تابعنا على

جور نار

خمسة انحرافات كُبرى … دكّت أركان مدرستنا التونسية (الجزء الأول)

نشرت

في

من الطبيعي أن نتأثر عند بِناء شيء ما بنماذج هندسية سائدة وتصوّرات معيّنة في وضع العناصر المكوّنة للمشروع وترتيبها وتنظيم العلاقة فيما بينها. وهو ما حصل مع بناء المدرسة التونسية التي كان باعثوها متأثرين بدون أدنى شك بالمنوال الفرنسي في فلسفة البرامج وطرق التدريس وتحديد مكانة عائلات المواد وطريقة اشتغال المرفق التربوي عامة تعلّما وتعليما وحَوْكمة وتسييرا.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

تحقّقت كثير من المكتسبات التاريخية بكل تأكيد، حيث أصبح للتونسيين شبكة واسعة جدا من المدارس والمعاهد ومراكز التدريب والتكوين والجامعات ومحضنة ثرية من الموارد البشرية، وكذلك مستويات تمدرس قياسية لم تُقصِ الفتيات ولم تستثنِ المناطق النائية ولم تترك أبناء الفقراء على قارعة الأميّة…أي أننا انتصرنا في كسب معركة الكمّ تجهيزا وتمدرسا وتأطيرا، وهي خطوة أساسية لا يمكن أن تتأسّس خطوات نوعية وسياسة جودة إلا على قاعدتها.

برزت خلال مسار تطور المدرسة التونسية المتفاعلة مع ما يجري في محيطها الإقليمي والدولي، جملة من المشاكل والهِنات والتعثّرات التي استوجبت التصحيح والتعديل والإصلاح. ولكن بدلا من التصحيح جنحنا إلى النّسف والتقويض أحيانا وبدلا من الاستئناس برأي العارفين والمطلعين على ما يحدث في العالم، استفرد بعض الأشخاص المتعنّتين وفرضوا عديد “الإصلاحات” الملغومة التي زادت الأمر تعقيدا وساهمت بالتالي في إنتاج أزمة مركّبة مازلنا نعاني نتائجها المدمّرة الى اليوم.

وسأكتفي ضمن هذه الورقة بذكر خمس إجراءات (كانت محلّ خلاف واسع بين الساهرين على تدارس تفاصيلها قبل سنّها واعتمادها رسميّا) أعتبرها شخصيا من الانحرافات الكبرى التي ساهمت في نسف مكتسبات أساسية تحققت تاريخيا في المدرسة التونسية، وهي :

التخلي عن المسارات التدريبية، وبعث شبكة المؤسسات النموذجية، وخلق الباكالوريا إعلامية، وتحرير التوجيه، وإسقاط منظومة المواد الاختيارية.

أولا : التخلي عن المسارات التدريبية المهنية من الإعدادي إلى الثانوي

كانت مؤسساتنا التربوية تحتضن الفلسفة إلى جانب الحِدادة والرياضيات مع النّجارة والأدب والشعر بالتوازي مع الآلية، والاقتصاد جنبا إلى جنب مع الكهرباء، والتركيب اللغوي مع التركيب المعدني، والكيمياء مع الكهرباء … في تناغم وانسجام يُضفيان على مدرستنا روحا تعدّديّة يجد بموجبها كل تلميذ فرصته في النجاح واكتساب المهارات الأساسية التي تُؤهّل صاحبها لاختيار مدى طول المسار الذي يناسبه، وتخيّر أي جهاز يتم استخدامه بأكثر اقتدار : الجهاز “النظري” الذي يتطلب طول نفس ويقابله التعليم العام الطويل أو الجهاز “اليدوي” (و هو لا يقل ذكاءً) الذي يستدعي قدرة فائقة في الإتقان والبراعة والدقّة والإبداع بدون كثير تجريد نظري عام.

