تابعنا على

جور نار

ورقا ت يتيم … الورقة رقم 2

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

مرت السنوات الاولى من طفولتي الاولى كأي طفل عادي نشأ في عائلة معوزة لا اتذكر منها اشياء كثيرة باستثناء اني كنت مغرما جدا باللعب مع كل من حولي …

عبد الكريم قطاطة

لا يهم ان كانت الالعاب مخصصة للذكور او الاناث، خاصة أنه ـ من سوء حظي او من حسنه ـ كان اختلاطي بالبنيّات (تصغير بنات) مفروضا بحكم قلة وجود الفتيان في محيطي …فكنت بارعا في كل العابهن: الخماس، البرتيتة، القفز على الحبال، بيت الحارة والغميضة … وكانت امي تستشيط غضبا من هذا السلوك لانه بالنسبة لها لا يعقل ان امارس تلك الالعاب الانثوية، باعتباري رجلا في نظرها … وكانت تحاول اثنائي عن مثل هذا السلوك، وذلك بقهري بعبارة (انت بهيم بنات) سعيا منها لردعي عن مخالطتهن ….الا انها ونظرا إلى قلة وعيها لم تكن تفهم ان الانسان ابن بيئته وانه من حق الطفل ان يمارس هواياته حسب الموجود …وحتى عندما كبرت وتنوعت علاقاتي مع الفتيات (مع فارق البراءة)، كانت تتنهد وتعاتبني بالقول “يا وليدي اشنوة بشيمتك مدفونة مع البنيات ؟؟؟” وعلى فكرة هي ادرى الناس بان مشيمتي فعلا مدفونة مع بنت لاني توأم لاخت لي ولدت ميتة ! ….

ومما اذكره في تلك المرحلة اننا كنا نلعب طيلة النهار لا نكل ولا نتعب صيفا او شتاء صحوا او مطرا لا اعرف للقيلولة معنى وكان الكبار في حوشنا زوجات عمومتي وبناتهن يتذمرن من عبثنا وهرجنا خاصة في قيلولة الصيف فتكثر تذمراتهن (لا ترقدوا ولا تخليو شكون يرقد . اللطف ..؟؟؟؟ ريحوا فخار ربي واتهدو) … وكن وفي نفس الوقت يهددننا بـ(عزوزة القايلة) حتى يضمنّ لعبنا في محيط الحوش كي لا نبتعد عن راداراتهن، رحمهن الله جميعا ….كنا لا نعرف للامراض اي تواجد معنا …حفاة عراة ..شتاء وصيفا… ومع ذلك قل ما يزورنا “الانجين” او “الڨريب” …وحتى ان حدث ذلك فالمستوصف المحلي بالساقية على ذمتنا بطابع اسبرين او طابع فيل ..كاكثر دواء مستعمل انذاك .وهذا المستوصف العجيب كلما زرناه وانا طفل صغير وجدناه مكتظا بالحريفات .. .

قلت حريفات ولم اقل مريضات …لاني فهمت عندما كبرت انه كان ملاذا لجل النساء والفتيات حتى يخرجن من كهفهن للقاءات شرعية مع الطبيب الڨاوري في غياب كلي ومحرم للقاء بين أية منهن واي رجل آو حبيب او صديق _(ده كلام ؟؟؟) … فينعمن بفحصه لهن …المرأة في الخمسينات كانت تخرج من منزل والديها مرتين الاولى لبيت زوجها والثانية للقبر …هكذا هي فلسفة ذلك المجتمع الذكوري في الوطن العربي عموما ولعل “سي السيد” في ثلاثية نجيب محفوظ اروع مثال على ذلك … لذلك كان الخروج الى المستوصف المحلي بالنسبة للمرأة نافذة لاكتشاف ما لا يحق لها اكتشافه …اكتشاف الرجل حتى بالنظر فقط اليه عن قرب (وبعين صحيحة) و النظر هن مزبهلات خاصة الى شنبه المفتول عنوان الرجولة انذاك رغم انهن كن يرغبن (ويتمنين حتى لا اقول يشتهين في الحقيقة) في فحص جسدي كامل باعتبارها من الفرص النادرة في حياتهن التي يتمتعن فيها بيد فظة تلمس أجسادهن …

وفي هذا الباب كان احد الممرضين (سي البحري رحمه الله) يصيح ويجلجل باعلى صوته فيهن: باللازمة تكذبوا ولاكم مرضى … بل ويقسم باغلظ الايمان ان واحدة من الحريفات التي تتردد بصفة دائمة على “نافذة الجنة” (المستوصف) كانت ترفض ان يناولها طابع فيل او مشروب كدواء وكانت تصر على ان (يدڨلها زريقة) … وتأكيدا لقناعته بانها تكذب يقسم بانه “دڨلها” ذات مرة زريقة ماء لا دواء فيها وانها عادت بعد اسبوع لتشكره على هذه الزريقة العجيبة التي قضت على جانب كبير من مرضها وانها تريد المزيد .. وكل عصر وزرارقو ….سي البحري كان يجسد المقولة __ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة، وان الهدف لم يكن اصلا في الزريقة بل في اليد التي تبشبش وتدلك مكانها، الفخذ عادة…..

