جور نار

ورقات يتيم… الورقة 77

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

سنة 1986 كانت سنة التحدّيات والتحوّلات… تذكرون جيّدا سنة 82 والزوبعة التي حدثت بعد ايقاف الكوكتيل… زوبعة 85 كانت اعمق واكثر توهجا

لأبدأ اوّلا بالمستمع… منذ غيابي عن المصدح ماي 85 والمستمع لم يهدأ له بال وهذه المرّة بشكل عملي …لم تنقطع رسائل استنكاره وتنديده بالقرار سواء كان ذلك عبر الصحف او برسائل مباشرة للادارة… مما جعل جلسات الادارة الاسبوعية تُخصّص في جلّها للتباحث في كيفية معالجة ابواب النار التي فُتحت عليها… وللامانة فانّ العناوين الصحفيّة استغلّت الإشكال لتجعل منه خبزها الاسبوعي… مادام الامر يضمن لها مزيدا من المبيعات، او ما يعبّر عنه اليوم بالبوز …رغم ايماني ايضا بأنّ بعض الزملاء تعاطفوا مع الامر بفكر واع ودفاعا عن مسار اقتنعوا به، بعيدا عن الجانب التجاري…

في هذا الباب انا فخور جدا بهدف ادرجته ضمن قناعاتي والمتمثل في أنني آمنت ومازلت بانّ المنشّط الاذاعي هو صوت لكلّ الناس… وأعني هنا مهما اختلفت مستوياتهم التعليمية والسنّية… لا شروط لديّ في الترحيب بأيّ كان باستثناء اولئك الذين لا يحترمون الوطن والانسان… هؤلاء كانوا ومازالوا خارج حظيرة برامجي… اذ لا حياد معهم… زد على ذلك وفي ما يقولون عنه حيادا، فانا كرّرت آلاف المرّات انّ الحياد في العمل الاعلامي اكبر كذبة تُدرّس في معهد الصحافة وجلّ اصدقائي من اساتذة هذا المعهد يعرفون موقفي هذا… اذ الانسان بطبيعة خلقه هو مزيج من القلب والفكر ودون أي منهما لن يكون انسانا… واجب الاعلامي فقط ان لا يغلّب احدهما على الاخر وان يتوق للموضوعية في طرحه للمسائل …

كنت دوما اُعطي مثالا بسيطا لذلك واقول تتذكرون انّه في مباراة كرة قدم جرت بين الافريقي والترجي ذات ماي 85 وانتصر فيها الافريقي انذاك يوم 5 _ 5 _ 85 _ بخماسية …ماذا عن العناوين التي تتصدّر غدا الصحف حول المباراة ؟…دعونا نأخذ ابسطها …عنوان يقول الافريقي انتصر بـ5 اهداف مقابل هدف … وعنوان ثان يقول الترجّي انهزم بـ 5 اهداف مقابل هدف …ظاهريا يبدو الامر عاديا ولكن ان نستعمل كلمة انتصر لا يمكن ان تكون بنفس حجم وثقل ووجع كلمة انهزم …اين الحيادية اذن ؟؟ انا هنا تكلمت فقط عن صدر تلك القاعدة الشهيرة (وهي اكذوبة) والتي تقول الخبر مقدّس والتعليق حر …ما صدر كعنوانين في الجريدتين وهو الخبر المقدّس، هل يؤكّد انّ الخبر مفدّس اي محايد ؟ …الم اقل لكم انّها اكذوبة …

هذا الامر يُحيلني الى موقف لا مفرّ منه وانا اتفاعل مع ما يكتبه المستمع… هنالك كتابات تزلزلني جمالا ورونقا… اصحابها وهبهم الله نعمة (النقشان) وعبر مسيرتي حظيت بشرف وسعادة اكتشاف العديدين منهم… وعبداللطيف الحداد هو أحدهم… تابعته منذ كان تلميذا في جربة ثم طالبا في سوسة ثم مربّيا واتابعه لحدّ هذا اليوم محبّا متيّما بالافريقي… ومرّة اخرى وبكلّ امانة ايضا انا لي عشق يبدو انّه جيني للجنوب… الجنوب حقا وأعني هنا غمراسن وقبلّي ودوز ومدنين وجربة وتطاوين وتوزر وقفصة… قد اكون غير محايد في تقديري ولكن كانت لي قناعة ومازالت بانهم في جلّهم الاذكى والالطف والاصدق…

