عبد الكريم قطاطة:
حياة الواحد منّا كم هي شبيهة بالجغرافيا… لتصبح بعدها .. تاريخا …كنت وانا تلميذ بقدر ما تغريني دروس التاريخ وتُنشيني …بقدر ما اتأفف من الجغرافيا في كل مراحل تعلّمي ..
كنت انزعج من الحقبة التي درسنا فيها سنة الباكالوريا، التكوين الجيولوجي للطبقات الارضية والمناخات بانواعها الى آخر المطاف مع القوى العظمى اقتصاديا وتلك الارقام المهولة التي ينهال بها علينا سي محمد الصالح الهرماسي ..هو استاذنا في التاريخ والجغرافيا ..ولأننا كنّا مهووسين به كأستاذ رائع الى حد الدهشة كنت أسائل نفسي ..اما كان من الاجدر ان يختصّ الهرماسي بالتاريخ ولا شيء غيره ..حتى لا نتأفّف منه وهو يتحوّل فجأة الى استاذ جغرافيا … ولم ندرك الاّ في سنّ متقدمة انّ الجغرافيا التي لم نحبّها هي اسقاط لحياة الانسان ولتاريخه …الم ندرس في محاورها كل ما يتعلّق بالزلازل والبراكين والرياح، الشلوق واللي موش شلوق ؟؟؟ الم ندرس السلاسل الجبلية من ظهريتها الى شعانبيها الى اوراسها ؟؟؟ الم ندرس البحار والمحيطات من ابيضها المتوسط الى احمرها الى ميتها ومتجمدها ..؟؟؟
دعوني معكم اسقط هذه المعلومات الجغرافية على حياتنا اليومية …كم من زلازل وبراكين نمر بها في حياتنا..؟؟ كم من رياح وعواصف تعصف بنا وقلّ وندر ان تكون “شلوق” ؟؟كم من جبال اردنا صعودها وتسلّقها..؟؟؟ وكم من جبال اخرى تسلّقها اخوة لنا ليرفعوا سلاحهم ضدّنا بدعوى صوت الربّ يناديهم للجهاد ..وهم لم يدركوا يوما ان الصوت هو صرير شياطين من وراء الستار ..والغريب ان اولئك الشياطين يُمنّونهم بالحور العين وجنّة الرضوان …فانساقوا كقطعان الحمير ولم يتساءلوا سؤالا بسيطا كان كفيلا بخروجهم من القطيع …والمتمثّل في ..اذا كان هؤلاء يُمنّوننا بالجنّة وحور العين لماذا لم يكونوا معنا في البرد والعراء والجوع والقذارة ..؟؟ اليس من المنطق ان يكون ارباب ذلك الفكر هم اوّل المهرولين الى الجنة حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت …؟؟ اليسوا جميعا هم من قال فيهم صوت الحق { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تّفْسِدُوا فِي الأَرضِ قالُوا إنّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ إلاّ أنّهُمُ المُفْسِدونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُون }…اما عن البحار ..اليس فينا من هو ميّت في الحياة فهو يحيا دون ان يحيا كالبحر الميّت، ومتجمّد .. لا يهزّه لا عزف ولا وتر… متبلّد ..متكلّس …خشبة ..كالبحر المتجمد ..ثم الم نستفق يوما على بحار وجب تغيير تسميتها كالبحر الابيض المتوسط الذي اصبح عندنا في مدينتي بحرا قولوا ما شئتم عنه .. رمادي ..بنفسجي … اصفر غامق …
امّا عن القوى العظمى وارقام اقتصادها فحدّث ولا حرج .. اين اقتصادنا … ؟؟…ماذا عن قفّة الزوّالي وهي تخرج فارغة الى السوق لتعود شبه فارغة ..؟؟.خاصة ان راس البصل اعزّه الله اصبح في بلدي اعزّ من رأس ابن آدم ثمنا …اما عن السيد الفلفل …هذاكة فصيّل اخر …يوما ما فهمت تلك الحقيقة او لأقل جزءا من تلك الحقيقة وكنت انذاك في رحلة مع زملائي في الاذاعة الى زغوان …صعدت فوق هضبة صُغيّرة وطلبت من احدهم ان يأخذ صورة لي ..