لم تكن هناك أفضلية في الذهنية الشعبية العامة بين مسالك “مرموقة ومرغوبة وذات قيمة اجتماعية مضافة” ومسالك أخرى أقل شأنا مخصصة لــ “غير الأذكياء” ويكفي أن نتوقّف عند الحقيقتين التاليتين لتأكيد هذا الأمر :

– حجم الاستفادة الكبيرة التي حصلت لفائدة الإدارة التونسية والصناعات الناشئة والمؤسسات الانتاجية المختلفة وقطاع الشركات الصغرى والمتوسطة، بفضل الكفاءات التي أفرزها التعليم الإعدادي المهني والاختصاصات “التقنية الصناعية” المُتوّجة بالديبلوم التقني في اختصاصات عديدة ومتنوعة من قبيل  الميكانيك والكهرباء والتصرف والإدارة… علما بأن نظامنا التربوي في ذلك الحين كان أكثر مرونة مما هو عليه الآن، لأنه كان يسمح للمتميّزين من كل شعبة بمواصلة الدراسة في إطار “سنة سابعة خاصة”  ثم اجتياز ما يُعادل الباكالوريا التقليدية والدخول إلى الجامعة.

– شعبة “العلوم التقنية” المُفضية إلى الباكالوريا اليوم والتي ورثت على نحو ما المُراكمات الحاصلة عبر تجارب “التعليم المُمهنن” في مدرستنا التونسية مع جُرعة ربما أكثر متانة من التعلّمات الأساسية في الرياضيات والفيزياء، لا تحجب بالمرة التكوين الأساسي في ذات مجالات الكهرباء والميكانيك والإلكترونيك والتكنولوجيا عموما… هذه الشعبة تشهد إقبالا واسعا في صفوف تلاميذ الثانوي بل هناك مطالبة مجتمعية في كل الولايات بفتح مخابر إضافية للتقنية في المعاهد الثانوية من أجل توسيع طاقة استيعاب هذه الشعبة أمام الطلب المتزايد عليها. وبالتالي، فإن حجّة “عزوف الشباب ومن ورائه العائلات إزاء التعليم المهني أو التقني” حجة مردودة على أصحابها لا تصمد كثيرا أمام منسوب التفوّق الدراسي في هذا المسلك الذي أصبح “نخبويا” هو الآخر، وأمام الآفاق الواعدة المفتوحة أمام حاملي باكالوريا “العلوم التقنية” في الجامعة التونسية والجامعات الألمانية بصورة خاصة.

قد يعترض بعضهم على كون التخلي عن التعليم المهني في مدرستنا التونسية شكّل انحرافا أضرّ أيما ضرر بمكسب ثمين بناه القدامى باعتبار أن هذا الصنف من التعليم أفردته الدولة بوزارة مستقلة هي وزارة التكوين المهني والتشغيل حتى يكون أكبر شأنا وتتوفر له أكثر إمكانيات، وتتفرغ أجهزة بكاملها ووكالات وبوّابات ودواوين ومراكز وطنية متنوعة لتطويره وجعله أكثر قدرة من منظومة التعليم المهني المندمجة على استيعاب آلاف التلاميذ غير الراغبين (وربما غير القادرين) على مواصلة تعليمهم في مسارات تعليمية طويلة.

 لا أشكك في نجاعة التكوين وجودته في مراكز التكوين المهني التابعة لوزارة التكوين المهني اليوم، ولا أستنقص من قيمة مجهودات كبيرة بُذلت في سبيل تطوير أداء منظومة التدريب والتكوين المهني لا فقط في مستوى المراكز التابعة للوكالة الوطنية للتكوين المهني ولكن في مستوى عديد الوزارات الأخرى مثل الفلاحة والصحة والسياحة والدفاع …ولكنني على يقين في نفس الوقت أن منظومة متكاملة ومتنافذة عضويا تكون فيها المعابر مُحيلة الواحدة على الأخرى في إطار نفس المؤسسة التربوية ونفس النسيج التكويني وذات الإشراف الإداري والبيداغوجي، أفضل وأنجع بكثير من منظومة “الشتات التكويني” التي نعيشها اليوم في تونس، وذلك لسببين رئيسيين على الأقل :

– طاقة الاستيعاب الحالية في كامل منظومة التكوين المهني لا تتجاوز في أحسن الحالات 60 ألف متكوّن من المسجلين سنويا بين العمومي والخاص (حسب أرقام وزارة التكوين المهني  لسنة 2018)، وذلك في كل مستويات التكوين (غير المشفوعة كلها بشهائد معترف بها) والتي لا تشمل المنقطعين سنويا فقط بل كل المنقطعين عبر السنوات والمحرزين على شهائد جامعية ممن لم يحصلوا على شغل… وعدد المنتمين إلى هذه الفئات يُقدّر بمئات الآلاف المتراكمة من سنة إلى أخرى.

