جور نار
خمسة انحرافات كُبرى … دكّت أركان مدرستنا التونسية (الجزء الأول)
نشرت
قبل 3 سنواتفي
من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriمن الطبيعي أن نتأثر عند بِناء شيء ما بنماذج هندسية سائدة وتصوّرات معيّنة في وضع العناصر المكوّنة للمشروع وترتيبها وتنظيم العلاقة فيما بينها. وهو ما حصل مع بناء المدرسة التونسية التي كان باعثوها متأثرين بدون أدنى شك بالمنوال الفرنسي في فلسفة البرامج وطرق التدريس وتحديد مكانة عائلات المواد وطريقة اشتغال المرفق التربوي عامة تعلّما وتعليما وحَوْكمة وتسييرا.
تحقّقت كثير من المكتسبات التاريخية بكل تأكيد، حيث أصبح للتونسيين شبكة واسعة جدا من المدارس والمعاهد ومراكز التدريب والتكوين والجامعات ومحضنة ثرية من الموارد البشرية، وكذلك مستويات تمدرس قياسية لم تُقصِ الفتيات ولم تستثنِ المناطق النائية ولم تترك أبناء الفقراء على قارعة الأميّة…أي أننا انتصرنا في كسب معركة الكمّ تجهيزا وتمدرسا وتأطيرا، وهي خطوة أساسية لا يمكن أن تتأسّس خطوات نوعية وسياسة جودة إلا على قاعدتها.
برزت خلال مسار تطور المدرسة التونسية المتفاعلة مع ما يجري في محيطها الإقليمي والدولي، جملة من المشاكل والهِنات والتعثّرات التي استوجبت التصحيح والتعديل والإصلاح. ولكن بدلا من التصحيح جنحنا إلى النّسف والتقويض أحيانا وبدلا من الاستئناس برأي العارفين والمطلعين على ما يحدث في العالم، استفرد بعض الأشخاص المتعنّتين وفرضوا عديد “الإصلاحات” الملغومة التي زادت الأمر تعقيدا وساهمت بالتالي في إنتاج أزمة مركّبة مازلنا نعاني نتائجها المدمّرة الى اليوم.
وسأكتفي ضمن هذه الورقة بذكر خمس إجراءات (كانت محلّ خلاف واسع بين الساهرين على تدارس تفاصيلها قبل سنّها واعتمادها رسميّا) أعتبرها شخصيا من الانحرافات الكبرى التي ساهمت في نسف مكتسبات أساسية تحققت تاريخيا في المدرسة التونسية، وهي :
التخلي عن المسارات التدريبية، وبعث شبكة المؤسسات النموذجية، وخلق الباكالوريا إعلامية، وتحرير التوجيه، وإسقاط منظومة المواد الاختيارية.
أولا : التخلي عن المسارات التدريبية المهنية من الإعدادي إلى الثانوي
كانت مؤسساتنا التربوية تحتضن الفلسفة إلى جانب الحِدادة والرياضيات مع النّجارة والأدب والشعر بالتوازي مع الآلية، والاقتصاد جنبا إلى جنب مع الكهرباء، والتركيب اللغوي مع التركيب المعدني، والكيمياء مع الكهرباء … في تناغم وانسجام يُضفيان على مدرستنا روحا تعدّديّة يجد بموجبها كل تلميذ فرصته في النجاح واكتساب المهارات الأساسية التي تُؤهّل صاحبها لاختيار مدى طول المسار الذي يناسبه، وتخيّر أي جهاز يتم استخدامه بأكثر اقتدار : الجهاز “النظري” الذي يتطلب طول نفس ويقابله التعليم العام الطويل أو الجهاز “اليدوي” (و هو لا يقل ذكاءً) الذي يستدعي قدرة فائقة في الإتقان والبراعة والدقّة والإبداع بدون كثير تجريد نظري عام.
لم تكن هناك أفضلية في الذهنية الشعبية العامة بين مسالك “مرموقة ومرغوبة وذات قيمة اجتماعية مضافة” ومسالك أخرى أقل شأنا مخصصة لــ “غير الأذكياء” ويكفي أن نتوقّف عند الحقيقتين التاليتين لتأكيد هذا الأمر :
– حجم الاستفادة الكبيرة التي حصلت لفائدة الإدارة التونسية والصناعات الناشئة والمؤسسات الانتاجية المختلفة وقطاع الشركات الصغرى والمتوسطة، بفضل الكفاءات التي أفرزها التعليم الإعدادي المهني والاختصاصات “التقنية الصناعية” المُتوّجة بالديبلوم التقني في اختصاصات عديدة ومتنوعة من قبيل الميكانيك والكهرباء والتصرف والإدارة… علما بأن نظامنا التربوي في ذلك الحين كان أكثر مرونة مما هو عليه الآن، لأنه كان يسمح للمتميّزين من كل شعبة بمواصلة الدراسة في إطار “سنة سابعة خاصة” ثم اجتياز ما يُعادل الباكالوريا التقليدية والدخول إلى الجامعة.
