يا ساكن قرطاج، لن نناديك بالمجاهد الأكبر … فحال البلاد ساءت في عهدك
نشرت
قبل 3 سنوات
في
إلى أين سيأخذنا ساكن قرطاج بما يأتيه وسيأتيه؟ هل هو على بينة أنه لم يقم إلى حدّ الساعة بعمل واحد في صالح هذا الشعب؟ فاعتبار يوم 25 جويلية وهو الذي يوافق الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية، وأعني جمهورية من قاوموا وأطردوا المستعمر وأجبروه على الاعتراف بسيادة التونسيين على وطنهم وأرضهم، أقول، اعتبار يوم ذكرى إعلان الجمهورية بداية عهد جديد لا رجوع إلى ما كان قبله هو محاولة فاشلة ويائسة لضرب رمزية ذلك اليوم بالنسبة لأبناء وأحفاد من صنعوه، “الدساترة” ومن معهم من الوطنيين الأحرار من اتحاد حشاد إلى غيره من المكونات الوطنية…
ضرب رمزية ذلك اليوم تعني لساكن قرطاج الكثير فهو القادم علينا بحلم جمهورية جديدة، ودستور جديد ونظام سياسي جديد، وذلك ما كان ولا يزال يريده منذ جلوسه على كرسي قرطاج، وهو بذلك يريد ويطمح أن يسجل في دفتر التاريخ ذلك اليوم وما يعنيه للتونسيين باسمه بعد أن كان باسم بورقيبة ورفاقه…وتغيير يوم الاحتفال بعيد الثورة كما يسمونها من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر هو محاولة فاشلة أيضا لضرب رمزية ذلك اليوم لمن حكموا بعده، وهو أيضا محاولة لاستمالة كل الغاضبين من عشرية التفقير والتخريب التي عاشتها البلاد منذ مغادرة بن علي رحمه الله البلاد…وبضربه رمزية ذلك اليوم أيضا يريد ساكن قرطاج القضاء على كل خصومه الذين حكموا البلاد بعد ما يسمونها الثورة ليصبح في نظرهم قائد الثورة الجديد بتاريخها القديم والاستحواذ على رمزية ذلك اليوم لنفسه…
لذلك نراه يصرّ دائما على تعبيرة “تصحيح المسار” فهو يريد ايهامنا أنه بما يأتيه سيصحّح مسارين مسار ما بعد إعلان الجمهورية الأولى، ومسار ما جاءت به ثورة 14 جانفي وكأن كل من حكموا قبله لا يرتقون لمقام تونس وتاريخ تونس وهو الذي تعلّم ودرس ونجح وعمل في منظومة الجمهورية الأولى، وكأن كل النظام السياسي القديم كان على خطأ، وجاء هو اليوم ليضرب…وينفي… ويسقط …ويلغي كل البناء السياسي الذي كان قبله…فماذا غيّر ساكن قرطاج في البلاد منذ استحواذه على حكم البلاد والعباد؟ لا شيء…واصل حرب استنزافه اليومية ضدّ كل خصومه من الأحزاب، قصد تأليب الشعب ضدّهم وابعادهم عن طريقه في قادم المحطّات، فهدف ساكن قرطاج لم يكن أبدا حسب ما يأتيه منذ انفراده بحكم البلاد إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد…ولم يكن يريد إصلاح المنظومة السياسية، بل كان يريد ولا يزال إلغاءها نهائيا وتعويضها بمنظومة تخدمه وتخدم صالحه و صالح من معه سياسيا…
فهل أصلح مؤسسة واحدة كما وعد وقال؟ لا…هل كشف لنا عن ميزانية السنة القادمة ونحن على بعد مترين منها؟ لا…هل أصلح أوضاع العباد اجتماعيا وماديا ومهنيا؟ لا…هل بدأ خطّة سريعة للقضاء على الفقر والتهميش والبطالة والتخفيض من حدّتها على العائلات التونسية؟ لا…هل وجد حلا لديون الدولة التونسية ودفع نحو توطيد علاقاتنا مع الدول والمنظمات المانحة؟ لا…هل فكّر في خطّة يكسب بها ثقة الليبيين لعودة عمالنا الذين خرجوا من هناك إبان اسقاط حكم القذافي، كحلّ وقتي للعاطلين عن العمل؟ لا…ولم يفكّر في الأمر حتى…هل بدأ في مجرّد الحديث عن مصالحة شاملة تجمع الجميع حول طاولة الوطن باستثناء من أجرموا في حقه وأقصد الوطن درءا للفتنة؟ لا…بل عمل كل ما بوسعه لتفتيت المشهد السياسي، وهدم كل المؤسسات الحزبية، قطعا للطريق أمامها في المحطّات الانتخابية القادمة…
