عبد الكريم قطاطة:
وحان يوم العودة النهائية الى تونس … كان من الصعب عليّ ان انتقل على سيارتي من باريس إلى مرسيليا بمفردي … فرخصة سياقتي يعود تاريخها الى سنة 73 بعد 11 ساعة فقط من التدرّب على السياقة ثمّ (امسح مات) بعدها … لم اضع يدي على ايّ مقود فكيف لي ان اغامر بسياقة سيارة ؟؟؟
لم تطل حيرتي حيث اقترح عليّ احد الزملاء التونسيين الدارسين لهندسة الفيديو بنفس معهدي التكفّل بالمهمة، على ان أوفّر له مصاريف تنقّله ذهابا وايابا باريس تونس وتونس باريس عبر ميناء مرسيليا … وكان ذلك …تلك كانت المرّة الوحيدة طيلة حياتي التي اسافر فيها بحرا … مكرها لا بطل.. الم اقل لكم انّه بقدر عشقي الجنوني للبحر بقدر خوفي المرضي منه؟؟؟ وحتى اجمّد ذلك الخوف الرهيب بداخلي حرصت على اخذ اقراص منوّمة ممّا مكّنني من اغماض عينيّ، والاستسلام الى نوم ليس كالنّوم بميناء مرسيليا لم استفق بعده الاّ في ميناء حلق الوادي …
عند الوصول بدأت متاعبي المهولة مع السيارة …رفضت وبعناد كبير ان يشتغل محرّكها … رصاتلي ندزّ فيها انا وبعض المتطوعين وحشمتي على وجهي … الله الله عليك يا سي الطوالة جايب كرهبة من فرنسا ومن اوّل يوم تشمّر على سواعدك (غير المفتولة طبعا) وعرقك شرتلّة …_ غادرت الميناء صحبة زميلي المهندس الذي تولّى أيضا سياقة السيارة من تونس الى صفاقس وبالتحديد الى مقرّ سكناي بساقية الدائر حيث حوشنا الجميل .. ولكم ان تتخيّلوا المشهد …سيارة تلمع لمعانا تتبختر في ازقة رملية وتقبع ليلا امام حوش متداع للسقوط …كم هي سريالية تلك اللوحة … ولتقريب المشهد فقط تصوروا الاميرة ديانا في طمبكها قبل ان يفتك بها من رفض علاقتها بذلك العربي تصوروا ديانا (تحبك في الشعير في محبس) … او تغسل في دوارة العيد وخوفها الكبير من جهلها بفنون تنظيف الفحتة طلاّقة النساء …
فرح العائلة كان دون حدود ..الوالد كعادته كان مزهوّا بابنه (اللي في نظرو ولّى موش فقط راجل بل سيد الرجال اشبيكم راهو جاب كرهبة من فرانسا)… خاصّة وهي اوّل بل الوحيدة التي امتلكها واحد من سكّان الحوش .. لذلك كان يدعو الجميع لزيارتها والتبرّك بها في زهو ودلال دون حياء ..امّا عيّادة فكانت دوما من الفصيلة التي تشهق صمتا بفرحها …هل تفهمون جيّدا ما معنى ان يشهق الواحد منّا صمتا بالفرح … انّه الوجوم الجميل الذي لا حراك فيه ظاهريّا والذي تتشابك فيه كل الشرايين داخليّا في حركة مرور مزدحمة جدّا ..كلّ شريان فيها يريد ان تكون له الاسبقية والتمتّع بالسبق ليجنّح .. ليصرخ.. ليبكي بفرح … ليقول يا ربّاه … الا انّ انانية كلّ شريان للظفر ببطولة السباق للحصول على ذاك السبق الصحفي تسّد عليهم ابواب البوح من جراء ازدحامهم … فتبقى الشهقة حبيسة الصّدر …