ما ان بلغت سن الخامسة من عمري حتى قرر والدي رحمه الله ان يرسمني بزاوية سيدي عبالقادر اليانڨي رحمه الله لتحفيظ القرآن … وكانت معارضة الوالدة شديدة فانا اقطن بين الساقيتين(الزيت والدائر ) وزاوية سيدي عبدالقادر بعيدة عنا …فكيف لهذا الولد النحيف ان يتحمل تعب الذهاب اليها كل يوم ؟؟؟ الا ان اصرار الوالد كان كبيرا وعادة كلمة سي السيد لا ترد وقبلت امي على مضض الامر الرئاسي …كانتا سنتين من عمري بصمتا بالمثابرة مني وبخوف رهيب من عصا سيدي عبالقادر الذي كان شديدا لحد الصلف …رغم اني لم اذق طعمها يوما الا اني كنت اتوقاه وارتعد مع اترابي العابثين طفولة في الزاوية او تاركي ومهملي السور التي يكلفنا بحفظها في ملف النسيان …كنت ارتعد وانا اراهم يعاقبون بـ “طريحة نباشة القبور” من سيدي المدب (هكذا كانوا ينادونه) وربما مثابرتي كانت متأتية من الخوف اكثر من وعيي بجدوى المثابرة …

كانت اختي الكبرى حفظها الله “سعيدة” وعندما كبرنا اصبحت اناديها باسم تراكي لشبه في شخصيتها بها عفريتة و دبايرية وحد ما يغبلها … كانت تصطحبني كل يوم صباحا الى الزاوية لحمل محفظتي وتعود مساء لنفس الاشغال الشاقة …وهي على حق في اعتبارها اشغالا شاقة لانها ومن اجلي حرمت نعمة التعليم …ويا ويلها عندما لا تتخفى في “قرصي ” ويكون ذلك الخطأ امام احد الجواسيس، وهو كل ما تقدر عليه عند مصاحبتي صباحا او مساء يا ويلها من غضب امي قبل ابي …انذاك تنزل عليها جبال من الدعاء ووصفها بشتى النعوت اما الوالد فهذا العقاب النسائي في نظره من نوع (كعك ما يطير جوع) وهو من المؤمنين بالقاعدة الذهبية في ذلك العصر (العصا لمن عصى) …

اختي الكبرى كانت لا تطيقني بتاتا وهي محقة في ذلك رغم انه لا ذنب لي ولكن (الظلم بعمل) ….وكانت الفرحة تغمرها عندما امرض وانقطع عن الذهاب الى الزاوية وبعدها المدرسة الابتدائية …او عندما تنزل الامطار بغزارة وتنقطع المواصلات مع ساقية الزيت بسبب فيضان الوادي الذي يربط بين الساقيتين والذي ياتي على الاخضر واليابس فيجرف معه كل ما يحلو في عينه من قمح وشعير ولوز واكباش …كان عنيفا في سطوته وهيجانه قبل ان يقوم الصينيون في السبعينات ببناء مجراه …وعلى ذكر الصينين لابد من الاشارة الى امور هامة في تواجدهم في محيطنا لتلك المهمة …اولا كنا نتعجب من سلوكياتهم في العمل …هم بمثابة خلايا النحل التي تعمل ليلا نهارا بشكل مبهر .. ولعل السياسي الفرنسي “الان بيرفيت” كان محقا حين كتب عنهم في السبعينات كتابه الشهير “عندما تستيقظ الصين سيرتعش العالم” … وهاهي الصين اليوم قوة عظمى قد تغير مجرى الاحداث وتقلب موازين القوى كما قال ذلك الكريفة ذات يوم في حوار رياضي حول فريقه المفضل النجم بصلف فرعوني رغم ان فريقه قاسى من فراعنة ماقبل 14 جانفي … والفراعنة عموما لا تنتهي حياتهم الا بالغرق ان لم يكن بعصا موسى فبعصا انتقام الاقدار وانتقام الزمن الدوار …

لنعد الى الصينيين …كنا نرمقهم بدهشة كبيرة هم متشابهون جدا خلقيا وكنا نندهش كيف يفرقون بين بعضهم بعضا …ولم اتخلص من هذه الفكرة الا زمن دراستي بفرنسا (اواسط السبعينات) عندما عشت معهم في مبيت بمنطقة فيلي بضواحي باريس الشرقية والذي كان مخصصا في جزء كبير منه للاجئين الفيتنامين … انذاك فقط اصبحت افرق بينهم والاغرب انهم هم تماما مثلنا يندهشون منا كيف نميز بين بعضنا البعض ..؟؟؟؟؟ أخر ما تبقى في ذاكرتي من تواجد الصينين بيننا انهم قضوا على نصيب كبير من ثروتنا الحيوانية في عالم القطط ؟؟؟؟ نعم هم من آكلي القطط وبشراهة …تماما كالافارقة الذين عشت معهم في فرنسا والذين من جملة ما يقومون بجلبه في عولتهم عند مقدمهم الى فرنسا “قديد” القردة مجففا ومملحا … ولا تسالوني عن تلك البرفانات التي تجتاح المبيت و هم يتفننون في تصنيفات ماكولاتهم بقديد القردة … ايف سان لوران على حالو …وعندما كنا نعبر لهم عن استغرابنا لمثل هذه المأكولات كانوا يجيبون بتهكم وسخرية …وكيف لكم ان تأكلوا لحم الارانب وهو من نفس فصيلة القطط …؟؟؟