– التوجيه نحو التكوين المهني والتدريب عندما يكون داخليا ومندمجا مثله مثل التوجيه نحو المسالك التقليدية الأخرى تماما، يجعل منه مسلكا طبيعيا لا يزيد ولا ينقص قيمة لأن صاحبه لن يغادر المؤسسة التربوية ويظل منتميا لها ومنتفعا بالتعلّمات العامة المشتركة إلى جانب تكوين خصوصي ذي جودة وآفاق… وبالإضافة إلى الوقع النفسي السيّء على التلميذ نفسه وعائلته في حالة “الإبعاد”، هناك صعوبة إضافية تتمثل في ضرورة مباشرة مسار جديد يتعين خلاله على التلميذ أن يُجمّع المعلومات حول عروض التكوين واستجلاء ما هو قادر على متابعة الدراسة فيه، والقيام بإجراءات ثقيلة أحيانا من تسجيل وتنقل وتخيّر المركز التكويني الأقرب إلى مقر سكناه في صورة توفّره.

ثانيا : بعث شبكة المؤسسات النموذجية

الفكرة في حدّ ذاتها مُغرية لأنها تنطلق من حقيقة بديهيّة تتمثّل في أن هنالك أطفالا وشبانا متميزين دراسيا (وهم تلاميذ حسب المختصين ذوو اشتغال ذهني مختلف وتدفق عصبي أسرع ولديهم ترابطات عصبية أكثر كثافة) بما يتطلب تأطيرا خاصا ومرافقة مختلفة حتى لا يشعروا بالضجر وأن المدرسة لا تستجيب لانتظاراتهم. لكن في عديد بلدان العالم تمّ التوصل إلى صيغ معالجة أقل حدّية مما حدث لدينا مثل الاعتراف أولا بأنهم تلاميذ ذوو حاجيات تربوية خاصة واعتماد مقاربات بيداغوجية مرنة مع هؤلاء، وتمكين المربين من تكوين خاص يسمح بتعهّد هذه الفئة وخلق أقسام متعددة المستويات، حتى يُسمح لكل تلميذ بالتعلم حسب النسق الخاص به أو ما تسميه رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية للتلاميذ المُبكّرين ذهنيا élèves intellectuellement précoces EIP بــ “العمل ضمن جُزيْرات” بما يشجع على التعاون بين الأقران وخلق مجموعات بمستويات فيها أكثر ثراء.

إذن الحل لا يكمن في عزل التلاميذ المتميّزين حتى لا يتأثّروا بالمستوى “المتدنّي” لباقي التلاميذ في المؤسسات التربوية “العادية”، بل في جعل التلاميذ “العاديّين” يتأثرون إيجابيا بالمستوى العالي نسبيا للتلاميذ “النموذجيين”، بحيث تكون الخسارة مُضاعفة، فلا المدرسة حافظت على خيرة أبنائها ولا هؤلاء جَنَوْا امتيازات مدرسية تُذكر.

فما هي إجراءات التهيئة البيداغوجية الخاصة التي يتمّ رصدها لفائدة تلاميذ المؤسسات النموذجية في تونس، وأي تكوين خاص يتمتع به الأساتذة المنتدبون فيها وأية مواد إضافية تُدرّس هناك وأية أساليب إفراقيّة معتمدة وأي زمن مدرسي خاص يتلاءم مع الطبيعة الخاصة لهذه الفئة من التلاميذ ؟

الإجابة : قطعا لا شيء.

التلاميذ الذين يُحرزون معدّلات عالية في المؤسسات النموذجية هم يحرزونها بفضل المستوى الجيد الذين قدموا به من مؤسساتهم الأصلية وليس بفضل “قيمة بيداغوجية مضافة” توهّمها المؤسّسون وأرادوها لهذا النسيج التربوي الهجين…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    جور نار

    العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

    نشرت

    في

    محمد الزمزاري:

    ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

    محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

    ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

    لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

    هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

    أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم … الورقة 89

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

    عبد الكريم قطاطة

    وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

    وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

    قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

    لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

    وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

    سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

    عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

    وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

    ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم ..الورقة 88

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

    عبد الكريم قطاطة

    وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

    في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

    اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

    اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

    لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

    في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

    عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

    اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    صن نار