جور نار

ونحنُ نودّع صهيد الكوفيد، لا تنسوا …

نشرت

في

لم يكن كوفيد 19، مُجرّد قوس عابر أو فاصلة بسيطة في حياة البشرية، لأنه غيّرها بشكل عميق ونهائي إلى حدّ اعتبره الكثيرون بوّابة أو معبرا بين عالم كان قائما وعالم جديد، بدأت تتشكّل ملامحه.

<strong>منصف الخميري<strong>

حصد الكوفيد إلى غاية 11 فيفري 2022 حوالي 27000 شخصا من التونسيين و6 ملايين من البشر  في العالم (أي ما يعادل عُشر ضحايا الحرب العالمية الثانية)، بما يُفيد بأنه سيكون عنوانا بارزا في سجلآّت التاريخ مثله مثل أوبئة الكوليرا والطاعون وأزمة 1929 والحرب الباردة …

ومن حسن حظ الانسانية اليوم أنه تمّ لجْمُ الفيروس بشكل كبير وقريبا يُصنّف ضمن كبرى الأوبئة الأكثر فَتْكًا  في التاريخ، ولكن لا تنسوا:

أنّه كان لنا أحبّة وأهل فقدناهم وأعزّاء فارقناهم ولم تُتح لنا حتى فرصة توديعهم بما يليق بمكانتهم في قلوبنا وعذب عبورهم على جسر حياتنا.  نترحّم عليهم ونتذكّرهم ونستعيد شَهْد كلامهم ووهج حضورهم بيننا وكميات الفرح العارم التي كانوا ينشرونها بيننا وصُلب عائلاتهم.  و كانوا في رحيلهم المُبكّر كأنّهم يوصوننا حبّا بالنّاجين منّا ويناشدوننا بتذكّر أن ساعة الرحيل الأبدي أقرب من نيْل بعض الفُتات البائس واليابس على مائدة الجشع والطمع ونهم الكلاب.  

وأنه تبيّن خلال أزمة الكوفيد بشكل ساطع أن الصحة العمومية قطاع أودعنا فيه حياتنا ولا خيار أمامنا سوى إعادة النظر في إعادة هيكلته وتمويله وحوْكمته وجعله على مدى عشرية واحدة، واحدا من القطاعات التي تستجيب كُليّا لحاجيات التونسيين وانتظاراتهم.  ولا بد من القول هنا إن المنظومة الصحية القوية وجوْدة خدماتها في البلدان الأوروبية والعالم المتطور هي التي ساهمت في كبح جِماح كورونا وإنقاذ البشرية. من ناحية أخرى، لنا في تونس أنموذج نجاح باهر للصحة العمومية يتمثل في مستوى الخدمات الطبية بالمستشفى العسكري وأقسام عديدة في المستشفيات العمومية الأخرى… وأن العقلية والكفاءات البشرية التي بنت هذه التجارب الناجحة قادرة تماما على بنائها وتعميمها في كل أرجاء البلد.

وأن الذي حسم هذه المعركة الضّارية ضد الكوفيد في النهاية كان العلم والطب واللقاح وليس التضرّع والتشفّع والابتهال. وعليه، نحن مدعوّون كعرب للتوقّف عن حشر الشعوذات  المتلحّفة بالدين في مواجهة ما هو من مشمولات البحث العلمي والمخابر ومُنتجات العقل المتحرر من الخرافة.

وأن السيادة الوطنية ليست مالية واقتصادية وحُدوديّة فحسب وإنما هي اكتفاء ذاتي طبي وأدواتي وغذائي … وبالتالي هي سيادة شاملة أو لا تكون. وفي سياق الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا اليوم، باستطاعة سهول الفحص وباجة وبوسالم والكريب لوحدها أن تفي بحاجياتنا من القمح والسّميد دون الارتجاف خيفة من انعكاسات الحرب على معاشنا وعشائنا.

وأن أطباءنا وممرّضينا ساهموا بفضل مهارتهم في إنقاذ البشرية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا وغيرها من البلدان في العالم، وهي مَأثرة تُحسب لأبناء مدرستنا وجامعاتنا التونسية العريقة.  

وأن التعليم والتكوين والعمل عن بُعد… قدر مُحتّم لأن الكوفيد أعطانا طَعْما قبْليّا لما سيحدث في العالم خلال السنوات القادمة، فأصبحنا نتشوّف ملامح عصر تُسدى فيه الدروس عن بُعد وتُقدّم فيه الخدمات افتراضيا وتُنجز فيه الأعمال من البيوت وتُختزل  فيه مباني الإدارات الضخمة لتؤول إلى مجرد روابط وقواعد وبوّابات رقمية على أجهزة الهواتف واللوحات الذكيّة. وهذا أمر يتطلب منّا استعدادا وتأهيلا وتخطيطا على أعلى المستويات.

