عندما يتعانق الفن في اوج اوجه بالتاريخ في قداسته يعيش الواحد منّا هزّة شعورية يعسر وصفها … ذاك كان احساسي وانا اشاهد الكوميديا الموسيقية التي انتجها مركز الفنّ الدرامي بصفاقس والتي الّفها صديقي علي البوكادي ذاك الرجل المثقف الديناميكي والواعي ..
واذا اجتمعت هذه الخصال في شخص فثق انه لن يخذلك، اما الاخراج فكان للشاب حاتم الحشيشة … وبعيدا عن كونه مديرا لمركز الفنّ الدرامي فهو مولع وهيمان بعمله ومن لا يحبّ عمله عليه تغييره وبسرعة ..هذان المفردان تحوّلا لصيغة الجمع واعني هنا هذا الكمّ الهائل من المشاركين في هذا العمل … نعم شارك فيه ما يزيد عن ستين مشاركا من راقصين وممثلين وفي كلّ الاعمار تقريبا بدءا بالكبير عيسى الحراث ووصولا الى بعض الاطفال الذين لم تتجاوز اعمار بعضهم الثماني سنوات …
هؤلاء جميعا ومن ورائهم زمرة من الفنيين ذوي الاختصاصات المختلفة (سينوغرافيا ديكور موسيقى) قدّموا وفي مسرح مهرجان سيدي منصور مسرحية عنوانها صفاقس 1881 ..وهي وبعجالة خلّدت ذكرى احدى معارك التونسيين ضدّ المستعمر الفرنسي سنة 1881 في واقعة من اشهر ما عاشه مواطنو صفاقس انذاك رغم تنكّر البعض لها و حتّى انكارها ايضا …
مثل هذه الاعمال تتطلب اوّلا مراجعة دقيقة للاحداث بعيدا عن التقديس والتبخيس ..وهذا جهد تطلّب سنوات من البحوث لابن البوكادي مع مختصين في تاريخ صفاقس ثمّ ولانجازه ايضا . تطلّب كثيرا من الجهد والتحدّي لحدّ الايثارية …نعم العديد ممن شاركوا في هذا العمل الضخم جاؤوا تطوّعا .. حبّا في مدينته وفي بلاده وتاريخها ….واجتمعت النوايا في البداية والتحق بتلك النوايا الحزم والجدية لحدّ الارهاق ..وخرج علينا الجميع بكوميديا موسيقية رسمت بكلّ جمال فنّي تلك الملحمة ..
وحتّى نضع هذه النوعية من الانتاج المسرحي في اطارها ككوميديا موسيقية لابدّ من الاشارة الى انّ الموسيقى في مثل هذه الاعمال تتجاوز الجانب التعبيري البسيط او جانب الموسيقى المصاحبة لتصبح هي بدورها واحدا من الممثلين ..اي نعم لتصبح ممثلا يقدّم دوره على طريقته وباسلوبه …لذلك هي لم تكن طويلة حسب رؤى البعض بل الكوميديا الموسيقية تقتضي احيانا ان يصمت كل الممثلين لتقوم الموسيقى باداء دورها ..وبكلّ امانة ابدع واضع موسيقى مسرحية 1881 في هذه المهمة رغم انّ بعض لوحاته كان فيها العطر الموسيقي للفانتازيا السورية من صنف (الكواسر والجوارح) فقط وفي اشارة خفيفة للذي قام يمونتاج بعض الجمل الموسيقية حتى تصبح BOUCLE عليه احترام الوزن الموسيقي لتلك الجملة الموسيقية عند تركيبها مع الجملة التي تليها _ المسرحيّة دامت اكثر من ساعتين ..وانا من موقعي لم اقلق بتاتا …
ثلاث ملاحظات اختم بها هذا المقال اولاهاا تتعلّق بالجمهور … صدقا لم اتصوّر لحظة واحدة انّ عرض 1881 سيكون بذلك الحجم الجماهيري وبذلك التفاعل … وهذا يؤكّد مرّة اخرى انّ للفنّ الراقي اهله مهما حاول البعض ايهامنا انّ (القديم ايلو هربة والجديد ايلو طربة) … والملاحظة الثانية تحيّة اكبار لكلّ الممثلين واعذروني على عدم ذكر الاسماء حتى لا اقع في خطيئة النسيان ولكن هنالك ممثل قام بدور مركّب وهو دور استعمله العديد من الكتاب المسرحيين والسنيمائيين دور مجنون القرية LE FOU DU VILLAGE وهذا المجنون وحده من يملك الحقيقة اذ لا علاقة له بالمصلحة والمصلحيين ولا بالسياسة والسياسيين … وجاءت الحقيقة وهو يختم المسرحية اثناء مصارعته للموت بعد رصاصة طائشة من المستعمر برسالة حب لتونس فيها تلخيص لماضيها وحاضرها في علاقتها مع اعدائها في الداخل والخارج ..ممثل دور مجنون القرية وفي تقديري كان في منتهى الابداع ..
الملاحظة الثالثة والاخيرة وفي لقطة وقع فيها التبرّع بالمال لمدينة صفاقس لمحاربة المستعمر تقدّمت احدى السيدات مقتحمة الجمهور لتمدّ من يدها ورقة نقدية بـ10 دنانير مصرّة على المساهمة هي ايضا في التبرّع …مثل هذه اللقطة اكّدت امرين ..عندما تبدع فرقة مسرحية في اداء ادوارها يتحوّل التمثيل الى واقع ويصبح المشاهد جزءا من الممثلين ..الامر الثاني سحقا لمن اعتبر هذه السيدة المتقدمة في السنّ بوهالية .. بل هي افضل مثال للتونسي الذي مهما تدهورت حالته ومهما نكّلوا به قديما وحاضرا يبقى ذلك الطيب الذي يمدّ يده للمساهمة عندما يتطلّب الامر ذلك …
قبل ان اختم وانا اشاهد تفاعل المتلقّي مع الملحمة الفنيّة كان لديّ احساس عميق بانّ تفاعل جلّ الجمهور الحاضر هو لم يكن تفاعلا فقط مع احداث ملحمة 1881 بل كان ايضا تفاعلا مع حاضره حيث التهميش وحيث لم يبق في مدينته الا اسما اغروه بها النصّابون وهم يضحكون على ذقون متساكنيها بالقول (صفاقس عاصمة الجنوب ) … دعوني اختم باقتراح لاخويّ علي البوكادي وحاتم الحشيشة ..استمعت الى نواياكم لاعداد اعمال اخرى عن صفاقس كـ 5 اوت وجانفي 78 واحداث الخبزة جانفي 84 وبقدر مباركتي لمثل هذه النوايا ماذا لو وفي مرحلة اخرى من جهادكم ونضالكم من اجل مسرح راق ومن اجل تونس اجمل، لو تضيفون انتاجا مسرحيا حول شخصية هامة في تاريخ تونس وهنا اعني الزعيم بورقيبة ..مسرحية تحكي بكلّ مصداقية وبعيدا عن التقديس او التبخيس عن رجل شغل الدنيا …؟؟… الستم بذلك تضعون حدّا لخصومه الذين يرون فيه شيطانا ولانصاره الذين يرون فيه قدّيسا …؟؟
.ولو احوصل مسرحية 1881 فإنني اقول اذا كان للملحمة الجهادية سنة 1881 رجال ضحوا بالنفس والنفيس من اجل مقاومة الاستعمار فانّ للملحمة الفنية في انتاج 2023 رجال ايضا تسابقوا وبكلّ حرفية ووعي وجهد جهيد لاخراج هذا المولود الى النور … شكرا لكم ايها الرجال …