جور نار
وداعا أيها القيصر
نشرت
قبل 11 شهرفي
من أمارات المعالم الجميلة أنها حين تزال ويفجعك نبأ زوالها ، تختلط عندك المفاجأة بعدم التصديق، بإحساس بتفاهة العالم، برغبة في الصحو من كابوس قليل الذوق … يقع لنا ذلك عندما نفقد عزيزا أو نجد خلاء بلقعا مكان بناية أليفة أو شجرة عمرها يزيد عن القرن … قد نغضب ونسبّ سلالة الهمّج الذي ارتكبوا الجرم، ولكن إذا كان القدر هو الجاني فلا تملك إلا أن تقول مع أبي الطيب: وتقتلنا المنون بلا قتال …
في البشر هناك العامّة والخاصة، هذا بديهي … ولكن تعريف مشاعرنا لهؤلاء الخاصة يختلف تماما عن تعريفات الأكاديميين ومفوّهي القنوات التلفزية … مشاعرنا الصغيرة قد لا تضع ضمن خاصتها الساسة والدكاترة ورجال الأعمال وصانعي الرأي العام … بل يحوي جرابها فقط أشرطة وجوه وأصوات لأحبّة من العائلة، وصديق أو اثنين من رفقاء مرحلة ما، وحفنة من نجوم فن ورياضة كبرت معهم ذائقتنا وقاماتنا وأيامنا وأحلامنا والتصقت بذكراهم التصاق الزهرة بعطرها، وعصفور الخطاف بلونيه الأسود والأبيض … وأيّ خدش بهذه الأشرطة ينجم عنه وجع دفين مبرح بأعماق القلب، وأي اختفاء لصورة من صورها يعادل انطفاء قنديل في طريقنا الذي نسلكه في ليالي الزمن …
نحن أيضا كنا شبابا … ومثلما أجيال اليوم لها نجوم قد تجد فيها نفسها، فقد كنا أيضا نجد أنفسنا في نجوم عصرنا البعيد … الذي من أنصار أم كلثوم، والذي مع عبد الوهاب، والذي لا يشجيه سوى فريد على عوده الباكي … أنا كنت أولا من عاشقي العندليب، وبعدها بقليل أصبحت حليميا فيروزيا، وبقيت هناك … أما في الكرة، وما المشكلة في الغرام بالكرة؟، فكنت أصغر من أن أُعجب بالملك بيليه، وأكبر عمرا من أن أهيم بمارادونا … أنا ابن شباب السبعينات، وفي تلك المرحلة طغى اسمان لا ثالث لهما: الهولندي يوهان كرويف، والألماني (الغربي وقتها) فرانز بيكنباور …
ولأسباب خاصة بنا نحن العرب، كنت من كارهي كرويف رغم انبهاري بفنّه الكبير … فقد أشيع في تلك الأيام أنه من أنصار ذلك الكيان الغاصب وأنه في صورة رفعه لكأس العالم سيحملها إلى تل أبيب إلخ … وقد تبين فيما بعد زيف هذه الإشاعات، ولكن سبق السيف العذل … إذن كان هذا الهولندي الطائر فلتة هجومية ومهارية لم أر مثلها إلى اليوم … يضاف إلى ذلك أنه يتحرك ضمن فريق فاجأ العالم بأسلوب لعب فريد (الكرة الشاملة) وقدرة افتراس لا تبقي و لا تذر، فضلا عن أنه من بلد ضئيل جدا و لا ماضي له ولا أمجاد في هذه اللعبة … أجاكس أمستردام السبعينات كان مثل الحاصدة الدارسة لا يوقفه كبير ولا صغير … لا الإنتر ولا اليوفي ولا الريال ولا برشلونة ولا مانشستر ولا أي واحد …
في مونديال 74 كان منتخب هولندا عبارة عن “انتداب” جماعي لمعظم عناصر أجاكس، بمن في ذلك المدرب العظيم “رينوس ميكلس” … ودخل الدورة يضرب فيصرع، عصف بكافة دول أمريكا اللاتينية (بمن فيها البرازيل لتي سحقتنا في الوديات وقتها برباعية وخرجنا مسرورين لأن محيي الدين سجل لهم هدفا) ومعها كل من اعترضه سواها … وبسرعة رشح الجميع “البرتقالة الميكانيكية” (المنتخب الهولندي) لترفع التاج الأغلى والأعلى … وبما أننا كما قلت كنا ـ وما زلنا ـ فلسطينيي الهوى، فقد التفتنا إلى بعضنا البعض وقلنا: من يوقف هذه الكارثة؟
وجاءت الإجابة في النهائي على أيدي ـ وأرجل ـ الألمان الغربيين، أي الوحيدين الذين لم يرعبهم الخطر القادم من الشمال … في تلك المباراة، استعرض كرويف كل قوّته من البداية وما هي إلا دقائق حتى تلاعب بكامل ألمانيا وأحرز ضربة جزاء تحوّلت إلى هدف سبق وطريق يبدو سهلا للفوز بالكأس … وهنا انتظمت الماكينة الجرمانية ووقفت سدّا أصمّ حيال الإعصار … تسعون دقيقة من صراع ملحمي أشبه بالحرب، مصداقا لنظرية “ميكلس” ومفهومه القتالي لكرة القدم، و تصويرا لروح ثأرية من هولنديين لم ينسوا ما فعله بهم عساكر أجوارهم من مجازر قبل 30 سنة ذات حرب عالمية … وفي المقابل، كانت ألمانيا المنزوعة السلاح تريد إقناع الجميع بأن لديها حججا أخرى غير الرصاص والدم … وأنها اليوم صارت قلعة سلمية للمعرفة والعمل الدؤوب والإرادة التي لا تلين…