كنت اضع نظارة سوداء وقُبّعة عصريّة فوق راسي والسيجارة في فمي (بمعنى آخر مراهق عاجبتو روحو وعامل فيها بطل لا يّشقّ له غبار… ولعلّ افضل عبارة تصحّ عليّ وتُلخّصني “فزعاك”)… ويوم خرجت الصّورة بعد تحميضها، وضعتها في البوم صوري وكتبت تحتها (لابد ان اصل يوما الى هيمالايا) …وهو ما رددته فيما بعد لكل الطلبة الذين درسوا عندي سواء في معهد الملتيميديا او بمدرسة الفنون الجميلة او مع المتربّصين عندي في راديو اللمة الصفاقسية …وعموما لمن احبّ ان يكون اروع واجمل وارقى … فلسفتي في ذلك ان يكون طموح الفرد في الحياة ع السقف …بل الى ابعد من حدود السماء وذلك شرعي للغاية … لو تعلّقت همة المرء بما وراء العرش لناله …
عندما بدات اشتغل في قسم المونتاج بالتلفزة التونسية وجدتني امامي عمالقة في هذا الاختصاص يفوقونني خبرة .وسنّا … ووجدتني ابن صفاقس الوحيد بينهم …صفاقسي …بما في العبارة من مدلولات متواصلة حتى يوم الناس هذا وبأكثر فظاعة وشراسة ..كنت ارى في اعينهم الحيطة التي تصل احيانا الى حد الجفاء ..كنت الاصغر فيهم …ودائما كأي اصغر كنت انتظر منهم الاحاطة… وكان نظريا من الصعب عليّ ان اتقبّل ذلك الجفاء خاصّة وانا الذي عشت طوال حياتي مدلّلا _… عائلة واصدقاء وصديقات حتى لا انسى …وزملاء في الدراسة ومدرّسين … فكيف لي ان اجدني مُفردا افراد البعير المعبّد تماما كطرفة ابن العبد في قبيلته ..؟؟ ..الا انّني كنت اردّد في داخلي (سيعرفونني يوما … وما نسيت ابدا ..لابد ان اصل يوما الى هيمالايا … يجب ان اثبت لهؤلاء الزملاء اني انا عبدالكريم الذي لا يعرفونه ..يجب ان اثبت لموسيو جوزيو الايطالي المشرف على التربص التطبيقي اني جدير بثقته …يجب ان اثبت لعيادة انو عبدالكريمها (وفي هذه لا ينازعها اي كان) اني راجل وسيد الرجال … ويجب ان اثبت لتلك التي خذلتني انها في الاخير خذلت نفسها… ويجب ان اثبت لذلك الذي منحني في الباكالوريا 6 من عشرين في امتحان العربية انّي اقدر ممّا فعل بي ..
انبريت في عملي بكل حيويّة … هم رأوا في البداية حيويّتي من زاوية (اوووه ..اش هالمصيبة …دبّوس خدمة)… الا اني كنت اثناء عملي لا اعبأ بما يفكّرون فيه بل واقوم ببعض الاجتهادات في المونتاج ..لم اكتف بالسائد بل كنت ابحث عن بصمة خاصة بي …في ذلك الزمن مثلا كانت المؤثرات الخاصّة التي تدخل على الصورة باهظة الثمن ..ثم إن مختبر التلفزة التونسية لم يكن مجهّزا تقنيا بما يسمح له بذلك … وحتى مختبر الساتباك كان بدائيا مقارنة بالمختبرت العالمية … ولأنني كنت مؤمنا بأن الصعود الى هيمالايا يتطلّب منّي مجهودات مضاعفة، فاني كنت اقوم بتجارب عديدة على شريط الصورة …هي بدائية ايضا ولكنّها جديدة …كنت مثلا ارسم بواسطة آلة نستعملها لوضع علامة تنسيق الصورة مع الصوت على ما يسمى “الامورس” وهو شريط ابيض يسبق شريط الصورة وشريط الصوت، حيث تثقب تلك الالة الشريط الابيض حتى تكون انطلاقة شريط الصورة والصوت في آن واحد ..واذا لم يحدث هذا ياتي الصوت احيانا قبل الصورة او العكس ..والاكيد ان جيل ذلك الزمن يتذكّر جيدا كم من فيلم وقع بثّه، الصورة في واد والصوت في واد … ذلك الثقب الذي تُخرجه الالة يكون باشكال مختلفة (نجمة …دائرة ..قلب ..الخ) ..