علما بان ما يقولونه حول نفس الفصيلة علميا هو صح …في الاخير وبعد تجارب عديدة في فرنسا ادركت فعلا ان كل بلاد وارطالها، وان هواة ومحبي افخاذ الضفادع والتي تباع باثمان مشطة هم كثر، كدت اقول “بلحم اليهود” وانا اشير الى غلاء اطباقها الا اني كنت وسابقى ضد العنصرية حتى مع اليهود …الاكيد ان القرآن قال فيهم انهم اشد الناس بغضا وعداوة للذين آمنوا ولكن ودائما حسب معيارين اولهما اني عاشرت يهودا في فرنسا وكانوا على درجة عاية من الايجابية واقل وحشية من داعش ومشتقاتها وازلامها العلنيين ووالراكشين اما في خلايا نائمة او المتسربلين بـ “يسرون بعكس ما يضمرون” وثانيهما ايماني بأني ابن دم وحواء يجبرني على الاعتراف بالانسان اينما كان ووقتما كان انه اخي …اخي ورغما عنك وعني …

قضيت اذن سنتين بالزاوية تعلمت فيهما وحفظت القران حتى صورة عم يتساءلون …وكذلك ابجدية الحروف العربية وبعض العمليات البسيطة من الجمع والطرح، وهز ايدك من المرق لا تتحرق … وعند بلوغ السادسة من عمري ودائما باصرار لا يجادله احد فيه قرر الوالد رحمه الله ترسيمي بمدرسة “فرانك اراب” بساقية الزيت والتي اصبحت الان تحمل اسم مدرسة شارع الحبيب بورقيبة …كانت مدرسة فرنكوفونية يديرها مدير فرنسي ..وبعض المعلمين ايضا هم فرنسيون …ابي(طلعت في دماغو) _اني سادرس بمدرسة الكفار … انه عهد الاستعمار …لم يكن متفتحا ومتعلما حتى يرسمني بهذه المدرسة الفرنكوفونية بل كان بالكاد يكتب رسالة طمأنة للعائلة متى غاب عنها …ويبدؤها دوما بعد البسملة والحمدلة بجملته الشهيرة ـ ولست ادري هل هو فعلا يدرك معناها ـ (الى من نحبه ونرضاه والقلب شايش الي ملقاه)

هل كان ابي الغائب دوما عن عائلته بسبب عمله خارج المدينة يرسل لوالدتي تلك الجملة الشهيرة ويبثها مشاعره وحنينه واشتياقه للقياها بمثل هذه الجملة التي تتكرر في كل رسالة ؟؟؟؟ اشك بصدق في هذا الامر لان رجال ذلك الزمن يعتبرون التعبير عن مشاعرهم تجاه زوجاتهم ضربا من ضروب الضعف و (تطييح قدر) بل هم ربما اعتادوا باشياء فرددوها بشكل ببغائي دون حتى فهم محتواها ..و”الراجل” فيهم هو من يحمر عينيه منذ ليلة زفافه ولا ينسى ان يمعس رجل زوجته بكل عنف ليبرهن على عنتريته المريضة ….

الوالد اذن رسمني بتلك المدرسة التي مثلت بالنسبة لي نقلة اولى في حياتي كطفل ….ولا زلت لحد الان ازورها واتنسم فيها رائحة زمن رائع بكل المقاييس ….يااااااه كم احس باليتم وانا التفت الى زمن تساقطت فيه عديد ورقات شجرته …وغادرنا العديد ممن عرفناهم فتركونا يتامي …..ياااااااااااااه …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 85

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:
حتّى اختتم الحديث عن دورتنا التكوينية في الراي اونو والتي كانت على امتداد شهرين، عليّ ان ادوّن هذه الملاحظات التي بقيت عالقة في خانة الذكريات ..

عبد الكريم قطاطة

كلنا نعرف ان السفر مع فرد او مجموعة عنصر هام لمعرفة ذلك الشخص او تلك المجموعة معرفة عميقة .. وسفرة ايطاليا لم تخرج عن هذا الاطار ..اكتشفنا مثلا (القرناط) الذي يستخسر في نفسه شراء قهوة، في بلد اشتهر بمتعة قهوته… اكتشفنا اناسا غاية في الضمار الجميل، وكنا نحسبهم غاية في المساطة… اكتشفنا ميولاتنا الى السهرات بكلّ الالوان من حيث مشروباتنا، ومن حيث ميولاتنا لمشاهدة نوعية اخرى من البرامج الايطالية في القنوات الخاصة والتي لا يصلنا بثها الى تونس… وانا ما نقلّكم وانتوما ما يخفاكم (كولبو غروسّو ـ الضربة الكبيرة) مثال من تلك البرامج التي هي في شكل مسابقات والعاب حيث يتنافس فيها رجل وامراة للاجابة عن بعض المسابقات وبعد كلّ سؤال يقوم الخاسر بنزع قطعة من ثيابه… ستريبتيز، ما تمشيوش لبعيد .. ينتهي خلع الملابس وقت نوصلو لهاكي الاشياء …

روما ايضا هي عاصمة الاناقة في اللباس .. تقف امام واجهة متجر لبيع الملابس للرجال وللنساء ..تقف ساعات مشدوها بجمالها وفيانتها ومصدوما باسعارها … وتكتفي بالعشق ..نعم وقفت مرة امام متجر واعجبت بكوستيم (بدلة) ايّما اعجاب ..وغادرت ..وأعدت زيارة نفس المتجر مرات ومرات ولم اشتر البدلة ..الذي يعرفني يعرف اني من النوع الترتاق الفلاق في الفلوس ..ولكن كان كلّ همّي ان اخصص مدخراتي المالية لعائلتي ..وفي الاخير اشتريت ما شاء الله من ادباش وهدايا لعائلتي واكتفيت بقميص لي .. فقط فقط فقط …