– شعبة “العلوم التقنية” المُفضية إلى الباكالوريا اليوم والتي ورثت على نحو ما المُراكمات الحاصلة عبر تجارب “التعليم المُمهنن” في مدرستنا التونسية مع جُرعة ربما أكثر متانة من التعلّمات الأساسية في الرياضيات والفيزياء، لا تحجب بالمرة التكوين الأساسي في ذات مجالات الكهرباء والميكانيك والإلكترونيك والتكنولوجيا عموما… هذه الشعبة تشهد إقبالا واسعا في صفوف تلاميذ الثانوي بل هناك مطالبة مجتمعية في كل الولايات بفتح مخابر إضافية للتقنية في المعاهد الثانوية من أجل توسيع طاقة استيعاب هذه الشعبة أمام الطلب المتزايد عليها. وبالتالي، فإن حجّة “عزوف الشباب ومن ورائه العائلات إزاء التعليم المهني أو التقني” حجة مردودة على أصحابها لا تصمد كثيرا أمام منسوب التفوّق الدراسي في هذا المسلك الذي أصبح “نخبويا” هو الآخر، وأمام الآفاق الواعدة المفتوحة أمام حاملي باكالوريا “العلوم التقنية” في الجامعة التونسية والجامعات الألمانية بصورة خاصة.
قد يعترض بعضهم على كون التخلي عن التعليم المهني في مدرستنا التونسية شكّل انحرافا أضرّ أيما ضرر بمكسب ثمين بناه القدامى باعتبار أن هذا الصنف من التعليم أفردته الدولة بوزارة مستقلة هي وزارة التكوين المهني والتشغيل حتى يكون أكبر شأنا وتتوفر له أكثر إمكانيات، وتتفرغ أجهزة بكاملها ووكالات وبوّابات ودواوين ومراكز وطنية متنوعة لتطويره وجعله أكثر قدرة من منظومة التعليم المهني المندمجة على استيعاب آلاف التلاميذ غير الراغبين (وربما غير القادرين) على مواصلة تعليمهم في مسارات تعليمية طويلة.
لا أشكك في نجاعة التكوين وجودته في مراكز التكوين المهني التابعة لوزارة التكوين المهني اليوم، ولا أستنقص من قيمة مجهودات كبيرة بُذلت في سبيل تطوير أداء منظومة التدريب والتكوين المهني لا فقط في مستوى المراكز التابعة للوكالة الوطنية للتكوين المهني ولكن في مستوى عديد الوزارات الأخرى مثل الفلاحة والصحة والسياحة والدفاع …ولكنني على يقين في نفس الوقت أن منظومة متكاملة ومتنافذة عضويا تكون فيها المعابر مُحيلة الواحدة على الأخرى في إطار نفس المؤسسة التربوية ونفس النسيج التكويني وذات الإشراف الإداري والبيداغوجي، أفضل وأنجع بكثير من منظومة “الشتات التكويني” التي نعيشها اليوم في تونس، وذلك لسببين رئيسيين على الأقل :
– طاقة الاستيعاب الحالية في كامل منظومة التكوين المهني لا تتجاوز في أحسن الحالات 60 ألف متكوّن من المسجلين سنويا بين العمومي والخاص (حسب أرقام وزارة التكوين المهني لسنة 2018)، وذلك في كل مستويات التكوين (غير المشفوعة كلها بشهائد معترف بها) والتي لا تشمل المنقطعين سنويا فقط بل كل المنقطعين عبر السنوات والمحرزين على شهائد جامعية ممن لم يحصلوا على شغل… وعدد المنتمين إلى هذه الفئات يُقدّر بمئات الآلاف المتراكمة من سنة إلى أخرى.