في احد اعمالي في المونتاج وكان ذلك في برنامج غنائي يخرجه جمال الدين بالرحال رحمه الله، استعملت صورة القلب مع ضربة موسيقية ذات نسق معيّن وثقبت بها شريط الصورة وتردد ذلك مع تناسق تام مع ضربات الة الايقاع في الاغنية …هو عمل بسيط للغاية اجتهادا ولكن وحتى تكونوا على دراية بدقّة وصعوبة العملية ..مونتاج دقيقة واحدة من الاغنية يتطلب على الاقل نصف يوم …(إينعم دبوس خدمة!).. كنت احيانا ادخل الى كابينة المونتاج الخاصة ولا انهض الا بعد 6 ساعات متتالية من العمل …طعامي انساه ..هذا الطعام الذي لم يكن يوما مهمّا في حياتي ابدا …انسى العالم كلّه وانا اشتغل ..وحتى اذا تركته فانا اتركه دون ان اتركه ….كنت عندما انهمك في عملي انغمس الى حد اللاوعي بمن حولي …وكنت في مرات قليلة اشعر بالرفاق (اعني الزملاء) حائرين يفكرون يتساءلون في جنون …عن هذا عبدالكريم من يكون ..؟؟؟
من جهتي هنالك امران ساعداني على المضي قُدما في طريقي ..اولهما تشجيع الاطراف الاخرى ادارة وزملاء في الاخراج، على مثابرتي … وثانيهما تصرّفي مع زملائي في قسم المونتاج …تصرّفات كانت بالنسبة لي عادية جدا …ولكنّها قلبت العلاقة 180 درجة ..مجرّد اني ادفع ثمن قهوة عن زميل منهم في مقهى الاذاعة، مجرّد اني اقدّم لزميل مبلغا يسيرا من المال عندما يكون في حاجة إليه ..خلع عنّي صورة الصفاقسي (المشحاح) …ثم وهذا كان مفصليا في قلب المعادلة ..كنت وما زلت ايجابيا جدا في تعاملي مع الانسان المهموم … لست انا اذا لم اذهب إليه والاطفه واستمع اليه واقف معه سندا معنويا وماديا ان كان ذلك باستطاعتي …كنت اذهب الى اي زميل احس بانقباض على وجهه …واكون انسانا فقط …
اليس الانسان هو من يحس باخيه الانسان في السرّاء والضرّاء ..ما ابشع الواحد منّا عندما يرى دمعة تتدحرج من عين ولا يمسحها ..ما ابشع الواحد منّا عندما يرى انّة تئن لانينها الاشجار والاحجار ويبقى متجمدا كذلك البحر المتجمّد … حتى ذلك البحر ينتفض على تجمّده صيفا خجلا من جموده …واقسم لكم بكل المقدّسات انّ ما كنت اقوم به لم يكن يوما طمعا ولا خوفا ..بل كنت اردّ على الاساءة بالاحسان ..ولأقول بصنيعي (لولا الحب ماكان في الدنيا ولا انسان)… وكان ومازال وسيقى الحب هو المنتصر في كل الحروب ..قد يخسر معركة ..معارك ..ولكنّه ابدا ان يخسر حربا …اكتوبر 1973 حدث ما لم يحدث ابدا في التلفزة التونسية ..في الصحافة المكتوبة التي تتابع الاعمال التلفزية كانت جل المقالات انطباعية في جملتها لان المختصين في النقد التلفزي كانوا يُعدّون على عدد الاصابع ..ثمّ كل اهتماماتهم كانت تنحصر حول الموضوع وبدرجة اقل الاخراج … وفجأة ظهر مقال صحفي حول برنامج كنت قمت بمونتاجه وثمّن صاحبه دور المونتاج في ذلك الشريط …المقال صدر بتاريخ 5 اكتوبر 73 بجريدة لابريس وبامضاء ابو الهادي …لم انتبه له الا بعد انا اهداني اياه مخرج الحصة …تلك كانت اولى ثمار مثابرتي..
