جور نار

ورقا ت يتيم … الورقة رقم 2

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

مرت السنوات الاولى من طفولتي الاولى كأي طفل عادي نشأ في عائلة معوزة لا اتذكر منها اشياء كثيرة باستثناء اني كنت مغرما جدا باللعب مع كل من حولي …

لا يهم ان كانت الالعاب مخصصة للذكور او الاناث، خاصة أنه ـ من سوء حظي او من حسنه ـ كان اختلاطي بالبنيّات (تصغير بنات) مفروضا بحكم قلة وجود الفتيان في محيطي …فكنت بارعا في كل العابهن: الخماس، البرتيتة، القفز على الحبال، بيت الحارة والغميضة … وكانت امي تستشيط غضبا من هذا السلوك لانه بالنسبة لها لا يعقل ان امارس تلك الالعاب الانثوية، باعتباري رجلا في نظرها … وكانت تحاول اثنائي عن مثل هذا السلوك، وذلك بقهري بعبارة (انت بهيم بنات) سعيا منها لردعي عن مخالطتهن ….الا انها ونظرا إلى قلة وعيها لم تكن تفهم ان الانسان ابن بيئته وانه من حق الطفل ان يمارس هواياته حسب الموجود …وحتى عندما كبرت وتنوعت علاقاتي مع الفتيات (مع فارق البراءة)، كانت تتنهد وتعاتبني بالقول “يا وليدي اشنوة بشيمتك مدفونة مع البنيات ؟؟؟” وعلى فكرة هي ادرى الناس بان مشيمتي فعلا مدفونة مع بنت لاني توأم لاخت لي ولدت ميتة ! ….

ومما اذكره في تلك المرحلة اننا كنا نلعب طيلة النهار لا نكل ولا نتعب صيفا او شتاء صحوا او مطرا لا اعرف للقيلولة معنى وكان الكبار في حوشنا زوجات عمومتي وبناتهن يتذمرن من عبثنا وهرجنا خاصة في قيلولة الصيف فتكثر تذمراتهن (لا ترقدوا ولا تخليو شكون يرقد . اللطف ..؟؟؟؟ ريحوا فخار ربي واتهدو) … وكن وفي نفس الوقت يهددننا بـ(عزوزة القايلة) حتى يضمنّ لعبنا في محيط الحوش كي لا نبتعد عن راداراتهن، رحمهن الله جميعا ….كنا لا نعرف للامراض اي تواجد معنا …حفاة عراة ..شتاء وصيفا… ومع ذلك قل ما يزورنا “الانجين” او “الڨريب” …وحتى ان حدث ذلك فالمستوصف المحلي بالساقية على ذمتنا بطابع اسبرين او طابع فيل ..كاكثر دواء مستعمل انذاك .وهذا المستوصف العجيب كلما زرناه وانا طفل صغير وجدناه مكتظا بالحريفات .. .

قلت حريفات ولم اقل مريضات …لاني فهمت عندما كبرت انه كان ملاذا لجل النساء والفتيات حتى يخرجن من كهفهن للقاءات شرعية مع الطبيب الڨاوري في غياب كلي ومحرم للقاء بين أية منهن واي رجل آو حبيب او صديق _(ده كلام ؟؟؟) … فينعمن بفحصه لهن …المرأة في الخمسينات كانت تخرج من منزل والديها مرتين الاولى لبيت زوجها والثانية للقبر …هكذا هي فلسفة ذلك المجتمع الذكوري في الوطن العربي عموما ولعل “سي السيد” في ثلاثية نجيب محفوظ اروع مثال على ذلك … لذلك كان الخروج الى المستوصف المحلي بالنسبة للمرأة نافذة لاكتشاف ما لا يحق لها اكتشافه …اكتشاف الرجل حتى بالنظر فقط اليه عن قرب (وبعين صحيحة) و النظر هن مزبهلات خاصة الى شنبه المفتول عنوان الرجولة انذاك رغم انهن كن يرغبن (ويتمنين حتى لا اقول يشتهين في الحقيقة) في فحص جسدي كامل باعتبارها من الفرص النادرة في حياتهن التي يتمتعن فيها بيد فظة تلمس أجسادهن …

وفي هذا الباب كان احد الممرضين (سي البحري رحمه الله) يصيح ويجلجل باعلى صوته فيهن: باللازمة تكذبوا ولاكم مرضى … بل ويقسم باغلظ الايمان ان واحدة من الحريفات التي تتردد بصفة دائمة على “نافذة الجنة” (المستوصف) كانت ترفض ان يناولها طابع فيل او مشروب كدواء وكانت تصر على ان (يدڨلها زريقة) … وتأكيدا لقناعته بانها تكذب يقسم بانه “دڨلها” ذات مرة زريقة ماء لا دواء فيها وانها عادت بعد اسبوع لتشكره على هذه الزريقة العجيبة التي قضت على جانب كبير من مرضها وانها تريد المزيد .. وكل عصر وزرارقو ….سي البحري كان يجسد المقولة __ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة، وان الهدف لم يكن اصلا في الزريقة بل في اليد التي تبشبش وتدلك مكانها، الفخذ عادة…..