وأنّه على الجامعة التونسية أن تستفيد من تجربة الكوفيد في مجال هندسة التكوين وتصميم مضامين البرامج وبناء التصورات للمستقبل، أمام انهيار قطاعات تقليدية وصعود قطاعات أخرى استطاعت التأقلم بسرعة وتحقيق أرقام خيالية (التطبيقات الرقمية، المنصات التعليمية، السلامة المعلوماتية، الطب عن بعد وخدمات التوزيع والتوصيل … وكل الأشكال الجديدة من العمل والمناويل التجارية المعتمدة على التكنولوجيات الحديثة التي تضع مسدي الخدمات والحريف في علاقة حينيّة مُبتكرة).

وأن جواز السفر لم يعد سيّد عناوين العبور كما بالأمس، فأصبح ينافسه اليوم جواز التلقيح وغدا ربما جوازات أخرى لغوية ورقمية وثقافية وفكرية مثل إتقان لغة معينة أو عدم تبني أفكار ما (داعش مارست الجواز الديني حين كان جنودها يطلبون من العابرين تلاوة آيات من الذكر الحكيم للتأكّد من سلامة تديّنهم !).

وأن اللغة كائن حي يتطور وينمو ويتغير مع تغير أحوال الناس. فقد أتى الفيروس حاملا قاموسا جديدا تؤثّثه الكمّامات والتباعد وجواز التلقيح وجرعات اللقاح وتعزيز الدفاعات المناعيّة والمطهّر الكحولي والحجر الصحي ورفع الحجر و”الأربعطاشية” quatorzaine بدلا من الأربعينية والإصابة دون أعراض والــ PCR…(يُتوقّع أن يشهد القاموس الفرنسي دخول 170 كلمة جديدة ذات علاقة بالكوفيد في طبعة 2022) إضافة إلى العمل والتسوّق عن بُعد وأشكال جديدة من إلقاء التحية في إطار التعويض عن فقدان عادة اللّمس والاتصال الجسدي التي تربّت عليها الانسانية على امتداد آلاف السّنين.  

وأن التوازنات الحالية هشة جدا، فيكفي انتشار فيروس مجهري حتى تنتهي الحياة الاجتماعية بشكلها الحالي من على وجه الأرض بسياراتها وطرقاتها ومطاعمها ومدارسها وفضاءاتها العامة وأعمدة دخان مصانعها.

وأن الحب والودّ تراجعا إلى أدنى درجاتهما الطبيعية في ظل التباعد والانتفاء الجسدي وأصبح لفظيا وشفويا و”مْسيكن اللي ما يعرفش يعبّر عن بُعد، مْشى حنّة !” … وكذلك الموت الذي جُرّد من قداسته المألوفة فأضحى مجرّد وداع صامت تمارسه العيون والقلوب بحُرقة داخلية هادئة دون رتوش أو ولوَلات مفتعلة وتَدافعٍ نصفُه نفاق ورياء.

وأن العائلة هي الخليّة الأصلب، وأن التعويل على الذات هو الأبقى، وأن المصالحة مع الأرض والطبيعة هي الحصن النهائي، وأنه لا بد من إعادة ابتكار “المدينة” التي دجّنت متساكنيها وأردتهم مستهلكين سلبيين لسلع بائدة ومعروضات ليس بها فائدة.  

وأن قواعد حفظ الصحة أصبحت لها مكانة أكبر في عادات الناس اليومية مثل الانتباه إلى العطس والبصاق والتسليم الزائد عن اللزوم ونظافة اليدين وتهوئة الفضاءات الخاصة والعامة واجتناب “التڨجڨيج والتلوصيق والتحكحيك”  في الطوابير والمحلات المغلقة والضيقة…

وفي النهاية، لا تنسوا أيضا أن مرحلة الكوفيد أكّدت حُلول عصر “الكلّ الرقمي” والإنسان الرقمي والمستهلك المُرقمن والمؤثّر الفلّوري (الباحث(ة) عن المتابعين followers )، عصر أتاح مساحات شاسعة أمام التأثيرات الصدريّة وأسراب الطُّهاة والباعة المتجولين عبر القنوات والسّاسة العاملين كتيّاسة وباعة البخور ومقتضيات السّحور… على حساب الأفكار الكبيرة والمرتفعات الذهنية المُثيرة.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version