جور نار

ورقات يتيم… الورقة 51

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

عندما امتطيت سيّارة الاجرة للخطوط البعيدة في اتجاه صفاقس (لواج) والتي كانت انذاك في الغالب من نوع بيجو 404 ذات الخمسة مقاعد دون اعتبار السائق …كان بي شوق لصفاقس… صفاقس العائلة… صفاقس الشلّة… صفاقس الحوش… صفاقس السي اس اس… صفاقس صفاقس… بكل تفاصيلها البسيطة وجزئياتها التي قد لا تعني شيئا للأخرين والتي يجدها ايّ منكم في مسقط رأسه بالوان خاصّة وطعم خاص وذكريات خاصّة …

كان بي شوق لا يعرفه الا من يكابده … شوق لبوشويشة ذلك النهيّج الصغير والذي لا يتجاوز بضعة امتار في صخبه اليومي وهو الذي انتصب لبيع الخضر والغلال باثمان شعبية ولكن ايضا بغشّ شعبي… فالمعروض للمشتري مدروس بشكل خبيث ومنمّق بشكل اكثر خبثا… اذ انّ ما تراه عكس ما تشتريه ففي ايّ صنف من الغلال يعرضه البائع بشكل يُغري البلهاء مثلي… ولكن بحركة يدويّة لا يعرف سرّها الا المنتصب في هذه السوق يدسّ لك الغلّة الخامرة والمضروبة … والنحيفة والتي في طرفها حور من الخزّ … وابدا ان تكتشف عيوبها الا وانت تستعرض عضلاتك عند عودتك للمنزل وانت مفتخر بصيد ثمين ثمنا… واذا بالوالدة تهزّ رأسها سخرية وتضيف: اشنوة عجبك رخصو؟؟؟…

اتذكّر ذات مرّة ان الوالد عاد الى المنزل ذات عشيّة مزهوّا بكيلو صبارص لا يتجاوز ثمنه الـ10 ملّيمات …وعندما وصل الى ايدي عيّادة … صاح انفها في ومضة تكشيرية من عطوره النتنة …ثم ماكان منها الا ان رمقت الوالد المسكين بنظرة حادّة وقالت: “تي هذا منتن هذا بايت ..هذا للقطاطس موش للعباد” … وماكانش سي محمد من العاكسين ..وبحركة نتر، اخذ السمك المحنون ورفسه برجليه مردّدا: “هذا المنتن ..هذا البايت ..هذا للقطاطس !”..سي محمد عصبانة رغم قلبه الطيّوب جدّا وبارع في حركات النتر هذه والتي لا ينافسه فيها الاّ الربّاعون الاتراك في الالعاب الاولمبيّة والمشهورون بتفوّقهم على منافسيهم عالميا (يبدو انّ جيناتهم كانت ومازالت تبدع في النتر … موش هكّة يا عشّاق اردوغان …؟؟؟) ولن ادع الفرصة تمرّ دون ان اهمس لانصار اوردوغان اسمعووووووني … وانا على يقين بأنهم لن يسمعوا ولكن سمعوا ام بقوا صُمّا، ها انا اكشف عن آخر ابداعاته في مناصرة الاسلام والاسلاميين لا المسلمين …

السيّد اردوغان المهدي المنتظر في اعين العديدين سافر اخيرا (*) الى جنوب افريقيا لامضاء عقد شراكة وتسويق للاعمال التلفزيونية التركية (مسلسلات العشق الممنوع ..والعشق المر.. والعشق المالح ..والعشق المسّوس … وهذه النوعية في حدّ ذاتها لا يمكن اصلا ان تكون لافتة دعائية لدولة تدّعي قيم الاسلام …كدت اقول لا علينا ولكن الاصحّ علينا وعلينا وعلينا) …السيّد اوردوغان في حفل توقيع الشراكة (اينعم رئيس دولة يُوقّع للشراكة في منتوجات تلفزية !!) كانت تصاحبه نجمة تلفزية تركية (ايه اشبيه يا سي عبدالكريم عيب ؟؟؟ اشبيك متحامل على اردوغان؟؟؟) استناوني بارك الله في صبركم … دعوني اصف لكم المشهد:

