في صائفة الخامسة “ابتدائي” حدثان هامان عاشهما الحوش …اولهما زفاف ابنة عمي الوسطى (جميلة رحمها الله) وثانيهما خطوبة اختي الكبرى، سعيدة اطال الله في انفاسها …
في عرس ابنة عمي وهي اول مناسبة فرح في حوشنا تجند الجميع للحدث ـ وهذه احدى مزايا عائلاتنا في الحوش ـ في مناسباتنا الكبرى وفي الاعياد ايضا سلوكيات اهل الحوش تصبح رائعة للغاية … انذاك ينسى الجميع كل خلافاتهم ومشاحناتهم ويتجندون للحدث … واذكر جيدا من ضمن تلك الخلافات التافهة جدا في مضمونها ولكنها المعبرة جدا عما يعيشه سكان الحوش من تضايق وتوتر من ابسط الاشياء .. اتذكر ذات يوم عشية صيف حمل ابي زاده وزواده (سطل وجمّاعة) لجمع “كعبات” هندي …بعضه اخضر كما احبه انا والبعض الاخر اصفر، اي مكتمل النضج، كما تحبه والدتي … ورغم امتلاك كل عائلة في حوشنا لـ “طوابي” تابعة له ومقسمة بعدل، فان سي محمد بدا له يومها ان يجمع الهندي من طابية مشتركة بين الجميع …
دخل سي محمد مزهوا بما جناه من الطابية المشتركة …نظر له “سيدو” (اخوه الاكبر) ولم يرق له هذا الصنيع فقال له وبصوت ساخر وهادئ: “علاه يا محمد ما عجبتك كان هاكي الطابية يخخي جنانك ناقص طوابي والا ما فيهمش هندي؟ … وكعادة سي محمد، اللي ما يقبلش كلمتين خوات، نظر له بعين حادة (وهو مكسبه الوحيد لان عينه الاخرى فقدها منذ صغره بعد ان اعتدت عليه امه للا امنيية وليست منية، بمنكبها دون شعور) …نظر ابي الى اخيه الاكبر وزمجر قائلا: “حسدتني يا سيدي في عقاب كعبات هندي؟؟؟ طيب اهو تو نوريك فيهم” …طرح سي محمد كل ما جمعه ارضا وانهال عليه رفسا بساقيه، هاذي تنفع هاذي تضر حتى تركه “قد قد هو والقاعة” والقاعة تعني الارض …
ضحك عمي محمود بكل سخرية وشماتة وانتهى الامر …والدي رحمه الله بقدر ما كان سريع الغضب حاده …بقدر ما كان في المقابل سريع النسيان لا يحمل حقدا لاحد …اتذكر دائما ان عمي في الغد قدم من سوق الغلال بساقية الزيت من عمله (كدلال) وهو يحمل كعادته بعض الكعيبات من الدلاع والبطيخ والفقوس التي يجمعها من كبار الفلاحين كجزء من حقوقه وهو “يدلل” على بضاعتهم .. قدم ونادى للجميع، “ايا ايجاو” ….كان كل مرة يقسم المحصول مجانا على العائلات الثلاث …وكان يوكل الامور لوالدتي حيث يرى فيها الحاكمة العادلة في عملية القسمة …طبعا وافراد الاحزاب في حوشنا _ كيار الفتيات وخالتي وزوجة عمي الاوسط الذي كان “اينابت” inapte )غير كفيء في برج المراقبة (لانه كان شبه ضرير بالكاد يرى …
كانت هذه الجموع تحتشد لتراقب العملية انطلاقا من confiance c’est bien contrôlé c’est mieux …. نعم للثقة ولكن وجب الحذر .. ثم يكتب اسم رب كل عائلة في قرطاس صغير ويطوى بعد ان يخرج سي كريم خارج قبة برلمان العملية ويقع طي هذا القرطاس ثم ينادي احدهم ان “ادخل يا عبدالكريم سايي” … في خلوتي كنت امني النفس بالكدس الفلاني ..ربما لوجود فقوسة اعجبتني لا غير رغم ان امي كثيرا ما كانت تردد “بين الماء والفقوس كان تحريك الزروس” وادخل واقوم بوضع كل قرطاس على كدس من الكدوس … وكل واحد وسعدو يا وعدو …هل لاحظتم الشفافية والديموقراطية درءا لكل فساد او شيطنة …؟؟؟؟ لا ارهاب ولا ترهيب ….يشبه كثيرا تونس ما بعد 14 جانفي وحتى ما قبلهK لكن في الهم عندك ما تختار _….