والسؤال هنا لماذا يرفض ساكن قرطاج كل حديث عن المصالحة الشاملة ولماذا لم يلمّح إليها يوما؟ ولماذا يرفضها البعض الآخر؟ ماذا كسبنا من هذا التطاحن والعراك السياسي؟ ألم يع الجميع إلى يومنا هذا أن المصالحة لا تعني بالأساس التوافق الذي يمقتونه؟ فالتوافق كان بين رجلين وانتهى بوفاة أحدهما…فماذا فعل ساكن قرطاج بضربه للأحزاب وحلّه غير المعلن لمجلس النواب؟ لا شيء…فمنذ تجميده للمجلس ومن فيه، ومنذ حلّه لحكومة “النهضة ومن معها” هل تقدّمنا خطوة واحدة نحو توحيد هذا الشعب المسكين؟ لا…لم نتقدّم خطوة واحدة بل أصبحنا على حافة الفتنة…أسأل من سعدوا ووزعوا الخمر ليلة سقوط مونبليزير، والقصبة المشيشية، وكل مقرّات الأحزاب، وأنا كنت أكثر الناقدين والمطالبين برأس حكومة المشيشي و “مجلس الشغب” ولم أكن من المحتفلين…
اسألوهم فقط ماذا ربحتم بما وقع…؟ ألم يكن من الأجدر الاكتفاء بإسقاط حكومة المشيشي وإيقاف مهزلة المجلس بشكل أو بآخر والانطلاق في الإصلاحات التي طال انتظارها؟ بماذا استفاد الفقير والعاطل عن العمل… واليتيم… والجائع… والمريض… والطالب والتلميذ… والمشرّد… والهارب من العدالة من كل ما أتيتم وما فعلتم؟ لا شيء غير أن أزمتهم طالت …ووجعهم زاد…وإحباطهم أصبح أكبر…وغضبهم على الدولة ومن يقطن مكاتبها أشدّ…أتذكرون يوم حاكموا حزب التجمّع حقدا وانتقاما…ماذا كسبتم من تلك الخطيئة؟ لا شيء…هل من خرجوا يوم 14 جانفي كانوا حقّا يبحثون عن حلّ التجمّع؟ هل يكفي أن تحلّ التجمع ليشبع الجائع ويعمل العاطل وترفع المظالم عن المظلومين؟ لا…لم تكسبوا شيئا من حلّ حزب بن علي رحمه الله ومن معه…ولن تكسبوا شيئا مما تفعلونه اليوم لأن التاريخ يعيد نفسه والسياسة أحزاب أو لا تكون…فسياسة دون أحزاب…تصبح “حكم غاب”…والغلبة للأقوى…
أقرأتم يوما تلك الحكمة الصينية ونصّها “هناك أربعة أصناف من القادة…قادة نحبهم…وقادة نكرههم …وقادة نضحك عليهم…وقادة لا نعرف كيف أصبحوا قادة”…فمن أي صنف قادتنا اليوم وقادتنا بالأمس؟ فشعب تونس لم ير خيرا ممن سبقوا قادتنا اليوم…ولم ير خيرا من قادتنا اليوم…وقد لا يرى خيرا من قادة الغد…وضحك من قادتنا بالأمس ويضحك من قادتنا اليوم…وقد يضحك ملء شدقيه أو اشداقه من قادة الغد…كما أن بعض هذا الشعب كره قادتنا بالأمس ويكره بعض قادتنا اليوم وسيكره كل من سيقودنا غدا…أ حقّا نحن في حاجة إلى كل هذا الذي يحصل بالبلاد وللعباد؟ أ نحن في حاجة إلى مجرّد تغيير لذكرى حراك اجتماعي ليصبح عيدا ورمزية نفاخر بها في كتب التاريخ؟ أنحن في حاجة إلى إعلان جمهورية ثالثة فقط لأننا نريد أن نغيّر الدستور لصالحنا لنوسع صلاحياتنا ونحكم بما نريد وكما نريد؟ أنحن في حاجة إلى ضرب كل الأحزاب، فقط لأنها قد تقطع الطريق أمام وصولنا غدا إلى السلطة؟ أنحن في حاجة إلى توسيع الهوّة بيننا وبين الشعب، فقط لأننا نصرّ ونتمسك بما نريد ولا يريده الشعب؟ أنحن في حاجة إلى التحدّث باسم كل الشعب والحقيقة أن بعض الشعب فقط يريد ما نريد؟ أنحن في حاجة إلى تأليب مكوّنات المشهد ضدّ بعضها البعض، ألم يكن من الأجدر رأب الصدع بين الجميع وتوحيد الجهود من أجل انقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا وطن جريح؟