– التوجيه نحو التكوين المهني والتدريب عندما يكون داخليا ومندمجا مثله مثل التوجيه نحو المسالك التقليدية الأخرى تماما، يجعل منه مسلكا طبيعيا لا يزيد ولا ينقص قيمة لأن صاحبه لن يغادر المؤسسة التربوية ويظل منتميا لها ومنتفعا بالتعلّمات العامة المشتركة إلى جانب تكوين خصوصي ذي جودة وآفاق… وبالإضافة إلى الوقع النفسي السيّء على التلميذ نفسه وعائلته في حالة “الإبعاد”، هناك صعوبة إضافية تتمثل في ضرورة مباشرة مسار جديد يتعين خلاله على التلميذ أن يُجمّع المعلومات حول عروض التكوين واستجلاء ما هو قادر على متابعة الدراسة فيه، والقيام بإجراءات ثقيلة أحيانا من تسجيل وتنقل وتخيّر المركز التكويني الأقرب إلى مقر سكناه في صورة توفّره.
ثانيا : بعث شبكة المؤسسات النموذجية
الفكرة في حدّ ذاتها مُغرية لأنها تنطلق من حقيقة بديهيّة تتمثّل في أن هنالك أطفالا وشبانا متميزين دراسيا (وهم تلاميذ حسب المختصين ذوو اشتغال ذهني مختلف وتدفق عصبي أسرع ولديهم ترابطات عصبية أكثر كثافة) بما يتطلب تأطيرا خاصا ومرافقة مختلفة حتى لا يشعروا بالضجر وأن المدرسة لا تستجيب لانتظاراتهم. لكن في عديد بلدان العالم تمّ التوصل إلى صيغ معالجة أقل حدّية مما حدث لدينا مثل الاعتراف أولا بأنهم تلاميذ ذوو حاجيات تربوية خاصة واعتماد مقاربات بيداغوجية مرنة مع هؤلاء، وتمكين المربين من تكوين خاص يسمح بتعهّد هذه الفئة وخلق أقسام متعددة المستويات، حتى يُسمح لكل تلميذ بالتعلم حسب النسق الخاص به أو ما تسميه رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية للتلاميذ المُبكّرين ذهنيا élèves intellectuellement précoces EIP بــ “العمل ضمن جُزيْرات” بما يشجع على التعاون بين الأقران وخلق مجموعات بمستويات فيها أكثر ثراء.
إذن الحل لا يكمن في عزل التلاميذ المتميّزين حتى لا يتأثّروا بالمستوى “المتدنّي” لباقي التلاميذ في المؤسسات التربوية “العادية”، بل في جعل التلاميذ “العاديّين” يتأثرون إيجابيا بالمستوى العالي نسبيا للتلاميذ “النموذجيين”، بحيث تكون الخسارة مُضاعفة، فلا المدرسة حافظت على خيرة أبنائها ولا هؤلاء جَنَوْا امتيازات مدرسية تُذكر.
فما هي إجراءات التهيئة البيداغوجية الخاصة التي يتمّ رصدها لفائدة تلاميذ المؤسسات النموذجية في تونس، وأي تكوين خاص يتمتع به الأساتذة المنتدبون فيها وأية مواد إضافية تُدرّس هناك وأية أساليب إفراقيّة معتمدة وأي زمن مدرسي خاص يتلاءم مع الطبيعة الخاصة لهذه الفئة من التلاميذ ؟
الإجابة : قطعا لا شيء.
التلاميذ الذين يُحرزون معدّلات عالية في المؤسسات النموذجية هم يحرزونها بفضل المستوى الجيد الذين قدموا به من مؤسساتهم الأصلية وليس بفضل “قيمة بيداغوجية مضافة” توهّمها المؤسّسون وأرادوها لهذا النسيج التربوي الهجين…
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …
لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..
قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…
ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …
وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …
وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..
وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..
قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..
للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …
نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
… من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…
وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…
جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..
اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.
اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.
ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.
ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.
رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،
خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.
سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.
سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم
وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.
محمد الزمزاري:
التاريخ:
ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.
وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …
موقف بورقيبة من المخدرات:
خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.
ماذا عن عهد بن علي؟
عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.
بعد بن علي:
خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…
ـ يتبع ـ
استطلاع
صن نار
- ثقافياقبل 6 ساعات
صاحب دور “يوزرسيف” في تونس
- جور نارقبل 20 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 86
- ثقافياقبل يوم واحد
الإبداع الأدبي والفكري التونسي في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر
- صن نارقبل يوم واحد
الحوثيون يستهدفون قاعدة للاحتلال قرب حيفا
- ثقافياقبل يومين
كسرى: الدورة الثالثة لملتقى “سينما الذاكرة”
- جور نارقبل يومين
آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)
- رياضياقبل يومين
معين الشعباني يواصل تصدر البطولة المغربية
- صن نارقبل يومين
اختتام المؤتمر الدولي للطب وعلوم الرياضة
تعليق واحد