من ضمن ما كتب عبداللطيف الحداد في اواخر 85 حول الكوكتيل هذه النقشة “حتّى يكون الحبّ في بلدي بمرتبة الهواء” (جريدة السور بتاريخ 21 نوفمبر 85): “الى كلّ من يهمّه امر كوكتيلنا وامرنا .. اليكم جميعا ولا استثني احدا …1. الذين اقصوا عبدالكريم قطاطة لم ينفذوا قرارهم في قطاطة فحسب … بل نفّذوا ذلك في الآلاف من مستمعيهم ومؤتمنيهم على مصدح ورسالة وتراث … فالكوكتيل كان ملكا لاحبائه قبل ان يكون لقطاطة … 2 احيلوني على تجربة مصدحية واحدة في عمق وتوهّج تجربة الكوكتيل ولكم بعد ذلك ان تشنقوا كلماتي ..3 اية اخلاق اعلامية كانت تسمح بجزاء سنمّاري لكلّ من يجتهد ويتعب ويبذل عرقه ووقته لأجل سعادة المستمع ؟؟ وايّ عرف اعلامي كان يُبيح هذه النهاية الجنائزية لمن نفخ في المصدح بصدق وعمق وجنون؟ الا تخجلون من جحودهم ؟؟… 4 انّ ارتحال تقدير ضنى عبدالكريم ومتاعبه الجمة هو في النهاية ارتحال لنا …لمستمعي الكوكتيل اينما كانوا فأن يهون الكوكتيل هو أن يهون المستمع الذي يطلبه بعنف هل تفهمون هذا؟… 5 اذا كان الغرور عند بعضهم يعني التشبّث بالمبدإ والكرامة فنعم الغرور غرورنا لأنّ المساومة ما كانت يوما منّا وما كنّا منها…

6 هذا الوجه الجاحد الذي يواجهون به عبدالكريم قطاطة ليس جديدا عليه و لا علينا ولا على الجمهور طالما ان الحزن والاغتصاب هو قدر المبدعين والموهوبين دوما… 7 ان نكن قد خسرنا وبايدينا كانت الخسارة، فاننا تعلمنا انّ الذي يعرف كيف يخسر يعرف ايضا كيف يربح على حدّ قول نجيب محفوظ .. احتفظوا بهذه المعلومة في كنّشاتكم فلعلّها تكون ذات بال في يوم من الايام…8 غدا نعود ونستعيد مصدحنا واشياءنا وتاريخنا تاريخ الجمال والحب والجنون … امّا اذا لم نعد فانّ عزاءنا انّه ما من صادق الاّ وسيقول بأنّه كان حبّ هنا وكانت ارادة صميمة وكان امل… وانّه كان صوت نشاز اسمه عبدالكريم قطاطة وليس عبدالكريم فتيات كما يردّد المعقّدون… شنقوا انفاسه وصلبوه على عتبة قرار بذات قرار 21 ماي…تاريخ ايقاف الكوكتيل” …

عبداللطيف يقول دائما عنّي اشياء كثيرة فيها وفاء وامتنان …ولو تدري يا صديقي كما انا سعيد بانّك تجاوز جدولي الصّغيّر لتصبح محيطا عميقا من الجمال والابداع … عبد اللطيف والآخرون لم يهدأ لهم بال وكان الاستفتاء السنوي الذي تنظمه جريدة “البيان” فرصة ليعبّروا بشكل آخر عن تشبثهم بالكوكتيل وبمنشّطه … وهنا لم يكن التتويج بالمرتبة الاولى الذي اعنيه بل خاصة بالفارق الكبير بين المرتبة الاولى والثانية في عدد الاصوات… المرتبة الأولى تجاوز المصوّتون لها المائة والثانية لم تتجاوز العشرة اصوات… وهذا يعني انّ الحملة كانت كبيرة و الضربة القاصمة كانت موجّهة للادارة اساسا وليست لزملائي …

ما حدث في اواخر 86 كان توقّف جريدة الايام عن الصدور …كنّا ننتظر مثل هذا الامر ولكن ليس بتلك السرعة …كنّا نشتمّ رائحة الحريق …لأنّنا وبكلّ غرور مرّة اخرى كنّا مختلفين عن السائد …كنّا كفريق رياضي يبدا التعاقد لأوّل مرّة في تاريخه مع جامعة كرة قدم (طبعا موش مع الجريء لأنّو وقتها مازال يلعب في الزرابط مع اقرانو ويهرتكو عليه وهاكة علاش توة يردّ في الفعل ويحبّ يهرتك على برشة … اما يا مهرتك يجي نهار وتتهرتك)… اذن فريق في بداية خطواته الكروية فاذا به في المنصّة لتسلّم الكأس والبطولة معا … الايام انذاك كانت الجريدة الاقرب الى عقول وقلوب القرّاء …لذلك حتما سيشتعل الحريق …وما لبثت ان عادت في جانفي 86 وكُلّفت وقتها بادارة مكتبها بالجنوب حرصا منّا على الاقتراب من قرّائنا بالجنوب عامة …