يومها وبعد ان تمت القسمة نظر عمي الى ابي وقال …اش قولك يا محمد خويا موش هالبطيخة خير من كعبات الهندي المحنونين ..؟؟ ابتسم ابي وقال وهو ينظر الى البطيخة بنهم …لا، هايل ما عندي ما نقول …ربما هو تذكر انه عندما خطب امي (وكانت كل اعين ابناء اعمامها ‘بروجكتورات’ عل جسد الوالدة تكتفي بمتعة الحملقة …ومن يقدر على اكثر من ذلك وابوها بشاربيه وبكاريزما يوسف وهبي …تخاف منه وتهابه صقور العشيرة فما بالك بصبيانهم لن يتجرأ احد على التحرش بالحوهرة المصونة والدرة المكنونة محسونة …دعوني اهمس للعدول، كتاب قران معظم الزيجات _…بجاه مولاكم …. تخلصوا من هذا التوصيفات التي اسمعها منذ قبل ميلاد المسيح في كتابة عقد قران يوم الاشهار ..يا الله اعجزت قريحتنا الى ذلك الحد…..؟؟؟ ابناء عمها كان كل واحد منهم يمني النفس بالحصول عليها يوما ما نظرا إلى جمالها وحذاقتها كما يقول عنها كل من يعرفها …اما انا فهي عندي اجمل الجميلات واكثر النساء “حذاقة” اي حكمة .. لا شحا …
ربما تذكر ابي عندما خطبها وفاز بقصب السبق وتزوج بها وهو ابن عمتها، قولته الشهيرة عنها ( مختالا فخورا): بطيخة .في جدر العيايدة، قفزلهم بيها بوك محمد قطاطة … وبقي حتى يعد عشرات السنين من زواجهما اكبر حزار على “بطيخته” من جميع الاعين وخاصة من اعين ابناء عمها …
اعود لعرس ابنة عمي الوسطى جميلة …هي كانت اجمل بنات عمي الثلاث واكثرهن طموحا لرجل “يملا عينها”_بكل المفاهيم … الا انها كصبية تنتمي الى عائلة فقيرة ما كان للحظ ان بيتسم لها ولمطامحها …كانت عينها كبيرة _وحظوظها صغيرة الى ان تقدم بها السن (بعد العشرين) … اخيرا كان عليها ان تقبل بالذي تقدم اليها هو يفتقر انذاك للماديات وحتى لقبه ما كان يرضيها، ولكن ميزته انه شاب ووسيم وعندما سألها اعيان الحوش عن رأيها في هذا الخطيب اجابت:على كيفو ..هو خير من غيرو آش ما زال في العمر …رغم ان اهله سحاق ويظهرولي عقارب يعطيهم عقرب …ووالله ما ان اتمت كلامها حتى صاحت بكل حرقة “عقرب عقرب” …نعم لدغتها العقرب …في الحياة هنالك اشياء لا تخضع لاي منطق وستكتشفون العديد منها في القادم ..المنطق الوحيد (اقدار ) …
في عرس جميلة كنت صغير السن ولعل ما طبعته ذاكرتي انذاك ما لذ وطاب من مأكولات… ياشي دواور ياشي سفنج ياشي هرقمة … في كلمة، زردة قمقومة …اذكركم بأني ولحد يوم الناس هذا لم اكن اكولا بالمرة …كما تقول والدتي عني (انت اللي يسمعك تحكي على الماكلة يقول الدنيا خلات …وانت تاكل كان بعينك …وقتاش ماشي تصير تاكل وتربي لحمة وشحمة كيف اندادك ..را ك جلدة على عظمة !) … في ذلك العرس ايضا كان اول عهدنا بآلة التصوير …_المصورة ابن خالي رحمه الله جلبها لاخذ صور تذكارية للعرس …وقتها ولاول مرة في حياتي وقفت مع العائلة لاخذ اول صورة بالابيض والاسود طبعا …عندما اعود اليها الان (وستجدونها موثقة في النسخة الورقية) احس وانا الذي ادرس طلبتي تقنيات الصورة انها على بساطتها من اروع الصور …بل واقولها دائما لطلبتي …التصوير تقنيات نعم ولكنه في باطنه اعمق، لان الصورة قد تكون جميلة تقنيا ومطابقة لقواعد التصوير ولكنها لا تعني شيئا اذا كانت لا تحمل رسالة ..وهذا هو سر جمال الصورة الاولى في حياتي انها كنز من الرسائل …لعلني اوجزها في (هي وثيقة تاريخية لزمن ما، في وقفتنا …في اصطفافنا …في اعين سي محمد الرقيب …في توزيع الفتيات والفتيان … اي انها ديوان فني وتاريخي لعصر ما) …