وكان رمز هذه الكتيبة الصامدة في البداية، وكاسرة الغول الهولندي في المنتهى، رجل طويل القامة أنيق الحركة وسيم الملامح … مركز بيكنباور الرسمي هو الدفاع وقلب الدفاع، غير أنه كان أولا يدفع خطر المنافس بنجاعة وذكاء دون خشونة يتسم بها عادة أصحاب تلك الخطة … وكان ثانيا طاقة انتقال لا تكلّ و لا تملّ، فهو في الدفاع وفي الهجوم وفي التنسيق من الوسط وفي المحاصرة وفي أي متر من الملعب … وكان ثالثا منارة لزملائه وقائدهم و نائب المدرب على الميدان، فهو الذي ينظم الهجمات، وهو الذي يشير بالتراجع، وهو الذي يرفع المعنويات، وهو الذي يغلق المنافذ أمام الخصم … وعند تصفيرة الظفر الأخيرة، كانت وجوه الاثنين وعشرين لاعبا منهكة إلى أقصى الدرجات، ونظرات بعضها تقول لم يذهب تعبنا سدى، والبعض المقابل يقول من حظكم أنكم نجوتم منّا …
صورة “الكايزر” وهو يرفع الكأس تحت انتشاء الشعب الألماني ومعه مئات الملايين في العالم من محبي اللعبة … وأيضا من محبي قيم وأخلاق جسّدتها ألمانيا في تلك الدورة، عكس العنجهية والغرور اللذين لازما كرويف ومنتخبه في سنوات السطوة تلك … الصورة رسخت في الأذهان إلى الأبد … ولكن الأقرب إلى قلبي صورتان ربما أقل شهرة ولكن أكثرها دلالة … الأولى حصلت سنة 2001 بملعب المنزه عندما زار فريق “بايرن مونيخ” تونس في مباراة ودية ومعه بيكنباور مدربا … بين الشوطين وبعد تكريم النجم الكبير، صعد بيكنباور إلى مكانه بالمنصة الشرفية مارا بمنصة الصحفيين … فانقضّ عليه معظم صحفيينا طالبين منه “أوتوغراف” أو صورة معه بأنامل الراحل حبيب هميمة … ولبّى الرجل طلباتهم برحابة صدر … وقد كنت تقريبا الوحيد الذي بقيت في مكاني لا أعرف ماذا أفعل وأنا غير معتاد على تلك المواقف … وما إن أتم بيكنباور مشواره مع الزملاء وواصل طريقه حتى التفت إلينا ـ أحد الأصدقاء وأنا ـ فحيّيناه بابتسامة وانحناءة رأس كما يليق بمقام قيصر ملك مثله … فما كان منه إلا أن ردّ علينا بابتسامة أعرض وانحناءة رأس مماثلة وكأنه فهم حبّنا وتقديرنا لأسطورته، منذ صبانا الأوّل …
أما الصورة الثانية التي بقيت في نظري مقترنة ببيكنباور القائد والمثل الأعلى … فقد تم التقاطها له في ملعب مكسيكو ذات مونديال عاصف آخر ولكن ضد إيطاليا … أصيب أثناء اللعب إصابة بالغة في كتفه وكان من المفروض إخراجه وحمله إلى المستشفى … إلا أنه رفض ذلك واكتفى بـ “إيشارب” لإسناد كتفه المكسورة … واستمر يلعب ويقاتل بيد معلّقة والعالم كله منذهل لهذا العزم البطولي الذي قل نظيره … ويقيني أن صورة كهذه تجاوزت إطار الكرة والملعب، لتكون ترجمانا لألمانيا البلد الذي نهض من ركام الهزيمة والجراح … بعد الحرب العالمية الثانية …
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 20 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 20 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل يوم واحد
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يومين
الصوت المضيء
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 4 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 4 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 4 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