وعدنا الى تونس بعد انقضاء فترة التدرب التكويني .. وان انسى فانني لن انسى ما حدث لي عند وصولي الى مقرّ سكناي بصفاقس ..ولدي انذاك كان عمره سنة ونصف ..نظر اليّ نظرة باهتة لا روح فيها ..ثمّ وبعد ثوان ارتمى بين احضاني دون ايّة اشارة من ايّ طرف من العائلة ..سعادة مثل هذه المواقف تدّخر منها فرحا طفوليا من الابن ومن والده ما يكفي لسنوات من الازمنة العجاف …نعم من مثل هذه الاحداث يستمد الواحد منّا طاقة لا تفنى في مواجهته لمصاعب ومصائب الزمن .. يكفي ان يتذكّر طفلا له يرتمي في احضان ابيه بتلك السعادة والفرح حتى يقول (وان تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها)…

سنة 1988 عشت فيها اذاعيا محطات لا يمكن ان انساها ..اوّلها التفكير ثم الانجاز لمشروع اسميته انذاك في احد برامجي (من اجل عيون الطفولة) ..والذي اردته تفكيرا منّي وانجازا من المستمعين في شكل بعث مكتبات خاصة بالاطفال المقيمين بالمستشفيات الجامعية… لنخفّف من احزانهم ووحشتهم ولنعوّدهم على مقولة (الكتاب خير جليس وخير انيس) ..قمت بدعوة المستعمين للقيام بحملة تجميع الف كتاب او مجلة لكلّ مكتبة وكان التآلف عجيبا مع هؤلاء المستمعين… ولم تمض 3 اشهر حتى ارسينا اوّل مكتبة بقسم الاطفال بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس ..وتواصل المشروع مع مستشفيات اخرى ..

كنت وما زلت مؤمنا بانّ التونسي عندما تكلّم فيه لغة العقل والقلب يستجيب ..وهذا عامل من عوامل تفاؤلي الدائم بتونس والتونسيين ..اعرف انّ تونس دخلت مرحلة سوداء في العلاقات المجتمعية والعائلية منذ 2011 ..ولكن ثقتي لا حدود لها في انّ معدن الانسان الاصيل مهما مرّغوا انفه في مخططاتهم (ونجحوا ايما نجاح في ذلك ) لا بدّ ان يعود الدرّ الى صدفته .. فالذهب قد يعلوه الغبار ولكن ابدا ان يصدأ …في نفس السنة فكّرت ادارة اذاعة صفاقس في تخصيص مساحة اسبوعية للشباب حيث ينتقل فريق اذاعي الى مناطق عديدة من الجنوب التونسي لربط مباشر مع الاستوديو الذي كنت اشرف عليها تنشيطا… هدف البرنامج اعطاء الفرص وعلى امتداد 3 ساعات للشباب ليعبروا عن مشاغلهم بكلّ حرية وبعيدا عن ايّة رقابة ..ايّة رقابة … وهذه التجربة كانت منطلقا لبعث اذاعة الشباب في اذاعة صفاقس سنة 88 وساعود للحديث عنها ..

في اكتوبر سنة 88 قامت الاذاعة التونسية بتجربة جديدة في البث الاذاعي اسمتها (فجر حتى مطلع الفجر)… وكما يدلّ العنوان هو برنامج مباشر ينطلق في منتصف الليل ويتواصل حتى الخامسة صباحا… وهو برنامج يومي ويُبث بشكل مشترك بين الاذاعة الوطنية واذاعة صفاقس واذاعة المنستير ..ينشطّه من الاذاعة الوطنية مجموعة من الزملاء ونصيبهم في ذلك 5 ايام في الاسبوع… بينما بقيّة فتات الاسبوع تتقاسمه اذاعة صفاقس واذاعة المنستير حصّة واحدة في الاسبوع …وشكرا على هذه الصدقة ..والله لا يضيع اجر المحسنين ..

كنت انا من عُينت لتنشيط تلك الحصة اسبوعيا ممثلا لاذاعة صفاقس … وللامانة كانت مناسبة متميّزة لمستمعي الاذاعة الوطنية ونظرا إلى انّ بثّ اذاعتنا لا يصل لبعض مناطق البلاد حتى يكتشفوا اصواتا اخرى والوانا اخرى واجواء اخرى… وهنا اتقدّم بالرحمة على روح الزميل الحبيب اللمسي الذي كان رابطنا الهاتفي مع المستمعين المتدخلين في ذلك البرنامج من غرفة الهاتف للاذاعة الوطنية… وسي الحبيب كان ممن يسمونه حاليا (فان) لعبدالكريم…

في اكتوبر 88 حدثان هامان عشتهما في مسيرتي الاذاعية… اولها الاعتراف بديبلومي الذي نلته من المعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس سنة 1979 .. اي نعم بعد 9 سنوات من الاهمال والظلم… والفضل في هذا يعود للمرحوم صلاح معاوية الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة ….علم بالاشكال الحاصل بيني وبين الادارات والمسؤولين الذين سبقوه، فدعاني لمكتبه ودعا مدير التلفزة انذاك الزميل مختار الرصاع والكاتب العام للمؤسسة، وطلب منهما وفي اقرب وقت رفع المظلمة التي تعرضت لها ..وفعلا وفي ظرف اسبوع قام بانهاء تلك الوضعية التي طالت وبكلّ جور ..