الحدث الثاني في تمام سن الخامسة خطوبة اختي الكبرى …سعيدة … اختي الكبرى و كسائر صبايا الحوش وهن اربع …. لم تكن “سعيدة جدا” بعرس ابنة عمها …هي تكبرها عمرا نعم …ولكن سعيدة وصلت الى سن التاسعة عشرة ولم يتقدم اليها اي خطيب ..؟؟؟ يا لهول المصيبة خاصة وهي اجمل واصغر من بنات عمها …وحتى الشاب الذي احبته في مراهقتها وهو عطار العائلة لم يكن يقنع العائلة ماديا … لذلك كان كل عرس لاندادها في الاهل او الاقارب يمثل بالنسبة لها وللاخريات نكبة … وحتى ضحكاتهن البلاستيكية لا يمكن ان تخفي ما في صدورهن من حسد لهن و رغبة في نيل نصيبهن والانعتاق من كهف العائلة … نعم العائلة انذاك كانت تمثل بالنسبة للفتاة سجنا فحياتهن يوميا شؤون المنزل المرهقة … ولا دخلة ولا خرجة، النسمة لا …ورغم ذلك تراهن يتأففن عند شكواهن من هذا السجن المقيت ويضفن ( ولا محمود لا مشكور) خاصة مع امهات من نوع والدتي اللواتي يحرصن على تعليم بناتهن كل فنون الطهي وكل شؤون المنزل من الفه الى ابعد من يائه …وكانت كل مرة تعبر فيها اختي سعيدة عن ضجرها من تلك الاشغال الشاقة تنهال عليها عيادة كشلال لا يتوقف: “سكر عليا جلغتك ولم عسلك ماخذة الرجال ساهلة هي ؟؟ حتى تتعلموا اش يلزمها تعرف المرا …تحبوهم يقولو علينا لا ترحم من ولد ومن وربّى؟ تحبونا نقعدو لدعا الشر .؟؟؟ وتتمتم سعيدة بكلمات غير مفهومة الاكيد هي من نوع “وقتاش يحي هالراجل وترتاحو مني ونرتاح منكم” …
ذات يوم عاد سي محمد الى المنزل مغتبطا على غير عادته …واشتمت عيادة بحدسها المرهف ان غبطته وراءها اشياء وكعادتها كتمت الاسئلة الكامنة في صدرها …واجلتها الى ركن الاسرار في بيتنا والى توقيته …النساء اغلبهن في ذلك الزمن يعرفن من اين تؤكل لا فقط كتف ازواجهم بل كل شيء فيهم …فيحددن لموعد الاستفراد بهم (الليل) ولمكان نفس الاستفراد عندما تنفرد بكل ما بقي من عقله وهو تقاسمه فراشه …انذاك فقط وفقط وفقط يمكن لهن ان يطلبن من المغرر بهم “حليب الغولة” … وانذاك فقط وفقط وفقط يصبح سي السيد طيعا لينا لا يرد (بفتح الياء) اي طلب لشهرزاده حتى ولو كانت الواحدة منهن شمطة الشمطات …ليلتها استفردا ببعضهما وانبأها برغبة شاب في خطبة ابنته الكبرى وبكل سعادة وحبور ..ابي كمعظم الرجال منذ الجاهلية… ومازات نوعيتهم لم تنقرض بعد ….لا يحبون كثيرا البنات …..واذا تخلوا عن الوأد الفعلي فانهم عوضوه بالوأد الافظع: المعنوي … وابي احد هؤلاء بل وصل به الامر كلما توفيت واحدة من اخواتي البنات (وهما اثنتان رحمهما الله توفيتا و هما رضيعتان) الى رد فعل كم هو مقيت ….كان يشتري السمك عنوة ليشويه احتفالا بما حدث وهو امر تستعيذ فيه امي من الشيطان الرجيم لمثل هذا الصنيع لان شواء الحوت في حدث الوفاة يعني طربا بالحدث …غفر الله لهم جميعا …
