتفا ذكيا و تونس مُرتّبة من الخمسة بلدان إفريقية الأولى من حيث سرعة الولوج إلى الأنترنات قبل إيران و الصين و مصر و الأرجنتين… و هي مكاسب مهمّة لا بدّ من تثمينها و الاستفادة منها).