الحدث الثاني وقع بعد زيارة المرحوم معاوية لاذاعة صفاقس للاطلاع على حاضرها وآفاق تطويرها … يومها التقيته في كواليس الاذاعة وكان صحبة زميلي رشيد الفازع الذي انتمى في بداية السبعينات الى نفس دفعتي عندما قامت بتكويننا لتدعيم التلفزة التونسية باطارات جديدة كلّ في اختصاصه ..رحّب بي المرحوم صلاح الدين معاويو وهمس لي: ايّا اش قولك تشدلي انتي اذاعة الشباب ؟؟ ..واذاعة الشباب هذه انطلقت في اذاعة صفاقس منذ 1988 وهي عبارة عن فترة زمنية بساعتين من السابعة الى التاسعة مساء… فوجئت صدقا بالمقترح ..وعرفت في ما بعد انّ المرحوم صلاح الدين معاوي كان ومنذ بداية الثمانينات متابعا لاخباري بحلوها ومرّها في اذاعة صفاقس ..

اعيد القول اني فوجئت بالمقترح ..بل لم يستهوني ..وهاكم الاسباب ..انا منذ دخولي لمصدح اذاعة صفاقس كان لي مخطط لمستقبلي المهني ..هذا كان مخطّطي: 10 سنوات اذاعة …10 سنوات تلفزة … وبقية العمر ان طال العمر للسينما …. و(اللي يحسب وحدو يفضلّو) لان الانسان في كلّ حالاته ..في طفولته .. في شبابه .. في كهولته .. في شيخوخته ..وفي كلّ قرارات حياته منذ الولادة الى المغادرة لا تخطيط له ..نعم هنالك “اجندا الهية” نخضع اليها جميعا .. قد تاخذنا نرجسيتنا وثويريتنا لنقول: سافعل .. سافعل .. سافعل ..ولكن وعند الوصول الى سنّ الحكمة سنكتشف اننا جميعا خاضعون للاجندا الالهية … انا كنت وسابقى دائما من المؤمنين بالارادة والطموح والفعل …وهذا لا يتنافى مع ما قلته بل هو متناسق مع (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ..

اعود للعرض المقترح من السيد صلاح الدين معاوي وكان ردّي الفوري: تي انا نخمم نوقّف العمل متاعي في الاذاعة لانتقل للعمل كمخرج في التلفزة وانت تقللي اذاعة الشباب ؟؟ وفعلا انا منذ سنة 88 قررت التحضير لمغادرة المصدح ولكن على مراحل اوّلها ردم كوكتيل من البريد الى الاثير واعلان وفاته .. بالمناسبة، عندما سمع المرحوم صالح جغام بنيّتي في ايقاف الكوكتيل (قطّع شعرو) كما تعرفونه رحمه الله عندما يغضب ..طلبني هاتفيا وقال لي: يا خويا عبدالكريم يخخي هبلت توقف الكوكتيل ؟؟ برنامجك ضارب ودائما الاول في الاستفتاءات السنوية .. اش قام عليك ؟؟ ضحكت وقلت له يا صالح ستعرف يوما الاسباب وبعدها نحكيو…

انذاك فكرت في ايقاف الكوكتيل وفعلت ..الكوكتيل اصبح في اذهان المستمعين اسطورة ..وانا من موقعي الفكري كنت دوما ضدّ الاساطير … اذن عليّ ان اكون متناسقا مع نفسي واوقف الاسطورة ..نعم ربما بقساوة على نفسي وعلى المستمعين اوقفت الكوكتيل ..وتلك هي المرحلة الاولى ..وفي المرحلة الثانية التجات للتعويض .. عوضته في مرحلة اولى ببرنامج مساء السبت ثم باصدقاء الليل …واختيار هذه المواقيت كان مقصودا ايضا ..كنت محسودا على فترة الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار وكان بعض الحساد ينسبون نجاحي الى تلك الفترة الزمنية من اليوم ..لذلك ومع كوكتيل الاصيل ومع البرامج التي ذكرتها كنت اريد ان ابرهن انّ نجاح ايّ برنامج ليس مأتاه فترته الزمنية… بل اقول اكثر من ذلك، المنشط هو الذي يخلق الفترة الزمنية وليست الفترة الزمنية هي التي تخلق نجاح المنشط ..وحتى عندما اوقفت الكوكتيل وعوضته بمساء السبت كان في نيتي وبكل حزم ان انهي علاقتي بالمصدح سنة 1990 لانتقل الى مخططي وادخل في الحقبة الثانية وبدءا من 1990 في عشرية العمل التلفزي …

سمعني السيد صلاح الدين معاوي بانتباه وبتركيز شديدين وانا اعلمه بنية مغادرتي العمل الاذاعي سنة 90… وقال لي (ما اختلفناش… شدّلي اذاعة الشباب توة، وعام 90 يعمل ربّي .. هذا طلب اعتبرو من صديق موش من رئيس مدير عام) ..ابتسمت وقلت له طلبك عزيز وعلى العين والراس لكن بشرط ….في بالي فيه البركة مع الورقة 85 .. وطبعا ندّلل عليكم لاترك ماهيّة شرطي الذي وضعته، للورقة المقبلة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

رغم عيوبه السبعة… الأمريكان يعيدون دونالد ترامب، ولا يستعيدون “معجزة” 2008!