ويومها احسست انّي اتسلّق الدرجة الاولى في مصعد هيمالايا …سُعدت ايّما سعادة …انتشيت ايّما انتشاء ولكنّي اكتفيت بابتسامة قلّ من يعرف سرّها …قلت الدرجة الاولى لأني لا فقط لم افقد ثبات رجليّ على الارض… بل لأن الهاجس بداخلي كان يناديني بكل عزم وحزم وتحذير: (موش هذا انت سيد الرجال اللي قالت عليه عيّادة) …وابتسامتي انذاك تعني: (حتّى تقلّي فاهمك وفاهمني)…وهو يردد: اوكي امض في طريقك …وساتركك دون ان اتركك ….وبدأت الاقلام الصحفية المختصة في النقد التلفزي تتابع اعمالي بشكل دائم وبالثناء على ميلاد مركّب افلام …_قابوس ..الحاجة ..بن رجب ..المنصف شرف الدين … وغيرهم… وبدأ المخرجون يتهافتون على عبدالكريم حتى اكون انا من يقوم بمونتاج اعمالهم …والعديد منهم كانوا يسلّمون لي الاشرطة ويذهبون في سبيل حالهم تاركين لي حرية التصرف كاملة في الشريط … ولعلّ من افضل ما اتذكّره في هذا الباب اصرار المخرج الكبير علي منصور على ان اكون انا من اصاحبه في مونتاج شريطه التلفزي (العقد) وهو من نوع الدراما ….
على منصور هذا كان مخرجا فنّانا يغار غيرة جنونية على اعماله ويشتغل فيها باتقان متناه ..وكان عصبيّ المزاج كسائر المخرجين المتتلمذين على المدرسة الامريكية …اتذكّر يوما انني كنت ابحث عن افضل عملية ربط بين مشهدين ..كنّا نشتغل ليلا ..وبقيت بالصورة وراء الصورة ابحث عن الصورة الملائمة والمُثلى التي يجب ان اجدها (علما بان الثانية الواحدة في شريط الصور تحتوي على 25 صورة)… وبقيت كذلك نصف ساعة ..وعندما قمت بالربط النهائي تقطّع الشريط …وهذا يعني انه عليّ ان اعود للقطات مماثلة من نفس المشهد واعيد العملية من جديد …كانت الساعة تشير الى الثانية صباحا… نظرت اليه وهو يًقطّع شعره من هول ما حدث وقلت له الحلّ بسيط …التفت اليّ وقال: “الّلي هو؟… قلت له: “بنبالوني من سيدي بوسعيد !” …نظر اليّ وقال: “راجل .. يلعن بو اللي يفسدّها” …وكان ذلك …واتممنا السهرة هناك ولم نعد الى العمل الا في الغد بعد الثانية ظهرا …العمل عندي مقدّس نعم …ولكن في مثل تلك الحالات يجب ان اخرج من جلبابه وادخل في جلابيب اخرى حتى اعود اليه باكثر طاقة وجمالا …
تندهشون من كلمة جمال …؟؟؟
وما هو العمل ان لم يكن فيه الانسان جميلا؟ ..ما الحياة ان لم يكن فيها الواحد منّا جميلا؟ .. والجمال عندي ليس بمفهوم الفترينات ..ولا بمفهوم اناقة الزرابي الحمراء في مهرجان كان ..الجمال عندي بمفهوم القلب والوجدان ..دون نسيان الفكر طبعا ….قد تقسو علينا الحياة ..قد تفسد راحتنا ..قد نفقد بريق الحب والامل في داخلنا … ولكن ادعوكم واياي الى التشبّث بالجمال في داخلنا …هو وحده من يقدر على هدهدتنا وقت الشدّة ولكل واحد منّا شدّته …اشدّ على اياديكم…
ـ يتبع ـ