وكالات الأسفار العالمية تُفاوضنا على سعر الليلة المقضّاة … بثمن قهوة في باريس !
نشرت
قبل سنة واحدة
في
كان لي حديثٌ مؤخرا مع أحد الرياديين التونسيين في المجال السياحي الذي أكّد لي أن وكالات الأسفار العالمية بصدد مفاوضة أصحاب النزل التونسية بشأن سعر الليلة المقضّاة في بلادنا التي لا يجب أن تتجاوز 16 يورو حسب تقديرها. ..
نعم حوالي 50 دينارا لا أكثر… مقابل 3 وجبات أكل مُدعّمة (من عِظام التونسيين) ببيضها ولحمها وشوائها وشرابها ومائها وغلالها، ولِقاء مسابحها المكشوفة منها والمغطاة، وبحرها وشمسها ومساحاتها التنشيطية وغرفها التي لا يجب أن ترقى إليها أدنى الشبهات على مستوى رفاه النوم ونظافة الأغطية والخدمات المنقولة في أية ساعة من ساعات الليل …وعاملين يُطلب منهم الابتسامة الموزونة الدائمة والعناية المسترسلة وإجادة التواصل بكل لغات العالم.
وإن هذا الوضع غير الطبيعي ليطرح جملة من الأسئلة المحيّرة والمُلحّة التي من المفروض أن تجيب عنها الدولة ووزارة السياحة والقائمون عليها بشكل خاص، منها :
ألا تندرج مثل هذه السلوكات والسياسات الأجنبية المتعجرفة في سياق انتهاك سيادتنا الوطنية والإمعان في استغلال ثرواتنا الوطنية دون أدنى مقابل تقريبا … بما يفرض إعادة النظر بشكل عاجل وعميق في سياساتنا المتّبعة في المجال ووضع جملة من المحاذير والضوابط الصارمة، في علاقة بأسعار البيع التي يتعيّن الالتزام بها وعدم النزول تحتها … مهما كان حجم المنافسة العالمية وحاجة تونس إلى مجلوبات ضخمة من العملة الصعبة ؟
تقول الاحصائيات الرسمية للحكومة التونسية لسنة 2019 أن معدل استهلاك “السرير السياحي في اليوم الواحد” من الماء الصالح للشراب لا يقلّ عن 611 لترا . والحال أنه يكفي بين 150 و 200 لتر فقط لتعبئة حوض الاستحمام، ففي فرنسا على سبيل المثال لا يتجاوز معدل الاستهلاك 148 لترا في اليوم الواحد لكل مواطن (إحصائيات 2012) وفي انكلترا 149 لترا (إحصائيات 2018)، فأين تذهب بقية الماء المهدور ؟
كيف نسمح بكل هذا الهدر المُدمّر للبيئة وأخلاق المحافظة عليها في وقت تعلن فيه الحكومة حالة الجفاف كجائحة طبيعية وجب التصدي لها، من خلال اتخاذ إجراءات تقشفيّة وابتداع حوْكمة جديدة للتصرف في نُدرة المياه وانحباس الأمطار وعدم امتلاء السّدود، وعدم الانتهاء بعدُ من تشييد محطات التّحلية المبرمجة في المجال ؟
إن فلاحتنا أجدر بهذه المياه النادرة من سياحة لا نجني منها شيئا تقريبا وإن السائح الأجنبي ليس أقرب إلى قلوبنا من فلاحينا الذين أُجبروا على ترك أراضيهم بورًا هذه السنة أمام شحّة مياه الريّ … ولا ملاليمُهُ أكثر فائدة علينا من حاجاتنا إلى خُضرٍ أشاحت بوجهها الطازج عنّا، وغلالٍ متهالكة وشاحبة لكنها تجرؤ على تحدّي جيوبنا الأكثر شحوبا وثقوبا.
تونس ثمنها غال لأن الهواء فيها دواء والماء في تجاويفها شفاء !
لو حاولنا اختزال الوِجهة التونسية وتقشيرها كما هي في ذهن عدد غير قليل من السيّاح الأجانب لاكتشفنا أن الصورة المنمّطة في مخيّلتهم لا تتجاوز رُقعة أرض مجهريّة تُطلّ على جنوب أوروبا وتترأس القارة الإفريقية، تؤثّثها بعض الكُثبان الرمليّة الصالحة لممارسة رياضة الكْواد، والكثير من الشواطئ والمسابح المحجوزة والمؤمّنة جيدا كأنها أملاك عائلية وخاصة لا يتطلب السّفر إليها لا جوازا ولا تلاقيح ولا إجراءات خاصة ولا أموالا طائلة.