ابي كان سعيدا بخبر هذا الشاب الذي لم يلتق يوما اختي ولا يعرف عنها شيئا باستثناء ان اباها هو ابن عم ابيه …سعيدا كان ابي لاسباب عديدة اولها على الاطلاق ان هذا الشاب لم يلتق يوما بابنته (اطمأن هكذا على ان ابنته ابنة اصول) ثانيهما انه بزواجها سيتخلص من عبء مصاريف فرد من افراد العائلة وهو لم يدرك بعد ان الزواج بكل مصاريفه كم هو مكلف …. وثالث اسباب سعادته انه …ولد قطاطة (شوف يا سيدي هاكي العائلة الكبيرة التي كان يفاخر بها ابي كما يفاخر اي رجل انذاك بلقبه وكل قرد في عين بوه غزال) …وكأنه يتجاهل ان عائلتنا هي عائلة عادية في حسبها ونسبها كسائر العائلات في صفاقس اي هي (وكما تنبزه امي) ليست كعائلات الشرفي والمنيف والشعبوني والسيالة حسبا ونسبا وتضيف بصوت عال: و ما تنساش بن عياد زادة (وهو لقب عائلتها) …
الا انه كان يقهقه ملء شدقيه وهي تذكر هذا اللقب الاخير ويستنجد بابن عمه (الاستاذ الشيخ محمد قطاطة وهو احد اساتذة العربية بالحي الزيتوني، كما أنه خريج التعليم الزيتوني بجبته الفاخرة وسيارته الفاخرة انذاك بيجو 203 رحمه الله) يستنجد به وهو الوحيد في عرشيْ قطاطة وبن عياد الذي وصل الى ذلك المستوى التعليمي، لان من تبقى لم يتجاوز افضلهم الرابعة ابتدائي في زمن الامية والجهل والعنطزة … يستنجد والدي ليفحمها بـ “عندكم في آل بن عياد شكون كيف الشيخ محمد ؟؟؟” … وللامانة كانت والدتي تجل هذا الشيخ اجلالا كبيرا لا فقط لعلمه بل لدماثة اخلاقه وهدوئه ورصانته وهي صفات قل ما توجد انذاك في المجتمع الرجالي حيث علو الصوت والسب والشتم وحتى الضرب هي عناوين رجولة …
كانت ترد عليه: “الشيخ محمد هاكا امو ولدتو وبعد هز ربي متاعو ماكيفو حد، هاكا دقلة العرجون متاع القطاطيين … اما البقية صيش “…وماكانت امي لتقول له مثل هذه السبة لو لم تكن سيدة الموقف زمانا ومكانا …..يبتلع سي محمد ما تبقى من ريقه ويواصل: لا علينا …الشاب هو محمد ابن المرحوم محمود ولد عمي …وتنفرج اسارير والدتي ابتهاجا …انه يتيم الابوين ووحيدهما …وفي الغد وهي تسر لاختي بالخبر تبدأ بالقول: “ما نعرفش منين جاتك يا بنتي دعوة خير ليلة القدر …جاك واحد لا ام لا بو لا اخت لا خو” …. امي كانت مدركة تماما لصعوبة مراس ابنتها التي هي باختصار نسخة من ابيها، لا في شكلها فقط بل وهو ما كان يخيف امي في طباعها (عنيدة سريعة الغضب) ولكنها وتماما مثل سي محمد لا تحمل ضغينة او حقدا …
تهللت اسارير وجه اختي بفرح مشوب بحذر وبرغبة جامحة في رؤية هذا الفارس الذي انتظرته دهورا (وهي انذاك في سن التاسعة وعشرة كما قلنا) عله يكون “مزيان وشباب”…ولا تسألوني عن فرحتها يوم زارنا مع ابن اعمه الاكبر منه سنا، الحاج علي وزوجته رحمهما اللهن ليتقدما رسميا لخطبة اختي …لا تسالوني عن تلك الصبية وهي تقدم طبق القهوة لضيوفها المبجلين وعيناها تبحلقان لاول مرة في وجه فارس احلامها .. كادت تسقط الطبق من فرط ما رأته ..شاب وسيم للغاية يصغرها بسنة وفي غاية الادب والحشمة …اية اقدار واي كم من السعادة لم تستطع تحمله …كان كل جسدها الممتلئ يرقص ويغني ويقول اشعارا ويكتب دواوين العشق والوله والشبق من اول نظرة …وكان هذا الشاب اليتيم الابوين و المقطوع من شجرة لا حماة تعكر صفوها ولا اخت راجل تنكد عليها معيشتها ..كان هذا الشاب ليس اقل منها سعادة …كيف لا وهي اولا ابنة عمه وثانيا المرأة الكنز جمالا بمفاهيم الجمال انذاك (المرأة المكتنزة والجميلة المحيا) والراقصة في مشيتها يفعل اكتناز قطبها الفوقي وقطبها الخلفي _ تماما كما يصفها نجيب محفوظ في اغلب رواياته او كما قرأناعن مثيلاتها في بداية مراهقتنا في كتاب الروض العاطر في نزهة الخاطر (وللاثنين عودة) …