في الغد صبّحنا والملك لله وكان عليّ ان اتعامل مع زمردتي بما اتذكّر من قواعد السياقة … شغّلت المحرّك وندهت .. ويعد 20 مترا وانا احاول ان اعكس المقود لآخذ منعرج الخروج من الجنان الى الزنقة الرئيسية وجدتني ادخل في الطابية … وكم هي كثيرة نعم الطوابي علينا …اذ باستثناء “استئجارها” من لدن سكان غير مرغوب فيهم تماما (العقارب) والتي تتعدد في حجمها واصنافها وتُعتبر من اقرب الجيران الينا خاصّة عندما تخرج ليلا تتمشّى وتتبختر بيننا اينما كنّا … العقارب في حوشنا من الفصيلة الجريئة جدا في تعاملها معنا ..اكاد اكون الوحيد الذي لم تسع يوما لتقبيله من نوادرها المؤلمة ان الوالد رحمه الله بعد ان ذهب الى بيت الراحة (يعمل بيشار، هكذا كانوا يقولون عن تعامل الفرد مع بيت الراحة …بيشار ؟؟؟ وفقط … لا اعرف لا معنى ولا سرّ اختيار هذه الكلمة والتي عُوّضت الان بـ “بيبي”)…
عند عودته بعد البيشار تمكّنت بيه صيفة عقرب … قنفود على حالها … وهرع الى الثوم يأكله كما لو كان يأكل قطعة فقّوس… عندما وصل الى المستوصف ساله الممرّض ماذا فعلت حتّى تنقذ نفسك من قبلة العقرب المسمومة اخبره بذلك الانتيبيوتيك الثومي …اثنى عليه وقال له …هاكة اللي جابك للصواب … من نوادر مؤنستنا دوما العقرب عافاكم الله انّه كانت لي ابنة عمّ تستعد لزواجها …الا انّ اهل عروسها لم يُوفوا بوعودهم في حكاية الشرط …والشرط انذاك اتفاق بين العائلتين المتصاهرتين حول الجواهر والملابس والمواسم التي يتكفّل بها العروس لعروسته … يومها كانت ابنة عمّي رحمها الله غاضبة جدا من اهل عروسها الذين اخلّوا ببعض تفاصيل الشرط ..فما كان منها الا ان انهالت عليهم بالدعاء وكانت آخر دعواها (يعطيهم عقرب) … ودعوتها طلعت دخان للسماء واجابتها العقرب لتوّها وعطاتها حسابها …
عودة لمزايا الطوابي التي هي حيّ النصر لآل عقرب وهو الاستثناء هي المعبد الهام والجميل لسلطان الغلّة ..انذاك كان سطل الهندي يُباع بخمسة مليمات ..ونبدا نقّرق بالشاري …واليوم اصبح الهندي ارفع ثمنا من الموز … اووووووووووووووووف من الدنيا وعمايلها … والحقيقة اووووووووف منّا ومن عمايلنا …. قضينا على كلّ الطوابي وتربّضت الغابات وغاب بريقها وانتفت رائحتها الى الابد …كم لا نُقدّر نعم الاشياء الا بعد فقدانها …
يوم سياقتي للسيارة بعد 6 سنوات صوما عن السياقة كان فضل الطابية عليّ كبيرا …داهمتها بجهل منّي في استعمال المقود فقابلت هجمتي بروح رياضية ولامست سيارتي بكل لطف وهي تهمس: (موش من ثمّة يا ولد موش من ثمّة)… هذه العبارة ذكرتني بحكاية واقعية لصديق ذهب لأوّل مرة في حياته الى دار خناء علني وكان ان وجد نفسه مع بائعة هوى مالطية… ولأنه لأوّل مرّة دخل فيها قعباجي… فما كان من تلك بائعة الهوى الا ان استغربت جهله وصاحت …موش من ثمّة موش من ثمّة … وما كان منه الا ان ردّ عليها موش مشكلة يا مدام البرّ الكلّ جايينو ..تقولشي فلاّح ماشي يميّل جنانو …
