و في أثناء ذلك … الدعم الثقافي (أيضا) يذهب لغير مستحقيه (5)
نشرت
قبل 3 سنوات
في
مقولة يرددها مافيوزية القطاع الثقافي عندنا، و هي “الثقافة لا يمكن أن تكون مجالا للربح” و بسرعة يضعونها في نفس السلة مع التعليم و الصحة، أي هي استثمار للدولة بعيد المدى … و يتناسون أنه حتى القطاعات الاجتماعية ـ و منها المدرسة و المستشفى ـ مرت منذ زمن إلى معركة السوق و تولاّها الخواصّ و أصبحت تدرّ عليهم ذهبا و ياقوتا …
و الواقع أن الثقافة في بلادنا لا تسجل ربحا إذا نظرنا إلى ميزاننا التجاري الوطني … في حين أنه في بلد كفرنسا يساهم القطاع الثقافي بمبلغ بناهز 60 مليار يورو، أي بنسبة تزيد عن 3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، و هو ما يعادل سبع مرات مداخيل صناعة السيارات في ذلك البلد … و هذا رقم سنة 2014 فقط … إضافة إلى توفير الثقافة هناك لما يزيد عن مليون و 600 ألف موطن شغل… في الولايات المتحدة يتضاعف العدد عشر مرات ليبلغ دخل الثقافة 700 مليار دولار سنويا، و يساهم بـ 5 بالمائة في الناتج الداخلي الخام … طبعا لا ننسى أن هذه بلدان تضمن حقوق الجميع و أولهم المؤلف، و لكنها لا تقايض ضياع هذه الحقوق بالغرف من دعم الدولة سائبا …
أما نحن ففي الحقيقة ليس في ثقافتنا خاسرون فقط … الدولة بالطبع و المجموعة الوطنية تخسران شلالات من المال، و لكن بعض الفئات المدللة حياتها ربح في ربح، و بالحيلة و الغش و سنعود إلى ذلك بعد قليل … و يقول قائل ندعمهم لأجل القيمة اللامادية لما ينتجونه، و لأجل دور ذلك في تحضّرنا و تعلّمنا و حسن تنشئة أجيالنا … أوكي بارك الله فيك، و لكن … هل من تقييم لما قدمه لنا الدعم الثقافي بعد 60 سنة؟ هل مثلا نشر بين التونسيين رقيا فكريا و ذوقيا جعلهم يتجنبون انتكاسة التسعينات و نكبة ما بعد 2011؟ …
إذن… الجماعة أعلاه مقصدهم هو استمرار استفادتهم من حنفية الدعم العمومي، و هي استفادة خلقت مع السنوات طبقة بورجوازية ريعية في مجالنا الثقافي … زرافات و أفراد من المتفلسفين و المتواكلين و المؤلفة قلوبهم و الموصَى بهم خيرا، ربضوا على ساحة الفنون و عبثوا بها عبثا منكرا و اختلط حابلهم بنابلهم بحمّاماتهم حتى … الشاب مع العجوز مع المبتدئ مع “المقورن” مع المكورن مع سارق مغزل أمّه … و انضمّ للقائمة المحتاج و غير المحتاج، و الكادح المنتج مع مسجّل الحضور لا غير، مع اللاهث بين المكاتب و الراقد في داره أو مداره بين العواصم و المكتفي بتلفون صغير و واسطة كبيرة الحجم …
الدعم موجود عند الآخرين و لكن لمن؟ … للتجارب الشابة و الأعمال الأولى و ليس لمن تجربته نصف قرن و عمره جاوز السبعين و يناطح الثمانين … يعني أنت تخوض مسيرة طويلة لم تقنع جمهورا و لم تملأ مسرحا (المسرح كمثال فقط) و لم تعمّر شبّاك تذاكر و لم تحقق سوى الفشل … و مع ذلك تجد الرقعة الكافية للمزاحمة على هبة من خزينة الدولة لتصرفها على ملذّاتك … إلى درجة أن البعض منهم حين يريد تجديد أثاث بيته يفتعل مسرحية يترجمها عن “بريشت”طبعا … و لكنه يحشر فيها ديكورا يتضمن بالضبط بيت نوم و بيت صالة و بيت فطور و يطلب من وزارة الثقافة دعما للفعل المسرحي … و إن لم تقم بذلك فهي مهمِلة للفنان و قاتلة للفن و معادية للإبداع …
السخرية من مقولة حسن الامام (الجمهور يريد هذا) تحولت الى تعلّة لكل من يحتقر الجمهور، و هي تعلة تونسية بامتياز … يا أخي عقدتمونا بهذه المقولة و أيضا بترذيل كل ما هو سينما مصرية و دراما مصرية … لنكن مرة شجعانا ونعترف أن الأشقاء متفوقون عليكم و بسنوات ضوئية و لا دخل للأسبقية و الأقدمية في ذلك … فهل تقارن “الاختيار” و “بطلوع الروح” مع الزبالات التي تقذفها على وجوهنا تلفزاتنا المحلية كلما حاولت طرق موضوع الإرهاب الذي اكتوينا به مثلا؟
يبدو أن السبب هو هذه العنجهية التي تركبنا كلما أنجزنا شيئا و بلفطناه … و كعورناه … و رفسناه … و لجمهورنا المسكين أطعمناه … انظروا إلى سوريا، بدأت معنا و ربما بعدنا، المهم بعد مصر و إشعاعها و قوة تأثيرها … و مع ذلك اشتغل نجدت أنزور و خلدون المالح و بسام الملاّ و غيرهم شغل نمل … و قدروا في مدة قليلة على أن يعكسوا التيار و يحلّقوا عاليا و ها أن الدراما السورية تفتكّ الريادة و تغتصب الإعجاب و الإقبال حتى في قنوات القاهرة … رغم الحرب المدمرة و عشرية الحطام و الشتات التي عاشوها …
يعني لا تتعلمون من صناعة كوريا و لا من نهضة الصين و لا من تعليم فنلندا و لا من حضارة إيطاليا و لا من ثقافة مصر و لا من إرادة سوريا … أنتم ماذا؟