اشتبكت الاعين واشتبكت النظرات ووصلت الرسائل المشفرة الى كليهما …وقضي الامر…. .وتنحنح الحاج علي بعد ان فهم من الشاب محمد الاعجاب وبعد التأكد من همس بينهما لم نع منه شيئا وبعد ان خرجت اختي الى وسط الحوش تتلصص بالسماع عما سيحدث …تنحنح الحاج علي وبسمل وحمدل ثم نطق: “يا بن عمي محمد، ولد ولد عمك محمود راهو راغب في بنت عمو واحنا جيناكم طالبين راغبين في بنت الحسب والنسب وعلى كل حال الماء اللي ماشي للسدرة الزيتونة اولى بيه وزيتنا في د قيقنا” …تصبب جبين ابي عرقا وجمع شتات عبقريته في التعبير وتنحنح ثم قال …يا ولد عمي العين ما تعلا على الحاجب اما انت تعرف الشرع يلزمني نشاورها …ضرب الحاج علي بلطف على ركبة ابي واجاب: “يا ولد عمي احنا عندنا بنات يعصيو كلام والديهم ؟؟؟” … لكن ابي لبس جبة المتقين واصر على موقفه قائلا: “ما عندناش يا ولد عمي اما اللازم لازم” …ثم صاح دون انتظار اي تعليق للحاج علي: “يا سعيدة وينك ؟”… وبسرعة تفوق سرعة الضوء دخلت سعيدة على عجل وهي تتمتم: “انعم يا بويا” …
عرض الوالد عليها الامر فطأطأت رأسها (زعمة زعمة طاعة وحشمة) وقالت بارتجاف لا يمكن ان يكون الا من نوع: “توة هذا كلام يا بويا؟! …هذي اللحظة اللي اغلى عندي من كل الدنيا وما فيها) … واسرعت بعرض محفوظات بنات ذلك الجيل: اللي تعمل انتي مبروك يا بويا، انا نلوي العصا في يدك؟؟ … وصاح سي علي آهي بنت الاصول اية ان شاء الله مبروكين على بعضهم …اوكى توة بعد نحكيو في الشرط …وهنا تدخلت الحكيمة والدتي لتفول: “يا سي علي اللي يجيب ليلو واللي يخللي ليلو” … وللامانة والدتي كانت صادقة في ما قالت لان هذه العبارة يرددها الجميع في البداية ثم بعد “ما يوحل المنجل في القلة والفاس في الراس” تتهاطل الشروط على العروس المسكين ويذعن لكل الطلبات …
وتهللت اسارير الفرح لدى ذلك الشاب لانه صانع مبتدئ في صناعة الاحذية وتهللت اسارير الفرح لدى اختي خوفا من شروط قد تنهي الموضوع او تؤجله الى زمن لا ترغب في ان يكون بعسر الجبال …وهنا تدخلت للة البية امرأة الحاج علي لتختم: “هو ولد باب الله اما بصنعتو وما تخافوش عليه والراجل ما يتيعبش خاصة كيف يكون كيف سلفي محمد اطمانوا ماعندوش لا زايد ولا ناقص، وباش ما نطولوش المشاور والمصاريف عندها كل موسم قفتها والعرس عام الجاي ان شاء الله “…وردت امي: اللي كاتبلهم ربي يصير …
هكذا كانت الامور تسير في ذلك الزمن بالنسبة لجل العائلات المعوزة وكان كلما تقدم احد لخطبة صبية منها يعلق جل المتدخلون في “مجلس الامن” (الجيران والاهل): سكّد سكّد بالشدة على الكاف، “اما خير والا تبورلكم” …_ اما اذا حدث ان توج الزواج بفشل مريع في الاختيار وهو السائد في اغلب الزيجات فان نفس مجلس الامن يجمع على (هاكا اش هزت مغرفتها) اي ملعقتها … وكم من ملاعق لعقت ومحقت سعادة العديد والعديد والعديد من الفتيات …. خاصة اللواتي اردن ان يخرجن من سجن الاب او الاخ او العشيرة فوجدن انفسهن في سجون اكثر فظاعة وبشاعة وبؤسا وتعاسة …
يااااااااااااااااااااااااااااااه كم كان “كوبل” اختي وزوجها رحمه الله مختلفا عن عديد الكوبلوات، رغم عناد اختي وغيرتها عليه وكم كان هو “مؤخرة ميتة” في مجابهة كل العراقيل، وكم كان نابضا بحبه للعمل ولعائلته ولي شخصيا …..وكم احسست باليتم وهو يعود من فرنسا في تابوت بعد عملية زرع كلية لم تثمر الا نهايته …