جور نار

… “و السيارة مش عم تمشي”

نشرت

في

نتجنب استسهال الدارجة قدر الإمكان، و خاصة لهجة إخوتنا الشوام التي حلّت (بفضل الأغاني و المسلسلات) محل فصحانا و دارجتنا في كل مقال و مقام … غير أن مشهدا قديما بليغا شدّني في مسرحية “ميس الريم” للأخوين رحباني، و يتعلق بعطب حصل لعربة عند مرورها بإحدى القرى … و هناك استنجدت صاحبة العربة بجميع من في القرية، و وجهائها خاصة، فأخفقوا جميعا في إصلاح المحرّك رغم نواياهم المعلنة أوّلا … و بأعلى الأصوات …

و هذا ما حدا بالبطلة أن تنشد بعد ذلك استخلاصا للموقف:

<strong>عبد القادر المقري<strong>

يحكو عن ورشة تصليح
وما عرفنا ويني ها الورشي
يغيب نهار
يطلّ نهار
والناطر ناطر على نار
يجي مختار ويروح مختار
والسيارة مش عم تمشي

و “المختار” في تلك البلاد قد يكون كالعمدة عندنا، أو المعتمد، أو الوالي، أو الوزير، أو ما أعلى قليلا أو كثيرا … أنت و همّتك !

قل في  وضعنا الحالي ما شئت تشاؤما أو تفاؤلا، و قل في من يحكموننا اليوم ما عنّ لك من غزل أو هجاء، و انظر إلى أشطار الكأس الملآن منها و الفارغ و الشقف لو لزم الأمر … و لكن المؤكد أن جسمنا التونسي عليل ممدود لا يكاد يتنفّس، و إن تنفّس فلزفرة حرّى و عين مرفوعة إلى السماء … و حتى لا تلتبس الأحكام، تدوم هذه الحال من سنوات أقلّها عشر، و فيها ما يمضي إلى أبعد من ذلك … هذا لمن يرى الأمور كما هي، و دون ارتداء نظّارة تحمل شارة أحد الأحزاب أو شعار إحدى الحملات …

المعيشة ما تنفك تتزايد في صعوبتها، و الخدمات في تردّيها، و رغبة الهجرة في ارتفاعها … من ينكر هذا؟ … السياسيون من كافة الحكومات المتعاقبة يبررون تارة و يزيّنون زينة لا نراها تارة أخرى … و المعارضون يفضحون ما يجري و هذا دورهم و تلك نافذتنا على الحقيقة مهما كانت نوايا القوّالين … و لكن السؤال الأهمّ هو: لماذا نتدهور يوما بعد يوم؟ و لماذا يتغيّر الأطباء و لا تخفّ الأسقام؟ و متى ننام و نصحو و نجد البلاد أخيرا خرجت من دوامة العبث التي تسحبها إلى القاع؟

لا جواب جاهز و لكن … يقول مفكر قديم: إذا اختلطت عليك السبل، فحاول العودة إلى نقطة البدء علّك تعثر منذ متى أخطأت الطريق … و هنا لنرجع قليلا إلى ما احتجّ عليه الناس أواخر 2010 و أوائل 2011، أليست هذه هي الأصول التي ما من سياسي إلا و أصمّ بها آذان الجمهور؟ … دعونا من لعبة التواريخ و هات الرسمي … الناس في تلك الفترة كانت تشكو أساسا من انعدام العدل، نقطة إلى السطر … فبماذا أجبنا على هذه الشكوى؟

*  *  *

كلمة “العدل” قصيرة في نطقها (مقطع واحد لا يكاد يُسمع) و لكن معانيها و فروع معانيها أطول مما نتصوّر:

العدل بين الأفراد … بين الجنسين … بين الأجناس … بين الجنسيات … بين الشرائح العمرية … بين الجهات … بين القطاعات … بين الثروات … بين الفئات إلخ إلخ

العدل أن يُجازَى الفرد و يعاقب بحسب أفعاله، لا بحسب نواياه أو معتقده أو ما تركه له الأجداد من مجد أو مسبّة.

العدل أن نتخلّى عن تقديس الألقاب الرسمية أمام الحقوق … فمن يعتدي على تلميذ بائس من قرية نائية، هو بالضبط كمن يعتدي على القائد الأعلى للقوات المسلحة … و من يمرض من متساكني الأحياء الشعبية، يستحق ذات العناية الصحية لرئيس الحزب الحاكم و كاتب عام النقابة الأقوى و سفير تونس بباريس !