ما ان بلغت سن الخامسة من عمري حتى قرر والدي رحمه الله ان يرسمني بزاوية سيدي عبالقادر اليانڨي رحمه الله لتحفيظ القرآن … وكانت معارضة الوالدة شديدة فانا اقطن بين الساقيتين(الزيت والدائر ) وزاوية سيدي عبدالقادر بعيدة عنا …فكيف لهذا الولد النحيف ان يتحمل تعب الذهاب اليها كل يوم ؟؟؟ الا ان اصرار الوالد كان كبيرا وعادة كلمة سي السيد لا ترد وقبلت امي على مضض الامر الرئاسي …كانتا سنتين من عمري بصمتا بالمثابرة مني وبخوف رهيب من عصا سيدي عبالقادر الذي كان شديدا لحد الصلف …رغم اني لم اذق طعمها يوما الا اني كنت اتوقاه وارتعد مع اترابي العابثين طفولة في الزاوية او تاركي ومهملي السور التي يكلفنا بحفظها في ملف النسيان …كنت ارتعد وانا اراهم يعاقبون بـ “طريحة نباشة القبور” من سيدي المدب (هكذا كانوا ينادونه) وربما مثابرتي كانت متأتية من الخوف اكثر من وعيي بجدوى المثابرة …

كانت اختي الكبرى حفظها الله “سعيدة” وعندما كبرنا اصبحت اناديها باسم تراكي لشبه في شخصيتها بها عفريتة و دبايرية وحد ما يغبلها … كانت تصطحبني كل يوم صباحا الى الزاوية لحمل محفظتي وتعود مساء لنفس الاشغال الشاقة …وهي على حق في اعتبارها اشغالا شاقة لانها ومن اجلي حرمت نعمة التعليم …ويا ويلها عندما لا تتخفى في “قرصي ” ويكون ذلك الخطأ امام احد الجواسيس، وهو كل ما تقدر عليه عند مصاحبتي صباحا او مساء يا ويلها من غضب امي قبل ابي …انذاك تنزل عليها جبال من الدعاء ووصفها بشتى النعوت اما الوالد فهذا العقاب النسائي في نظره من نوع (كعك ما يطير جوع) وهو من المؤمنين بالقاعدة الذهبية في ذلك العصر (العصا لمن عصى) …

اختي الكبرى كانت لا تطيقني بتاتا وهي محقة في ذلك رغم انه لا ذنب لي ولكن (الظلم بعمل) ….وكانت الفرحة تغمرها عندما امرض وانقطع عن الذهاب الى الزاوية وبعدها المدرسة الابتدائية …او عندما تنزل الامطار بغزارة وتنقطع المواصلات مع ساقية الزيت بسبب فيضان الوادي الذي يربط بين الساقيتين والذي ياتي على الاخضر واليابس فيجرف معه كل ما يحلو في عينه من قمح وشعير ولوز واكباش …كان عنيفا في سطوته وهيجانه قبل ان يقوم الصينيون في السبعينات ببناء مجراه …وعلى ذكر الصينين لابد من الاشارة الى امور هامة في تواجدهم في محيطنا لتلك المهمة …اولا كنا نتعجب من سلوكياتهم في العمل …هم بمثابة خلايا النحل التي تعمل ليلا نهارا بشكل مبهر .. ولعل السياسي الفرنسي “الان بيرفيت” كان محقا حين كتب عنهم في السبعينات كتابه الشهير “عندما تستيقظ الصين سيرتعش العالم” … وهاهي الصين اليوم قوة عظمى قد تغير مجرى الاحداث وتقلب موازين القوى كما قال ذلك الكريفة ذات يوم في حوار رياضي حول فريقه المفضل النجم بصلف فرعوني رغم ان فريقه قاسى من فراعنة ماقبل 14 جانفي … والفراعنة عموما لا تنتهي حياتهم الا بالغرق ان لم يكن بعصا موسى فبعصا انتقام الاقدار وانتقام الزمن الدوار …