اعود بكم الى تلك الحادثة مع الطابية لاقول لكم انّها كانت المرّة الوحيدة في حياتي التي فقدت فيها السيطرة على المقود يعني ضربة الزلوع … عدّلت المقود وغادرت المكان ..في مرحلة اولى كان اللقاء بالاصدقاء في بيتنا الدائم حانوت الحلاق بو احمد ..وبجانبه سي المبروك الحمّاص رحمه الله وهو ينظر الى ابنه كُريّم بسيارته الجديدة بكل فخر واعتزاز… بعد ذلك كان التوجّه الى اذاعة صفاقس في محطّتي الثانية …في تلك الفترة لم اكن اعرف من الزملاء في اذاعة صفاقس سوى فئة قليلة… المدير قاسم المسدّي رحمه الله والزميل الهادي المزغني اللذين اعرفهما من فترة زمالة بالتلفزة التونسية عشناها معا منذ 1972 قبل نقلتهما الى صفاقس… والزميلين مختار اللواتي (زميل دراسة بالحي الزيتوني، 15 نوفمبر حاليا) والزميل عبدالمجيد شعبان الذي كان يدرس ويشتغل بشكل مواز في معهدي كقيّم ..وبعض الاسماء القليلة من الذين كانوا يعرفونني من خلال عملي بالتلفزة التونسية وظهور اسمي على الشاشة كمركّب افلام …
من ضمن هؤلاء كانت ابتسام الغطاسي انذاك …لقيتها اوّل مرة بمكتب الزميل الهادي المزغني ..انا اعرفها منذ كانت تلميذة وكانت ناشطة جدا ومغرمة بالمحاضرات والشعر … يوم التقينا قدّمني لها الهادي المزغنّي وكانت فرصة لتدعوني لمشاركتها كضيف في حصتها العاب وانغام مع ابتسام …كانت هنالك بيننا تقاطعات فكرية وفنّية متينة تحوّلت في ما بعد الى صداقة متينة جدا مع عائلتها وللقصّة بقايا في ورقات لاحقة ..دعوني اقل وبكلّ الم الدنيا وبايجاز ..كيف لاذاعة مثل اذاعة صفاقس ان تتخلّى عن واحدة من افضل المنشطات في البرامج الثقافية في الاعلام التونسي: ابتسام المكوّر ..؟؟ وكيف لاذاعة مثل اذاعة صفاقس ان تتخلّى عن واحد من افضل القامات العربية في الميدان الصحفي… زميلي الكبير جدا عبد المجيد شعبان ؟؟؟؟…..صدقا جريمة كبرى في حقّهما وفي حقّ اذاعة صفاقس …وللحديث حتما عودة …
مدّة اطلالتي لم تدم بصفاقس… اذ بعد ان زرت كلّ الاقارب وفي مقدمتهم عائلة خالي اي عائلة خطيبتي (ووين نحطّك يا طبق الورد) كان عليّ ايضا ان اعود الى العاصمة لترتيب بيتي بنهج كندا وللاستعداد لتسلّم مهامي الجديدة بمؤسستي التي غادرتها مركّب افلام وعدت اليها مخرجا … بداية قمت باحضار ملفّ كامل لهذه الوضعية المهنيّة الجديدة حتى تتمّ معادلة الديبلوم في وزارة التعليم العالي بما يتوافق مع ما يوازيه في الجامعة التونسيية … ديبلومي في المعهد الفرنسي هو مواز لست سنوات تعليم عال في الجامعة الفرنسية …الا انّ سيادة الجامعة التونسية استكثرت علينا هذه الدرجة المعترف بها دوليّا واشترت ديبلوماتنا بالصولد ولم تمكنّي انا وزملائي المهندسين الذين تخرّجوا في نفس دفعتي الا من اربع سنوات جامعية …
لكنّ الاغرب انّي وجدت نفسي مرسّما كمهندس لا كمخرج …اي وقع اعتباري كواحد من زملائي المهندسين ودزّ يخطف …. وبقدر ما اغتبط لي زملائي في اختصاصهم واعتبروا ذلك خطأ من نوع ربّ ضارة نافعة باعتبار انّ المهندس انذاك يتمتّع بامتيازات مادّية هامّة جدا مقارنة بسلك المخرجين… بقدر ما عادت اليّ طباعي العنيدة ورفضت رفضا قاطعا القرار ..اي ضحك على الذقون هذا … ايّة علاقة لي بسلك المهندسين وانا الذي لا اشمّ شيئا في ميدان انا اجهل الجاهلين فيه …ثمّ المشكلة اساسا بالنسبة لي مشكلة مبدأ… انا غادرت مؤسستي لاحرز على ديبلوم عال في المونتاج و في وسط الطريق ارتأت ادارة معهدي رسميا على إثر مذكّرة من اساتذتي أن احوّل وجهتي الى الاخراج فكيف لي ان اقبل باختصاص لا ابجدية لي فيه …وهل كان المال يوما محدّدا لاختياراتي ..؟؟؟
