دفءُ نار

هل هناك أطفال موهوبون ؟ العِلم يجيبكم

ترجمة لحوار صحفي مع عالم الوراثة ألبير جاكار*

نشرت

في

ما يُبهرني شخصيا في رؤية ألبير جاكار لما يسمّى بالموهبة هو جُرأته العلمية وتفرّده برؤى تحليلية تخرج عن المألوف لتترك مجالا واسعا للتّنسيب وموقعا يليق بالأطفال المختلفين وكل أولئك الذين تضعهم التصنيفات العلمية المزعومة (كما يقول هو) على هامش الذّكاء والنّبوغ وتُعطيهم فرصة للتميّز  مهما كان ملمحهم ومستوى نتائجهم المدرسية وترتيبهم في المناظرات والاختبارات.

<strong>منصف الخميري<strong>

كثيرة هي الأدبيات التربوية والعلمية التي تحدّثت عن هذا الصنف من الأطفال، فيطلقون عليهم تسمية الأطفال الموهوبين تارة أو الأطفال ذوي الإمكانيات العالية enfants à haut potentiel  تارة أخرى أو كذلك الأطفال ذوو الذكاء المُبكّرprécoces . لكن عالم نفس النمو وأستاذ علوم التربية الأمريكي هوارد غاردنر شكّك في نهاية سبعينات القرن الماضي في إمكانية وجود الذكاء الواحد والكوني لأنه لا يعدو كونه “اقتدارا خصوصيا يتمثل في فهم الأشياء” وبالتالي لا مناص من تصريف الذكاء في الجمع في إطار ما أسماه بنظرية الذكاءات المتعدّدة … وذلك في 8 مجالات أساسية متنوّعة (الذكاء اللغوي والذكاء المنطقي الرياضي والذكاء الموسيقي والذكاء البصري الفضائي والذكاء البدني الحركي والذكاء العلائقي والذكاء البيئي والذكاء العاطفي).

وهذا نصّ الحوار الذي أجرته مجلة نوفيل أوبسرفاتور مع ألبير جاكار (أوت 2013).

الأطفال الموهوبون، هل تؤمنون بوجودهم، نعم أم لا ؟

لا طبعا، أنا لا اومن بذلك مُطلقا، وسبق لي أن تصادمت في هذا الخصوص مع عالم السلوكيات ريمي شوفان الذي نشر سنة 1975 مؤلفا أطلق عليه “النوابغ”. لا يمكن حسب نظري أن يوجد نوابغ وذلك لسببين : أولا في كلمة نوابغ surdoués هناك “أعلى” بمعنى متفوق وما يتبع ذلك من تصنيف و تراتبية، لكن النابغة هو أعلى من ماذا أو مِن مَن ؟ عندما نفكر بأن هذه التراتبية هي مبنية على مقياس وحيد وهو قيس حاصل الذكاء QI المزعوم، ندرك سريعا أن الأمر متعلق بفكرة مجنونة. قيس الذكاء ؟ ادعاء تحويل هذا الواقع متعدد الأشكال إلى رقم حزين ؟ هذا غباء. ثم لماذا مثلا لا نؤسس حاصلا للجمال QB ؟ عندما أقترح هذا، الناس يبتسمون هازئين. لكن على الناس الذين يردّون الفعل على هذا النحو أن يهزؤوا بنفس الطريقة من حاصل الذكاء.

والسبب الثاني ؟

آه نعم. في كلمة موهوب أيضا هناك “النبوغ” doué. أي المتمتع بموهبة. من وهبه هذا النبوغ ؟ الطبيعة بالتأكيد. الكنديون ابتدعوا كلمة douance بمعنى القدرة على النبوغ (قليلا أو كثيرا). وبما أن كل ما تمنحنا إياه الطبيعة يكون مسجلا في جيناتنا، فيجب الاعتقاد بأن هناك جينات مسؤولة عن الذكاء (جينات للذكاء). بينما ليس هناك إلا جينات للغباء تدمر العقل. لكن الغباء ليس نقيض الذكاء لأن الغباء مرض. بنفس المنطق هناك قنابل “شريرة” أو كريهة باستطاعتها على سبيل المثال تدمير قصر فرساي ولكن لا وجود لقنابل “طيبة” تكون قادرة على إعادة بنائه بواسطة جينات الذكاء فقط. الجينات ليس لها أي علاقة بترابطية توصيل الخلايا العصبية. 