نشرت

في

عبد القادر المقري:

فوز دونالد ترامب بعهدة ثانية (غير متصلة) في سدة البيت الأبيض يحمل معه عددا لامتناهيا من الدلالات… خاصة إذا عرفنا أن منصب الرئيس الأمريكي هو عبارة عن “واجهة” لتوازن قوى وإرادات ونوايا داخل الطبقة النافذة وأجهزتها، بأكبر قوة على الأرض حاليا.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

قد يبدو الأمر مستغربا خاصة من وجهة بلدان كمنطقتنا حيث تتجمع كل السلطات في يد شخص واحد تسبغ عليه أجلّ الأوصاف البشرية وفوق البشرية وحتى الإلهية… وهذا طبيعي بحكم الموروث الذي تراكم لدينا على مر آلاف السنوات، وتمركزت فيه السلطة بشكل مبالغ فيه لدى أفراد حملوا مختلف الألقاب التي توحي بالعظمة والقهر والسلطان المطلق، وبات ذلك مقبولا وبديهيا لدى العامة مهما كانت قشور بعض الدمقرطة هنا وهناك… وحتى في العشرية الماضية التي يسوّق أصحابها أنها كانت قوسين ديمقراطيين وسط عصور من الاستبداد، فلقد تصرف “الديمقراطيون” بشكل لا يختلف عمن سبق وعمن لحق… ويكفي هنا التذكير بذلك “الاعتصام” الذي دفعوا إليه بأنصارهم سنة 2012 أمام مبنى التلفزة التونسية، وطالبوا خلاله بعودة الإعلام الوطني إلى تمجيد “إنجازات” الحاكم، بدل عملنا الإخباري المحايد الذي حاولنا الشروع فيه بعد جانفي 2011…

إذن أسفرت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن عودة دونالد ترامب إلى الحكم مجددا كإحدى النوادر في تاريخ تلك البلاد… إذ تذكر المصادر أنه وحده رئيس قديم يدعى “كليفلاند” حكم في بداية القرن 19 فترة أولى، ثم خسر معركة التجديد، وعاد بعد ذلك إلى البيت الأبيض … أما الـ 55 رئيسا الباقون فكانوا إما يجددون وهم في مكانهم، أو يخرجون خروجا لا رجعة بعده… وهذا قد يعكس قوة شكيمة لدى شخصية ترامب المضارب العقاري الذي لا ييأس وفي جعبته صبر التجار وعنادهم الأزلي… ويترجم هذا الرجوع خاصة رغبة الـ “إستابليشمنت” الأمريكي في حسم بعض الملفات التي بقيت مفتوحة، بل مبعثرة الأوراق، في عهد العجوز المريض جو بايدن…

من هذه الملفات أو في صدارتها الحرب في أوكرانيا… هي كما وصفها عديدون حرب أوروبية أوروبية، وقد اندفعت في خوضها (بالوكالة) إدارة بايدن أولا لتأكيد زعامة الولايات المتحدة على الحلف الأطلسي… وثانيا ربما لانتماء الرئيس المتخلي إلى جيل ولد ونشأ وكبر ومارس السياسة والأعمال زمن الحرب الباردة، وخلّف ذلك لديه نفورا من السوفيات والروس وكل ما له صلة بهم… فضلا عن سبب ثالث يتم التطرق إليه بين الفينة والأخرى وهو أنشطة ابنه “هونتر” التجارية ومصالحه بأوكرانيا، فيما يتهم الروس بايدن الإبن بامتلاك مختبرات في كييف لإنتاج أسلحة كيميائية… وعلى العموم، فقد كلفت هذه الحرب الخزينة الأمريكية ما يزيد عن 174 مليار دولار على الأقل، من المساعدات العسكرية والاقتصادية … حسب آخر تصويت من الكونغرس (الذي كان يسيطر عليه الديمقراطيون) في شهر أفريل الماضي…

وفي هذا الباب، يقف دونالد ترامب على النقيض من بايدن… فمعروف عنه موقفه غير العدائي من روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين خاصة… بل يمكن وصف علاقة الطرفين بنوع من التفاهم إن لم يكن بالصداقة… كما أن ترامب ينتهج بعضا من نظرية “مونرو” الانكفائية خصوصا في ما يتعلق بعدم الالتزام بقضايا لا تهم المصلحة الأمريكية المباشرة… فكما قلنا، الصراع الأوكراني هو شأن أوروبي، ومكانة هذه القارة (سيما بعد أن أصبحت اتحادا) في سياسة ترامب لا تعدو كونها منطقة منافسة أكثر منها حليفا تندفع الولايات المتحدة للذود عنه والإنفاق عليه…. وهذا ما يفسر تخوف العواصم الأوروبية من مآل السباق نحو البيت الأبيض، وهي عارفة ما ينتظرها في صورة رجوع ترامب بعد أن جربته في العهدة الأولى…

وتبعا لهذا، من المنتظر رؤية عديد الالتزامات الأمريكية الخارجية تتقلص إن لم نقل تتلاشى بصفة شبه كلية… لا ننسى أن ترامب انسحب من تعهدات دولية عديدة كالتي حول المناخ مثلا، وأهم منها تهديده المستمر بالانسحاب من الحلف الأطلسي ولو جزئيا… ويستتبع ذلك كما أسلفنا انحسار “السخاء” الأمريكي في مساعدة دول هذا الحلف عسكريا وحتى اقتصاديا… دول هذا الحلف ومن ترضى عنه هذه الدول أيضا… ولعل أول من استبق هذا الانحسار، كان إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي الذي سارع إلى ترميم علاقاته بدولة كالمغرب… وقد تتبع ذلك خطوات مماثلة مع دول عربية وإفريقية تجمعها علاقات “تاريخية” بفرنسا والمتروبول الأوروبي عامة (في سياسات الهجرة والتأشيرات ربما)… وقد تمثل هذه الفضاءات وأسواقها بديلا، إلى حد ما، عن الدعم الأمريكي لاقتصاد القارة العجوز… عكس ما يتوقعه اليمين الأوروبي المتطرف من قمع متزايد للهجرة، اقتداء بسياسات ترامب في بلاده من هذه الناحية…