والمعضلة أن هذه الصورة الدّونيّة البائسة حول تونس لم تشتغل دولتنا بما فيه الكفاية والحِرفيّة على وأدِها، لفائدة صورة جديدة تقوم على تثمين ما تتجمّل به بلادنا من عناصر ثقافية وتراثية ومعمارية ومناخية وتاريخية نادرا جدا ما تجتمع في بلد واحد. وهو تشكيل زُخرفي متفرّد يجب أن يستحضره جيدا السائح “المتعالي” قبل اتخاذ قراره بزيارة واحدة من أكثر البلدان عراقة وثراءً في كامل حوض البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي فإن الفضل يعود إلينا أولا كوننا فتحنا أبواب خزائن تاريخنا أمام الناظرين لا إلى جحافل جاهلة بتاريخنا بل ومحتقرة له في بعض الأحيان. وهو أمر طبيعي إلى حدّ ما لأنهم :
لا يعرفون أنه من المفروض ألاّ تطأ أقدامهم مدينة قرطاج ومتحفها وآثارها إلا بعد دفع ثمن يليق يمنزلة هذا الموقع (الذي يفوق في قيمته التاريخية وتفرّده أكبر المتاحف في العالم كالبرادو في مدريد أو اللوفر في باريس أو المتحف البريطاني في لندن) كونه سليل حضارة افترشت كامل المتوسّط مهدا لها وكانت رائدة في صناعة السفن وكانت مأهولة في أوج تطورها بما لا يقل عن 700 ألف ساكن حسب المؤرخ اليوناني سترابون لمّا كانت البلدان التي يأتي منها هؤلاء السيّاح مازالت لم تُكتشف بعدُ.
ولأنهم لم يقرؤوا أن أجمل لوحات الفسيفساء في العالم، نحن نؤويها وأن أرقى أنواع الرّخام، بلادنا تحويها.
ولأنهم لم يتعلّموا أن مدينة “غراس” الفرنسية المتخصصة في صناعة أجود أنواع العطور تعرف جيدا من أين تتزود بمستخلصات النيرولي (الزيت المستخرج من زهر الأرانج) والياسمين والفل وشتى أنواع الورود.
ولأن وكالات الأسفار وسائر منصّات الويب لا تجرؤ على تقديم حنبعل على أنه قائد تونسيّ تجرّأ على اعتلاء جبال الألب لترتعد فرائص روما أمام فيلته وجنوده الثمانين ألفا … مكتفية بالقول إنه قائد قرطاجني عُرف بخدعه العسكرية.
ولأنهم يتناسون أن كوليزيه الجم مسجل كتراث عالمي قبل كوليزيه روما وهو الوحيد في العالم المبني بكامله من الحجارة المصقولة من الداخل والخارج، وأن رخام شمتو المحاذية لبيلاريجيا يُزيّن ما يتباهى به الطّلاين في روما.
ولأننا باختصار جعلناهم يجهلون أن المعالم التقليدية البارزة التي يزورونها لِمامًا خلال بعض السّويعات مثل متحف باردو وأسواق المدينة العتيقة وشط الجريد ووديان تامغزة وركوب الجمال في صحراء دوز… ليست سوى الجزء البارز من جبل الجليد التونسي المكتنز ثراءً وعمقًا ووهجًا لا ينطفئ.
السائح التونسي والجزائري… مثل “لحمة الكرومة”
على النحو الذي يشتري به السائح الأجنبي لياليه المقضّاة في تونس، من الواضح أن السائح المحلي يدفع بالدينار التونسي أو الجزائري أضعاف ما يُنفقه نظيره الفرنسي أو الرّوسي ومقابل خدمات مُثخنة بالأفكار المسبقة والنظرة الاستعلائية التي تضع دائما السائح القادم من وراء البحار في منزلة أعلى حتى وإن دفع ثمنا أدنى (ملاحظة : السائح الأجنبي لا يدفع مليما أبيض واحدا كإكراميّة لأي واحد من جيش العاملين الموضوعين على ذمّته). ويحاول بعض “السياحيّين” تبرير هذا التّفضيل بكون السياح المحليين يكونون في الغالب مرفوقين بأطفال صغار يُحدثون هرجًا ومرجًا داخل فضاءات النزل وأن السائح العربي بصورة عامة ميّال إلى التّبذير ومُسرفٌ في تكديس الأكل على طاولته مدفوعة الثمن عاليا. وعليه، يجدر بنا اليوم – والحال كما هو – تمتيع السائح المحلي بنوع من الاستثناء “الوطني” يُجيز له مساحة ولو ضئيلة من الاستجمام بأسعار تفاضلية وتسهيلات مختلفة تتعهّد بها المنظمات الاجتماعية والهيئات المختلفة كما هو معمول به بلدان مجاورة.
الدولة بوسعها تماما فرض استجلاب كامل الأموال المدفوعة في الخارج
الجميع يعرف الآن أن أقساطا كبيرة من الأموال التي يدفعها السياح الأجانب إلى وكالات الأسفار في الخارج لا تدخل البلاد وبالتالي لا يستفيد منها اقتصادنا الوطني بقدر ما يستفيد منها أصحاب النزل وعائلاتهم في تجوالهم وترحالهم وتسوّقهم في عواصم العالم…وفي ذلك هدر كبير للعملة الصعبة وتهريب “مقنّع” لأموال كم نحن في حاجة إليها حتى وإن ضُخّت في حسابات المستفيدين المباشرين أي أصحاب النزل والمؤسسات السياحية المختلفة.
ملاحظة أخيرة نسوقها في سياق تفعيل حقيقي للذود عن سيادة بلادنا: إن طوابير الاهانة والإذلال التي تمارسها بعض سفارات الدول الأجنبية على الراغبين في السفر من التونسيين لأجل الحصول على تأشيرة، يحقّ أن تردّ عليها دولتنا بفرض تأشيرات دخول على مواطنيها الراغبين في زيارة بلادنا في إطار المعاملة بالمِثل والعمل بالمَثَل الشعبي “فين تحطّ نفسك تصيبها”.