من الاشياء التي عملنا كذلك على سنّها في تعامل الجريدة مع قرائها اجتماعات دورية في مكتبها بتونس مع مجموعة من القراء الاصدقاء للتدارس معهم وبشكل مباشر في ما للجريدة وما عليها… وكانت تجربة رائدة ومثمرة جدا في الاستماع اليهم وخاصّة في التاكيد الفعلي انّ للقارئ نصيبا في دنيا الجريدة اي شراكة فعلية مع الحريف ان صحّت العبارة …

من الذكريات التي لم انسها ايضا في شهر جانفي 86 موقف الجمهور الرياضي في قاعة محمد علي عقيد والنادي الصفاقسي منظم للبطولة الافريقية للكرة الطائرة والتي فاز بها مع اروع جيل للكرة الطائرة انذاك (غازي المهيري، مصدق الأحمر، عبد العزيز بن عبدالله، حشيشة، صرصار، كرّاي كسكاس وبقيّة الفيلق)… لم انس استقبال الجمهورالحاضر لي وانا انشّط التظاهرة … اقسم لكم بكلّ المقدسات كنت خجِلا لحدّ انهمار الدموع والقاعة تهتف بصوت واحد عبدالكريم عبدالكريم .. انّه الحبّ الغامر الرهيب ….لكن ما حدث من قبل المستمعين بعد صمت الادارة وعدم الاستجابة لرغبتهم في عودة الكوكتيل لم يكن في الحسبان بتاتا… قام المستمعون بتشكيل لجان في كافة مناطق الجمهورية مهمتها تجميع امضاءات للمطالبة بعودة الكوكتيل …وتكفّل منسق كل لجنة بعد التجميع بارسال نسخة لي وثانية لرئيس المؤسسة وثالثة لوزير الاعلام ونسخا اخرى لبعض الجرائد …

وما لم يكن في الحسبان الذي اعنيه انّه ولاوّل مرّة في تاريخ الاعلام يصل عدد الممضين على عريضة للمستمعين الى 20 الف و247 امضاء (جريدة الرأي 16 ماي 86) ….من ناحية اخرى وبعد عودة جريدة الايام اصبحت قناعتنا تتشكّل يوما بعد يوم بأنّ الايام لم تعد تلك التي اردناها وعشقناها وانّ ضغوطا سُلّطت على مديرها كي يوجّه بوصلتها الى حيث يريدون …وكان الاتفاق على تقديم الاستقالة الجماعية لمديرها وكنت انا من كتبت نصّ الاستقالة… وانتهت تجربتنا مع الايام وبكلّ اسف وحرقة نعم ولكن بكلّ فخر وشموخ واعتزاز لم نخضع لايّ ابتزاز ولم نلبس جلباب ايّ حزب …

من احداث سنة 86 ايضا انّ فريق اذاعة صفاقس نظّم دورة في كرة القدم وفاز ببطولتها… وعند زيارة وزير الإعلام (عبدالرزاق الكافي) لاذاعة صفاقس حيث سيُسلّم الكأس لقائد الفريق، اصرّ زملائي وانا الغائب عن اذاعة صفاقس انذاك بأن يكون عبدالكريم هو من سيتسلّم الكأس كقائد فريق سابق لهم … هم اتّفقوا سرّا حتى لا تعترض الادارة على قرارهم وتعتبره تحدّيا لها … وبُهت الذي كفر… دُعيت الى الحدث وعندما همّ الوزير بتسليم الكأس جاء زملائي في الفريق وحملوني الى المنصّة وتسلّمت الكأس… سلّمها لي السيّد عبدالرزاق الكافي وهمس في أذني: انت هو سي عبدالكريم ؟؟ ايجاني نهار الاثنين مع الساعة الخامسة مساء في مكتبي بالوزارة… عندي ما نحكي معاك…

في الورقة القادمة انا زادة عندي ما نحكي معاكم…

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version