رفضت رفضا قطعيا الامر وطالبت عبر عشرات المراسلات باعادة النظر في وضعيتي وتمكيني من حقّي الذي لا نقاش فيه …المراسلة الاولى كانت في شهر افريل 1979 ولكن الاستجابة لم تتمّ إلا سنة 1990 .. 11 سنة من عمري وانا جاثم في النقطة الصفر معنويا وماديا …. عمر الشاقي باقي ومازال مازال …هنا وللامانة التاريخية عملية حصولي على حقّي كانت بتدخّل من صديقين لن انسى جميلهما في ذلك… اوّلهما الزميل والصديق صلاح معاوية والذي شغل في تلك الفترة منصب رئيس مدير عام الاذاعة والتلفزة التونسية.. علم بالامر فدعاني الى مكتبه ودعا الزميل مختار الرصاع الذي كان يحتلّ انذاك منصب مدير التلفزة واوصاه بالتعجيل في اصلاح الوضعية، معتذرا عن عدم رجعية مفعول العملية لأن ذلك ليس بمقدوره ….شكرا سي صلاح شكرا سي المختار …
عندما عدت الى مؤسستي بعد عطلة دامت شهرا كاملا … ارتأت الإدارة ان اشتغل بقسم شريط الانباء حيث تنتظر تونس احداثا هامة في الخريف لعلّ اهمّها انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري (وفاء وتقدم) في شهر سبتمبر… ومؤتمر القمة العربية في نوفمبر بعد انتقال الجامعة العربية لتونس اثر معاهدة كامب دافيد وانعقاد قمّة بغداد نوفمبر 78 وقرار القطيعة مع مصر السادات… الحدثان هامان جدا بالنسبة للدولة التونسية انذاك… اذ انه داخليا بدأت تتشكل داخل الحزب الاشتراكي لعبة التحالفات وخارجيا على تونس ان تحتضن الاشقاء العرب وهي المعروفة بوسطيتها وحكمتها ..ولهذا كان على جميع الاطراف ان تجنّد خيرة الطاقات لتامين هذه الاحداث المنتظرة ووجدتُني في قسم شريط الانباء مع ادارة جديدة للاخبار يرأسها السيد عبد الحميد سلامة ومع رئيس مدير عام جديد للمؤسسة السيد سالم بوميزة …
كنت بالنسبة لهم الرجل الثقة والرجل الكفاءة … وبدأت مرحلة هامّة في حياتي على قصرها …مرحلة تميّزت بالتّعرّف وعن قرب على ماكينة الحزب اعلاميا وعلى المناورات التي اودت برؤوس البعض واهانت البعض الاخر ومن حسن الحظ اعادت للبعض منهم الاعتبار … عالم وسخ قذر الى حد القرف …لعلّ اهمّ ما علّمني ان رجال السياسة وبيادق اعلامهم هم كالقردة في الغاب اذا تشاجروا افسدوا الزرع واذا تصالحوا اكلوا المحصول ويبقى الشعب المسكين الضحية …تذكّروا هذه القاعدة جيدا للمفكّر جورج اوريل حتّى نتاكّد معا انّ ما حدث في عهد بورقيبة من صراعات القردة لا يختلف في شيء عن صراعات الشامبانزي بعد 14 جانفي …اليست السياسة وكما قال انيس منصور هي فنّ السفالة الانيقة ..؟؟؟ قلت انّ المرحلة كانت هامة جدا لأنّ نهايتها شهدت منعرجا تاريخيا في حياتي الاعلامية ..منعرج الاقدار …
ـ يتبع ـ