العدل أن نطالب الجميع بواجباتهم مع بلادهم، كل على قدر جهده و بشكل يتناسب مع إمكاناته …

فالضريبة في الأمم المتحضرة مثلا، واجب أهمّ من الواجب العسكري … أقلّها يدفعه الأجراء، و أعلاها يدفعه ذوو الثروات …

و في المقابل و حتى لا تصبح الثروة وبالا على صاحبها (أو المصرّح بها)، توضع آليات لكي يتوسّع نشاط المؤسسات الخاصة و يتزايد ازدهارها … و تبذل الدولة جهدا كبيرا لتمكين هذه المؤسسات من أسواق و أرباح  أكبر …   

العدل أن تتساوى الفرص أمام الجميع، كي يعملوا و يحققوا ذواتهم … لا كي يكرهوا بلادهم و يهربوا جماعيا إلى إيطاليا.

العدل أن يتوفر المرفق العمومي كلما كانت هناك حاجة إليه، بقطع النظر عن المنطقة و حظوظها السابقة في الغنى و الفقر.

العدل أن يكون كل الناس مواطنين درجة أولى، و أن يُحتسب صوت أي أحد منهم على أنه يصعد برئيس و يُسقط رئيسا …

*  *  *

تطول الشواهد …  و لكن كما قال عليّ لأبي الأسود الدؤلي: “ما عليك سوى أن تنحو هذا النحو”

تطول الشواهد و الكلام أيضا، فلم يبق أحد لم يقل هذا الخطاب المعسول بمناسبة و بغير مناسبة … و لكن من يمسك زمام الأمور، من بيده الحكم (كل الحكم كما هو الآن) بإمكانه أن يحوّل الوعد إلى حقّ، و الكلمة إلى رغيف، و الحلم إلى أرض صلبة …

العيب في القوانين؟ نعم و ماذا تنتظر لتغييرها، على الأقلّ أمّهاتها؟ … دعني من صداع الدستور، و لكن عندك بضعة نصوص (إصلاح الإدارة، بيروقراطية الاستثمار، عوائق التصدير، الصفقات العمومية، قمع الغش، زجر المتخاذلين في أجهزة المراقبة …) و عندك نصف مدة رئاسية مضت و نصف مدة ما تزال باقية … فما يمنعك من تحسين النصوص و تحريرها بنفسك، ألست أستاذ قانون؟ … ألست صاحب السلطة تنادي أيّ مختصّ في أيّ شأن، و تطلب منه المعلومة التي تريد و الرأي الذي قد يفيد؟

العيب في الرجال؟ نعم أيضا … قم بتغيير الرجال إذن و بمن هم أصلح، أو قل بمن “هنّ” أصلح … فقد باركنا و بارك العالم لجوءك أخيرا إلى نساء تونس و هنّ النابغات بلا جدال … و لكن أوّلا هناك فيهنّ من أكثر نبوغا من البقية، و ثانيا قد ينصحنك بنساء و رجال أيضا على كفاءة و اقتدار …

العيب في الثقة التي تكاد تنعدم في أيامنا السود هذه؟ … أنا معك، و لكن أرسِ لنا على برّ في ما يخص من تراهم أهلا للثقة … شخص واحد، اثنان، ثلاثة، يقف الحساب هناك؟ … طيب … كل من الثلاثة يعرف ثلاثة آخرين حق المعرفة و يثق بهم تمام الوثوق، و هؤلاء بدورهم يختارون ثقات و هكذا …

ثم إن الثقة تبنَى على الاختبار و الفطنة الدائمة و آليات المراقبة و العمل في شفافية … و هذا أيضا ميسور و قد جرت به دول أخرى، و اشتغل الغربال ليلا نهارا و لم يبق سوى الصحيح … من ينفع البلاد يبقى، و من يتلاعب يجد نفسه خارج الدائرة أو خلف القضبان …

أما أن نترك كل هذا، و نضيع الوقت في سراديب خطابية بلا نهاية … أو نتلهّى في حل مشكلات ثانوية أو غير ملحّة في الراهن، أو حتى مستحيلة مؤقتا …  فكمن يحكّ مكانا من جلده لا يأكله، أو يداوي ضرسا سليمة و يترك أختها التعبة …

و ها أنّي أشير بيدي إلى الضرس المدردعة … و لك أن تعتبرها مساهمة في الاستشارة الإلكترونية التي لم أساهم فيها بذلك الشكل … و لن أساهم. أ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version