تعيش البلاد منذ 25 جويلية حالة من الاحتقان والامتعاض، وانعدام الثقة، وتصاعد وتيرة الخلافات والتوترات…رغم محاولات الترويج لعكس ذلك من أتباع ساكن قرطاج ومن يسكنون بأحوازهم…فمن استحوذ على الحكم وانفرد به لم يكشف لنا إلى يومنا هذا ما هو الهدف الرئيسي لما أتاه يوم 25 جويلية؟ هل كان يريد فقط الاستحواذ على حكم البلاد والانفراد به انتقاما ممن حدّدوا له صلاحياته وأقصد من صنعوا دستور 2014؟ أم هل كان يريد حقّا إصلاح شأن البلاد والعباد؟ فهل يمكن إصلاح شأن البلاد والعباد بالعراك اليومي وإعلان الحرب على كل من يتحرّك ضدّنا في البلاد…والعمل على تفجير كل الأحزاب سياسيا وتحويلهم إلى رماد؟ هل بهذا الشكل سنصلح حال البلاد؟ هل يكفي أن نستحوذ على اليد العليا او “القبضة القوية” لأنها هي من يملك دائما مفاتيح تحريك دفة الأحداث وتحويلها والسيطرة عليها؟ أهذا ما ينتظره هذا الشعب الذي خرج صارخا مستبشرا وكأنه في فتح مبين، وأي فتح هذا الذي يقصي أغلبية الشعب ومكونات المشهد السياسي فقط من أجل عيون ساكن قرطاج؟
علينا أن نعترف بأن كل بدائلنا فشلت بعد 14 جانفي لأننا تعاملنا مع القديم كل القديم بعقلية الثأر والانتقام…واليوم نعيد نفس ما أخطأنا فيه بطريقة قد تكون أبشع لأننا لن نقصي طرفا واحدا بل قد يطال الإقصاء أغلب من يؤثثون المشهد السياسي والاجتماعي بالبلاد…وأظنّ أنه علينا أيضا أن نعترف أن القوى الاجتماعية التي استحوذت على الجزء الأكبر من المشهد خلال عشرية كاملة لم تستطع تحمّل مسؤولية اللحظة بشكل عقلاني … وسقطت في تسييس جسدها لتصبح كائنا سياسيا يطالب بالشراكة في الحكم، فلم يقم بدوره التعديلي للسلطة، بل كان شريكا بأغلبية الأسهم في حكم البلاد خلال عشرية الخراب والهدم…فالنزاع كان ولا يزال قبل وبعد 14 جانفي اجتماعيا / سياسيا في إطاره الشامل وكان يمكن معالجة هذا النزاع الجاثم على البلاد منذ استقلالها من منظور عقلاني، لكن بعض الأطراف ارتأت غير ذلك وتمّ الاحتكام إلى العاطفة والمزاج الانتمائي والمصلحة الفردية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى هذا الخراب الذي نعانيه منذ عشر سنوات ويزيد…
وهنا وجب أن نعترف أيضا أن القوى الاجتماعية والسياسية التي حكمت البلاد بالشراكة منذ 14 جانفي، فقدت مصداقيتها وثقة الشعب فيها، لكن لا يمكن بأي حال أن نستبدل هذه القوى بأخرى تسير بنا إلى الفوضى وتُغلّب عقلية الانفراد بالحكم والأنانية في القرار على المصلحة العامة، وهو ما قد يعيدنا إلى نقطة الصفر، علينا أن نجد دون تعنّت مقاربة وطنية شاملة تمكننا من الخروج مما نحن فيه، ولن يكون هذا ممكنا في ظلّ هذا الوضع المتشنّج الذي تعيشه البلاد اليوم مع كل خطاب لساكن قرطاج، فالعناد المستمر والنظرة العدائية من كلا الطرفين حيال أفكار الطرف الآخر، وتحول مسألة الاختلاف في وجهات النظر بين منظومة ساكن قرطاج وبقية منظومة ما بعد14 جانفي إلى مسألة تحدّ، وغالب ومغلوب، ومنتصر ومهزوم، ومحاولة انتقام بمختلف الطرق المشروعة وغير المشروعة لن تخرجنا من الورطة التي نحن فيها اليوم…
علينا اليوم وقبل أن نغرق في وحل أخطر…وقبل أن نصل إلى مرحلة “اللاعودة” التي خرّبت العديد من البلدان التي اكتوت بنار “الربيع العربي” …أقول علينا إخضاع كل شيء لتوجهات العقل وحده فلا يجب أن يكون للمزاج والعاطفة دخل في ما يجب أن نقرّره ونتفق عليه…كما علينا كبح جماح الرغبة والإصرار على الإضرار بالطرف الآخر… وعلينا وهذا الأهمّ المحافظة على حقّ الآخرين في التعبير عن رأيهم ومواقفهم كما نحافظ على حقّنا في كل ذلك… وعلى ساكن قرطاج وخصومه من بقية القوى السياسية أن يعلموا جيدا أن البناء الوطني الحقيقي هو ذلك الذي تتغلّب فيه مصالح الوطن على مصالحهم، وترتفع فيه أصوات الحكمة والعقل على أصوات الثأر والحقد والعاطفة والمزاج…
فيا ساكن قرطاج…في عهدك ساءت حال البلاد فلن نناديك بالمجاهد الأكبر…كما لن نناديك بــ”يا قايد ثورتنا”….