النجمة التركية كانت والله لابسة بلاش هدوم …وهذه المرة بالحق بلاش هدوم ذوق 24 ..يعني كل شيء تراه بمقاييسه الطبيعية انتفاخا …كللّو …اللي يقلّقو المشهد يستعوذ من الشيطان الرجيم ..واللّي يشيّخو ما عندي ما نعملّو …ايلي وايلو ربّي …. يقول القايل: اش عندك فيها يخخي انت ربّي ماشي تحاسبها…؟؟ من هذه الزاوية لا اجادل لانّي تعلّمت من القرآن انّ لا احد يزكّي اعمالنا الا الله …لكنّ الذي اثار انتباهي عمّكم اردوغان وهو يتأبّط ذراع النجمة الـ 90 في المائة عارية “برادسي برادسو” وعيناه العسليّتان تغوصان في جسدها بعشق حلال مباح وبنهم عثماني فيه كلّ معاني الرغبة لاحتلال ذلك الجسد واستعماره ..وحديثنا قياس… دعوكم من تصوّر اردوغان حامل راية الاسلام … لأنّ حامل مثل تلك الرايات العظيمة عليه ان (يختشي) كعديد الشلايك امثاله حتى لا يتورطوا .. وكم من شلاكة حصل في المحظور …

صفاقس هي ايضا سوق الحوت ونتونته العطرة في انفي …صفاقس هي نهج الباي بصخبه اليومي وبكسكروت الغمقي (رحمه الله) الذي ما زال يُسيل لعابي مذ كنت تلميذا في الثانوي …وفطاير وسفنج وزلابية السيالة … بدكاكين باعة العطر من كريستيان ديور الى الاوبيوم الاسود (عطر هذا وليس زطلة والله) والتي سقطت منها منذ مدّة وجيزة اخر حبّة في عنقودها …قاعة الكوكب… ومن غرائب الدهر انها تسقط في ذات السنة التي قيل فيها انّ صفاقس عاصمة الثقافة العربية … ويعطي لذباب الثقافة عمى، عندما تُوكل مثل هذه التظاهرات التي تحدث مرّة في القرن لاناس لا علاقة لهم بالثقافة وهم مثال للسخف والسخافة… مع تقديري للنزر القليل منهم…. صفاقس هي ايضا تلك المراكز المترامية على شكل اشعّة دائرية في ضواحيها… فهذه ساقية الزيت والتي يقال عن تسميتها انها تاّتت من فيضانات ذات سنة فطغت امواجها على معاصر الزيتون فيها لتُخرج مدّخراتها من الزيت وتتزاوج مع الماء سيلانا ..وساقية الدائر والتي يُحكى عنها انّه في عصر ما انتشر فيها الداير (اي السرقة) … هكذا يُقال عنها … (رغم انّي ذاتيا كدت امُرّ مرور الكرام على تاريخ اللئام ..ولكن شرفي التوثيقي يأبى ذلك) …وتنيور اللي عليها النور… وقرمدة اللي عليها العمدة …والافران جماعة الجبّة والقفطان …

كنت في تلك الحقبة من عمري كعديد اترابي لا نعير اهتماما كبيرا للضاحية الجنوبية والغربية لمدينتنا اي طريق قابس وطريق خنافس وعقارب (المطار حاليا) وسُكّرة والمحارزة …فتلك الضاحية كان اغلب سكّانها من فقراء صفاقس ..بل الادهى انّ من يشتري منزلا او عقارا في تلك الضاحية يُقال عنه”مدعي بالشرّ”… اذ انّ معمل “السياب” وما خلّفه من لوحات رمادية على الطبيعة من جهة، وتلك الروائح التي يُفرزها يوميا عطرا قاتلا لسكّان تلك المنطقة، جعل معظم اهالي صفاقس يتهرّبون من السكن فيها رغم الحسرة الكبيرة على عنب وتين عين فلاّت فيها …امّا الان فانّ سرطان السياب لم يسلم منه ايّ شبر من صفاقس برّا وبحرا وجوّا … وقللك سي الشاهد حسم الامور في زيارته لصفاقس (*) …ملاّ كذبة، من جهته ..وقدّاش احنا بوهاليين من جهتنا …

كنت وانا في اللواج استعيد ذاكرتي وانا الذي لأول مرة في حياتي ابتعد عن صفاقس بضعة اشهر… ولم استفق الا وسائق السيارة يتوقّف بسيدي بوعلي قرب سوسة … تلك كانت محطّة الاستراحة لجلّ سيارات الاجرة بين تونس وصفاقس … (قللو برجين قللو سيدي خليفة!) … كان السائق يُوفّر لصاحب مطعم سيدي بوعلي، وهو الوحيد ، عشرة زبائن يوميا (بحساب الذهاب و الاياب)… ومقابل ذلك يتمتّع بوجبتين خالصتي الثمن …لم تكن انذاك توجد طريق سيّارة وكانت الرحلة تدوم 4 ساعات في افضل الحالات وكنّا نحفظ الطريق عن ظهر قلب بكل محطاتها … من جبل الجلود حتى سيدي صالح .مرورا ببني كلثوم وكركر (يلّلي تكركر)… ومساكن -اللّي في النهار مساكن وفي الليل سكاكن) … اكاهو مادامني قلت على ما يُقال عن ساقية الداير نقول ما يقال عن مساكن ..الله غالب حجّتي في ذلك امانة التوثيق …