لنعد الى الصينيين …كنا نرمقهم بدهشة كبيرة هم متشابهون جدا خلقيا وكنا نندهش كيف يفرقون بين بعضهم بعضا …ولم اتخلص من هذه الفكرة الا زمن دراستي بفرنسا (اواسط السبعينات) عندما عشت معهم في مبيت بمنطقة فيلي بضواحي باريس الشرقية والذي كان مخصصا في جزء كبير منه للاجئين الفيتنامين … انذاك فقط اصبحت افرق بينهم والاغرب انهم هم تماما مثلنا يندهشون منا كيف نميز بين بعضنا البعض ..؟؟؟؟؟ أخر ما تبقى في ذاكرتي من تواجد الصينين بيننا انهم قضوا على نصيب كبير من ثروتنا الحيوانية في عالم القطط ؟؟؟؟ نعم هم من آكلي القطط وبشراهة …تماما كالافارقة الذين عشت معهم في فرنسا والذين من جملة ما يقومون بجلبه في عولتهم عند مقدمهم الى فرنسا “قديد” القردة مجففا ومملحا … ولا تسالوني عن تلك البرفانات التي تجتاح المبيت و هم يتفننون في تصنيفات ماكولاتهم بقديد القردة … ايف سان لوران على حالو …وعندما كنا نعبر لهم عن استغرابنا لمثل هذه المأكولات كانوا يجيبون بتهكم وسخرية …وكيف لكم ان تأكلوا لحم الارانب وهو من نفس فصيلة القطط …؟؟؟

علما بان ما يقولونه حول نفس الفصيلة علميا هو صح …في الاخير وبعد تجارب عديدة في فرنسا ادركت فعلا ان كل بلاد وارطالها، وان هواة ومحبي افخاذ الضفادع والتي تباع باثمان مشطة هم كثر، كدت اقول “بلحم اليهود” وانا اشير الى غلاء اطباقها الا اني كنت وسابقى ضد العنصرية حتى مع اليهود …الاكيد ان القرآن قال فيهم انهم اشد الناس بغضا وعداوة للذين آمنوا ولكن ودائما حسب معيارين اولهما اني عاشرت يهودا في فرنسا وكانوا على درجة عاية من الايجابية واقل وحشية من داعش ومشتقاتها وازلامها العلنيين ووالراكشين اما في خلايا نائمة او المتسربلين بـ “يسرون بعكس ما يضمرون” وثانيهما ايماني بأني ابن دم وحواء يجبرني على الاعتراف بالانسان اينما كان ووقتما كان انه اخي …اخي ورغما عنك وعني …

قضيت اذن سنتين بالزاوية تعلمت فيهما وحفظت القران حتى صورة عم يتساءلون …وكذلك ابجدية الحروف العربية وبعض العمليات البسيطة من الجمع والطرح، وهز ايدك من المرق لا تتحرق … وعند بلوغ السادسة من عمري ودائما باصرار لا يجادله احد فيه قرر الوالد رحمه الله ترسيمي بمدرسة “فرانك اراب” بساقية الزيت والتي اصبحت الان تحمل اسم مدرسة شارع الحبيب بورقيبة …كانت مدرسة فرنكوفونية يديرها مدير فرنسي ..وبعض المعلمين ايضا هم فرنسيون …ابي(طلعت في دماغو) _اني سادرس بمدرسة الكفار … انه عهد الاستعمار …لم يكن متفتحا ومتعلما حتى يرسمني بهذه المدرسة الفرنكوفونية بل كان بالكاد يكتب رسالة طمأنة للعائلة متى غاب عنها …ويبدؤها دوما بعد البسملة والحمدلة بجملته الشهيرة ـ ولست ادري هل هو فعلا يدرك معناها ـ (الى من نحبه ونرضاه والقلب شايش الي ملقاه)

هل كان ابي الغائب دوما عن عائلته بسبب عمله خارج المدينة يرسل لوالدتي تلك الجملة الشهيرة ويبثها مشاعره وحنينه واشتياقه للقياها بمثل هذه الجملة التي تتكرر في كل رسالة ؟؟؟؟ اشك بصدق في هذا الامر لان رجال ذلك الزمن يعتبرون التعبير عن مشاعرهم تجاه زوجاتهم ضربا من ضروب الضعف و (تطييح قدر) بل هم ربما اعتادوا باشياء فرددوها بشكل ببغائي دون حتى فهم محتواها ..و”الراجل” فيهم هو من يحمر عينيه منذ ليلة زفافه ولا ينسى ان يمعس رجل زوجته بكل عنف ليبرهن على عنتريته المريضة ….

الوالد اذن رسمني بتلك المدرسة التي مثلت بالنسبة لي نقلة اولى في حياتي كطفل ….ولا زلت لحد الان ازورها واتنسم فيها رائحة زمن رائع بكل المقاييس ….يااااااه كم احس باليتم وانا التفت الى زمن تساقطت فيه عديد ورقات شجرته …وغادرنا العديد ممن عرفناهم فتركونا يتامي …..ياااااااااااااه …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version