فلسطينيا… وإن كانت سياسة واشنطن المنحازة كليا للكيان الإسرائيلي لا تختلف بين شتى الجالسين في المكتب البيضاوي، إلا أن تفاصيل صغيرة قد تتغير مع إمساك ترامب بمقاليد إدارة الصراع… وهنا يتوجب الانتباه إلى الدور الإيراني في مجريات الأحداث الأخيرة الناجمة عن هجوم 7 أكتوبر 2023 وما تلاه من عدوان إسرائيلي ماحق على غزة والحنوب اللبناني… وسواء كان الطرف الثاني في مواجهة الاحتلال منظمة حماس أو تنظيم “حزب الله”، فإن هذه الفصائل تمثل باعتراف إيران نفسها، أذرع طهران في المنطقة إضافة إلى مثيلاتها في سوريا والعراق واليمن البعيد…

وإذا كانت المواجهة في عهد بايدن ظلت تكتفي بمحاربة الأذرع العربية دون المساس بالجوهر الإيراني، فإنها مع ترامب قد تغيّر مسارها ومرماها تماما… ترامب له حساب قديم مع طهران وبرنامجها النووي وليس في وارده “ملاطفة” إيران كما فعل بايدن، كما أنه قد يركز على ضرب إيران مباشرة وتهدئة الجبهة مع أذرعها… مما قد يفضي إلى تشجيع تغيير في حكومة الكيان (وقد بدأت التصدعات بعد في فريق نتنياهو) يقضي بوقف ولو تدريجي لإطلاق النار في قطاع غزة وجنوب لبنان…

يقيت نقطة أخيرة في ما يخص “كامالا هاريس” المرشحة سيئة الحظ… لقد أثبتت هذه المرأة رغم هزيمتها، شجاعة وديناميكية منقطعتي النظير… امتطت قطار الانتخابات وهو سائر لتعويض “جو بايدن” بُعيد انسحابه المفاجئ في 21 جويلية الماضي… فيما كانت الحملة الانتخابية في أوجها على مسافة 100 يوم فقط من يوم الاقتراع، وفيما كان منافسها ترامب جاهزا منذ أشهر وحملته ماضية على أشدها… فكان عليها أولا الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي ولم يكن ذلك بديهيا، ثم خوض حملة طاحنة في فترة قصيرة، ثم خاصة الرد على مثالب الخصم الشرس حول رئيسها وفترة حكمه، ثم حولها شخصيا وحول مقدار كفاءتها لاعتلاء منصب الرئيس…

ولئن تجاوزت الولايات المتحدة إرثها المثقل بالميز العنصري عند انتخاب أوباما كأول رئيس أسود ومن أصول غير بروتستانتية (ولا مسيحية حتى) سنة 2008، ولأسباب انكشف أنها جاءت وفق “كاستينغ” متلائم مع مرحلة تصعيد الإسلام السياسي لحكم البلاد العربية… فإنه لا يبدو أن ذلك سيتكرر بسهولة، خاصة أن هاريس تعترضها “عوائق” ما زالت ذات وزن في العقلية الأمريكية والغربية عامة… ورغم التطور الكبير في العقليات، إلا أنه يبدو أنه لم يحن الوقت بعد لرؤية امرأة على رأس بعض الديمقراطيات الكبرى… فقد فشلت “هيلاري كلينتون” سنة 2016 في سباق مماثل نحو الرئاسة الأمريكية، كما فشلت قبلها “سيغولين روايال” في فرنسا سنة 2007، وكلاهما بيضاوان أوروبيتان أصلا ومفصلا…

وهذا ما يضيف أسهما إلى شجاعة امرأة ذات أصول إفريقية وآسياوية، مثل كامالا هاريس…

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 84

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الحديث عن ايطاليا البلد الذي احتوانا في تدرّبنا بالراي اونو حديث يحتاج الى مجلّدات .. اليوم ساحدثكم عن ايطاليا والمعمار والجمال ..

عبد الكريم قطاطة

لا نختلف في انّ جمال المدن الايطالية له رونق خاص وهذا ما دفع بالبعض وهو يصف بعض هذا الجمال يردد مقولات من نوع: (اشاهد فينيسيا، اي “البندقية” المدينة العائمة، ثم اموت) VEDERE VENEZIA E MORIRE .. … رغم انّ تاريخ هذه المقولة يؤكّد انها قيلت عن مدينة نابولي وليس فينيزيا ..ولانّ الجنوب كان ومازال ضحية التحيّل والظلم، تحوّل المثل الى البندقية … اي نعم كل جنوب قدره الاحتقار ..وحتى ايطاليا نفسها الواقعة في جنوب اوروبا يعتبرها الاوروبيون الاخرون حثالة اوروبا… رغم انهم يدركون جيدا انّ الفنّ خُلق في ايطاليا ..والسباغيتي ايطالية او لا تكون… والمثلجات بفففففففففف دنيا اخرى .. خللي عاد من الكورة المحنونة .. نودّكم ولا نشهّيكم ..