الا اننا وبوصولنا الى الغرابة زهاء العشرين كم عن صفاقس تهيّأ لنا ان روائح جنّة صفاقس فُتحت لنا رغم انّ الواقع يقول عكس ذلك… لاّنه وبعد وصولنا الى الحنشة وحتى سيدي صالح كانت روائح المداجن المنتشرة هنالك تخنقنا … خلاص … اشرفت السفرة على نهايتها …نحن في السدرة ولم يبق لنا سوى بضع الكيلومترات عن قلب صفاقس …

عند الوصول الى محطّة اللواجات والتي كانت قرب صالة الافراح البلدية وقرب محطّة القطارات… كان كلّ همّي ان اجد في زحمة المكان سيارة اجرة خفيفة لتنقلني الى جنّتي، ساقية الداير سواء كان فيها “داير” او لم يكن .. لا احد اطلاقا على علم بعودتي …كنت ومازلت من طبعي عاشق مفاجآت ..اجتهد كثيرا في كتابة وتنفيذ سيناريوهات المفاجآت بكل حبكة …وازدادت حبكتي والحقيقة عفرتتي بعد ان درست فنّ كتابة السيناريو … واعشق ايضا تلك السيناريوهات التي تُحاك لي … يوم ليك ويوم عليك واش تعمل يعمالك… ..ها انا على بعد امتار من حانوت بواحمد حلاّق الشلّة …توقّفت سيّارة الاجرة امام الحانوت وما ان اطللت بوجهي حتى صاح القوم: “السهريّات” جاء ! … ذاك كان لقبي في الشلّة… وهرع الجميع ..يا بوس ..يا تعنيق …ياضمّ …يا طبطبة …وكأنّنا من قبيلة ابي بوّاس … وتنهمر الاسئلة… كيف السبّة ؟؟ عندك عطلة ..؟؟ احكينا عاد على باريس واش عملت واش ما عملتش ..؟؟ ويشكّب عليه واحد من شياطين الشلّة بالقول: تنجّم ما تحكيش على اش ما عملتش اما اش عملت هاكة نحبّوه بالتفاصيل يا ابو العمايل انت…

كنت انذاك ادخّن بشراهة سيجارتي الروايال المنتوليه دون نسيان ضرّتها الحلوى … وكان الزمبار ينظر اليها بشراهة أيضا وما كان منّي الا ان ربّتُّ على كتفه وهو صديق الانفة والكبرياء رغم فقره المدقع وهمهمت (تحبّ وحيّد فاوح؟؟؟)… ابتسم وانا امدّ له السيجارة … اخذها وشمّها كما يفعل من يشتهي شمّ السجائر دون تدخينها وقال ..امممممممممممممممممم هذي عاد فاوحة … ليكس …وردّد العديد: اللهمّ فوّح الجميع… وكان لهم ذلك …حمل معي صديقي رضا احدى الفاليجات وحملت انا الثانية … وقصدنا ربّي الى الحوش… الى ذلك القصر الملكي ذي الثلاث عائلات… كل عائلة في جمهورية بيت واحدة … ذي المرحاض الواحد … يصطفّ على بابه (وهو اصلا من غير باب) الجميع صباحا مساء باستثناء يوم الاحد حيث تختلف مواعيد النهوض يومها . ولابدّ قبل الولوج الى مدخله طرح السؤال او كلمة السر (اللابندة عامرة ؟؟؟)… اي هل دورة المياه مشغولة …ولاباندة كلمة ظاهرها صفاقسية ولكنها ذات اصل ايطالي (لافاندا)… ثمّ حُرّفت لتصبح لاباندة … الى تلك المطاير التي تموج بخضرواتها في كل الفصول ..الى ذلك الجنان والذي يتمايل ببعض الاشجار المثمرة وفي مقدمتها اللوز وقليل منه الفخفاخ وفي رواية اخرى المغزاز الشهي اكلا قبل ان “يعظّم” اي ينضج … قلت القليل لان البقية وجلّها من نوع القسمطيني، مطبوعة بشيء من المرارة مما يجعلها بعيدة عن طموحاتنا لاكلها خضر.ء .. واختيار هذا النوع بذلك الكمّ هو مدروس من قبل العائلة حيث تستغلّه اما لبيع جزء منه (ترقيع مصاريف) او لاستعماله في الحلويات المناسباتية (عيد فطر او اعراس) وها انا امام عيدي ..

عيادة تجري وتئنّ (يا وليدي يا وليدي) …كان بودّها ان تصيح …ولكن متى كان الصياح من شمائلها ؟؟ كان بودّها ان تبكي فرحا والبكاء فرحا هو ايضا سمفونية من سمفونيات السعادة … ولكن عيّادة لم تكن يوما بكّاءة بل كانت على حدّ تعبيرها تخجل من دموعها التي لا تجدها حتى في المآتم …الا ان روعة امّي في نغمات صوتها فرحا او الما …امّي كانت عازفة ماهرة على اوتار صوتها …هي لم تكن يوما محترفة ولا منحرفة في عزف صوتها …هي لم تدرس يوما موسيقى او مقامات ولكنّها كانت مذهلة في كل موسيقى ومقامات صوتها …هي تفرح بصوتها تتالّم بصوتها تغنّي بصوتها وترقص بصوتها رغم انّي لم اشاهدها يوما ترقص على ايقاع موسيقى او اغنية… ولكن وكما قال المتنبي وهو يمدح سيف الدولة في احدى المعارك التي شارك فيها (عيب عليك تُرى بسيف في الوغى .. ما يفعل الصمصام بالصمصام ).. اي انت سيف يا سيف الدولة فما حاجتك إلى السيف .. وعيّادة ما حاجتها بالرقص على الموسيقى وصوتها رقصة وموسيقى …

عانقتها طويلا طويلا ولم اشعر بتقصيري تجاه الاخرين الا وانا ادير راسي لارى طابورا ينتظرني …وعاد نفس السؤال: كيف السبّة ؟؟؟ عطلة ..؟؟؟ عجبتك فرنسا ؟؟؟ وذلك السؤال الغبيّ (اما خير فرنسا والا تونس ؟؟) …وانقذتني عيّادة من عناء الاجابة بشيءمن الجدّية الرادعة: تخليوه يشرب عرقو مازال بغبار الثنية يرتاح ويحكيلكم … ويُوفى الحديث … عيادة اصدرت حكمها …اي للتنفيذ …

انسحبت العائلات المجاورة من جمهورية بيتنا وتمدّدت كعادتي على جلد العلّوش التي احضرته عيادة من مخبآتها لمثل تلك الظروف الفجئية ….ياااااااااااااااااااااااااااااه عليك يا اغلى وامتع فراش في الدنيا… عبدالكريم على فراشه الوثير وعلى وسادته التي لا احد سواه ينام عليها… وبجانبه العائلة وعيادة تسابق الزمن لتقول: “يا وليدي اش تحب نطيبلك ؟؟ عندك شهور تلقاك ما كليتش مونة كاملة انتي بلاشي زڨلام في الماكلة هوني وزيد عاد في فرنسا الله اعلم اش يخنفسوا ويدنفسوا” … نظرت اليها وقلت: “والله بالحق يخنفسوا ويدنفسوا ماكلتهم ما تتكالش” …وتلك هي الحقيقة …الاكلات الفرنسية ليست فقط غير لذيذة عندي بل تنفّر… وردّت عيادة بحرقة: “يمّة على كبدي …تلقاك متّ بالشّر”…. قبّلتها في يدها وقلت: لاباس بصبرو… ايّا قوم طيبلي هاكة الحلالم من يديك الملاح … وذُعِرَتْ… حلالم! تجيني بعد شهور ونطيّبلك حلالم؟ …

ولأني عنيد الى حدّ القرف قلت لها… “ورحمة بوك ما تطيّبلي كان حلالم” … رحماك يا عيادة منذ رحيلك لم اذق يوما حلالم في عطرها… في طعمها …ومن يديك الجميلتين البارعتين …ربّاه ربّاه ربّاه …لا تعرض ايديها على نار …ربّاه اعرف واؤمن انّه لا تزر وازرة وزر اخرى …ولكن ربّاه ربّاه ربّاه …انت ادرى بما في داخلي من رجاء …يا رببببببببببببببببببببببببببببي ياربيييييييييييييييييييييييييي يا رببببببيييبببببببببببببببييييييييي …

ـ يتبع ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) المقال من سنة 2017

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version