هناك على كل حال – وهذا شيء بارز  في المدرسة مثلا- تلاميذ لامعون أكثر من غيرهم ؟

نعم لقد قلتها بنفسك : لامعون. لكن هل يعني ذلك أنهم أذكياء ؟ الذكاء هو مَلَكة الفهم. بينما أن تفهم شيئا ما بشكل حقيقي هو دائما مسار طويل. الذكاء الحقيقي هو أن تفهم كونك لم تفهم. و المثال النموذجي هو إنشتاين عندما كان تلميذا بنتائج مدرسية هزيلة لم يكن بالتأكيد طفلا موهوبا ولكن أتصور أنه لا أحد باستطاعته الادعاء أنه لم يكن ذكيا. لكن أن نفهم كوننا، “لم نفهم بعدُ” هو شيء أكثر ذكاء من الاعتقاد بأننا فهمنا. وهي خاصية الطفل الذي يزعم أنه موهوب. هذا الأخير يتميز خصوصا بالثقة في النفس وبالتعوّد على فرض نفسه أو القدرة على الظهور. هي ببساطة مسألة مغامرة اجتماعية.

حدث ذات مرة أن ألقى عليّ شاب عمره 14 سنة في إعدادية “ذات منسوب عال من المشاكل” بالضواحي الباريسية  السؤال التالي سيدي، هل يستطيع المرء أن يصبح عالم جينات إذا كانت لديه سوابق عدلية ؟

سؤال أربكني جدا. هذا الشاب لم تكن لديه سوابق عدلية… لكنه كان يدرك أن ذلك آت لا محالة. لم يكن تلميذا متفوقا أو لامعا لكنه توصل إلى فهم العديد من الأشياء. الذكاء هو دائما تتويج لمغامرة فردية، مضمّخة بمؤثرات خارجية، وهو أمر لا علاقة له بعلم الجينات أو علم الوراثة. 

لكن كيف نحدد الذكاء وما هي طريقة تشكّله ؟

يمكن أن نربط الذكاء بعدد التشابكات العصبية ؟ أو الترابطات بين الخلايا العصبية ؟ بينما هناك حوالي 100 مليار من الخلايا العصبية مترابطة من خلال حوالي 10 ملايين من مليارات التشابكات العصبية. يتضح إذن للحين أن علم الجينات يعجز تماما عن التدخل في كل هذا. 30 مليونا من التشابكات تنشأ في كل ثانية، فكيف تريدون من البرنامج الجيني أن يراقب ظاهرة على هذا النحو من التعقيد؟ وبالضرورة فإن تشكل هذه التشابكات العصبية محكوم بالمعلومات والمؤثرات المتأتية من الخارج. و بالتالي فإني أعتقد مثلا في هذا الخصوص أن المداعبات المتأتية (أو لا) من الأم تلعب دورا هاما في بناء الذكاء وتشكله.

هل تقصدون أن الأطفال الموهوبين هم الذين تمتعوا بملاطفات من أوليائهم بشكل أكبر أو أفضل من نظرائهم ؟

ذلك مجرد وجه من وجوه المسألة. بشكل أعمق، أعتبر أن الأطفال الذين يتم وسمهم بالموهبة هم أطفال أسرع من الآخرين في علاقة ببعض المواضيع. و لكن السرعة هي مجرد مكون من مكونات ما نسميه بالذكاء. ليس ثمة أي داع للاعتقاد أنها المكون الأكبر. ما الفائدة من فهم شيء ما وتمثّله في سن الـ13 قبل سن الـ 15 أو الـ 18 ؟ المهم هو أن ننتهي إلى الفهم، وبصفة عامة عندما تقول “سريعا” قد يعني ذلك “سطحيا”، الموهوبون هم أناس سطحيون.

للأسف، هنا كما في مناطق أخرى من العالم، نحن نستسلم لهذه الموضة العبثية : تثمين السرعة، المسيطرة على المجتمع الحالي. لنتوقف عن الخلط بين السرعة والتتويج أو المنتهى لأننا نعرف منذ زمن بعيد أنه لا فائدة من الجري… أنا الذي أدرّس علم الجينات لطلبة السنة الأولى طب، أكتشف على سبيل المثال أن الفتيات (في المعدّل) أفضل من الذكور. هل يعني ذلك أن الذكور أقل ذكاء ؟ أعتقد أن هنالك تفسير منطقي أكثر : في هذه السنّ بينما تكون الإناث بصدد التفكير بدراستهن يكون الذكور بصدد التفكير بالفتيات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ولد ألبير جاكار في ديسمبر 1925 وتوفي يوم 11 سبتمبر 2013 بباريس.

من مؤلّفاته : الله؟ تربية بدون سلطة ـ صحراء ـ سعيد مثل طفل يرسم ـ أتهم الاقتصاد المنتصر ـ إليك أنت ايها الذي لم تولد بعد ـ محاولات في صفاء الذهن ـ  أنا من أين أتيت ؟  أنا والآخرون ـ  طوباويتي ـ  بعض الفلسفة لغير الفلاسفة ـ  في تمجيد الاختلاف…

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version