نحكي على اوروبا .. اما كي نحكيو على العالم كُرويا بالنسبة لي تبقى البرازيل عنوان السحر وتجي بعدها تونس (متاع الجرو والقادري!! .. ايّا نبدّلو هالصحيّن) .. في زمن ما… القرن الخامس عشر… اصبحت ايطاليا زعيمة العالم ورائدته في الفنون والثقافة ..وهو ما يسمّى عصر النهضة ..طبعا النهضة متاعهم موش النهضة متاعنا …ما اقرب طز لشرّڨ …في ذلك الزمن وتحديدا في افريل 1507 وضع البابا يوليوس الثاني حجر الاساس لبناء معلم الفاتيكان… والذي هو وبعبارة موجزة يمثّل مكّة بالنسبة للمسيحيين، لانّه مركز القيادة الروحية للكنبسة الكاتوليكيّة… وككل المشاريع الضخمة في المعمار كان عرضة للعراقيل لانّ بناء معلم الفاتيكان نهائيا لم يتمّ الا في 14 ماي سنة 1590 …

وكيف نكون في روما ولا نزور الفاتيكان؟ … الفاتيكان اصبحت فيما بعد اصغر دولة في العالم 0 فاصل 49 كيلومتر مربع مساحة… وسكانا لا يتجاوز تعداده 850 فردا ..هذه المعلومات اسوقها فقط للتذكير بها لكن ما هالني وانا ألج إلى كاتدرائية “الفاتيكان”سيكستين” هذا المعمار الضخم والرهيب …كنت اتساءل كيف للانسان في ذلك الزمن (القرن 15) ان يشيّد مثل ذلك المعلم وبذلك الحجم ..اعمدة رهيبة طولا وسُمكا .. كيف صنعوها ؟؟ كيف رفعوها وهي طولا بحجم عشرات الامتار وسُمكا بقطر دائري ضخم؟؟ .. بكلّ امانة لم ار في حياتي لا الواقعية ولا الافتراضية معلما بتلك العظمة… وهو مُحلّى بابهى الزخارف والفسيفساء اتسمعني ليونارد ديفنشي ؟؟ وبتماثيل عملاقة … قلت في بداية توصيفي له هذا المعلم الرهيب ..اي نعم ..رهبته تتمثّل في انّ كلّ من لا يحمل في قلبه ايمانا عميقا بالاسلام، قادر هناك في لحظات وجيزة ان يعتنق العقيدة المسيحية !…

معلم آخر وهو في قلب العاصمة روما لا يمكن لكلّ زائر للمدينة الخالدة ان لا يذهب اليه .. انها نافورة تريفي (لافونتانا دي تريفي) ..النافورة تُعدّ من اجمل نافورات العالم وهي من مواليد القرن السابع عشر واستغرق بناؤها 30 سنة… و منذ ولادتها ولحدّ الان ظلت محلّ رعاية واصلاح وتطوير (كيف المعالم التونسية اللي عندنا بالضبط قريب يطيحو على روسنا … وهي المصنفة في خانة “دار الخلاء تبيع اللفت”)… الشيء الخاص بنافورة تريفي انّها تختزن اسطورة منذ القدم ..فالسائح عند الوقوف امامها عليه ان يرمي بقطعة نقدية في فسقيّتها… حسب المعتقدات الايطالية، فإن القاء تلك القطعة النقديّة يحقّق لصاحبها كلّ ما يتمنّى وحتما سيعود لزيارة روما ..انا كنت طبعا من الذين القوا بالقطعة النقدية .. فقط لاخذ صور تذكارية … ولانّ نيتي كانت مخوّزة .. لم تتحقق برشة امنيات ومللي دفنوه ما زاروه …

الايطالي في حياته انسان (تعشقو عشق) يحبّ جدّا الحياة بكلّ ملذّاتها .. وفي نفس الوقت يؤمن بالعمل كقيمة حضاريّة ..الايطالي يمكن ان نفهمه من اغنية لـ”توتو كوتونيو” بعنوان (دعوني اغنّ)… لاشاتا مي كانتاري… لانه حتى وهو يتحدّث ويداه في حركات سمفونية رائعة، يغنّي .. حتى وهو يمشي (وهنا الاصحّ حتى وهي تمشي) هي تغنّي وترقص …الباعة الذين ينتصبون كلّ ايام الاسبوع في اماكن مخصصة لهم يعرضون بضاعتهم على الآخرين وهم يغنّون .. ربما هم من فهموا (المغنى حياة الروح … يسمعها العليل تشفيه ..وتداوي كبد مجروح ..تحتار الاطباء فيه ..وتخلّي ظلام الليل .. بعيون الاحبّة ضيّ .. شوي شوي شوي شوي غنيلي وخذ عينيّ) .. اصبحت لديّ شكوك في انّ الكبير محمود بيرم التونسي صاحب كلمات هذه الاغنية عمل حرقة في زمانو لايطاليا واستلهم من روح شعبها الفنان في كلّ شيء ..اغنية الستّ غنيلي شويّ شويّ …

وهنا يتوقف قلمي عن مواصلة الكتابة ..معناها بعد رائعة بيرم كلمة، وزكرياء احمد تلحينا، والستّ غناء نواصل انا في لغوي؟؟ عيب يا عبدالكريم عيب …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار