خمسة انحرافات كُبرى … دكّت أركان مدرستنا التونسية (الجزء الأول)
نشرت
قبل 3 سنوات
في
من الطبيعي أن نتأثر عند بِناء شيء ما بنماذج هندسية سائدة وتصوّرات معيّنة في وضع العناصر المكوّنة للمشروع وترتيبها وتنظيم العلاقة فيما بينها. وهو ما حصل مع بناء المدرسة التونسية التي كان باعثوها متأثرين بدون أدنى شك بالمنوال الفرنسي في فلسفة البرامج وطرق التدريس وتحديد مكانة عائلات المواد وطريقة اشتغال المرفق التربوي عامة تعلّما وتعليما وحَوْكمة وتسييرا.
تحقّقت كثير من المكتسبات التاريخية بكل تأكيد، حيث أصبح للتونسيين شبكة واسعة جدا من المدارس والمعاهد ومراكز التدريب والتكوين والجامعات ومحضنة ثرية من الموارد البشرية، وكذلك مستويات تمدرس قياسية لم تُقصِ الفتيات ولم تستثنِ المناطق النائية ولم تترك أبناء الفقراء على قارعة الأميّة…أي أننا انتصرنا في كسب معركة الكمّ تجهيزا وتمدرسا وتأطيرا، وهي خطوة أساسية لا يمكن أن تتأسّس خطوات نوعية وسياسة جودة إلا على قاعدتها.
برزت خلال مسار تطور المدرسة التونسية المتفاعلة مع ما يجري في محيطها الإقليمي والدولي، جملة من المشاكل والهِنات والتعثّرات التي استوجبت التصحيح والتعديل والإصلاح. ولكن بدلا من التصحيح جنحنا إلى النّسف والتقويض أحيانا وبدلا من الاستئناس برأي العارفين والمطلعين على ما يحدث في العالم، استفرد بعض الأشخاص المتعنّتين وفرضوا عديد “الإصلاحات” الملغومة التي زادت الأمر تعقيدا وساهمت بالتالي في إنتاج أزمة مركّبة مازلنا نعاني نتائجها المدمّرة الى اليوم.
وسأكتفي ضمن هذه الورقة بذكر خمس إجراءات (كانت محلّ خلاف واسع بين الساهرين على تدارس تفاصيلها قبل سنّها واعتمادها رسميّا) أعتبرها شخصيا من الانحرافات الكبرى التي ساهمت في نسف مكتسبات أساسية تحققت تاريخيا في المدرسة التونسية، وهي :
التخلي عن المسارات التدريبية، وبعث شبكة المؤسسات النموذجية، وخلق الباكالوريا إعلامية، وتحرير التوجيه، وإسقاط منظومة المواد الاختيارية.
أولا : التخلي عن المسارات التدريبية المهنية من الإعدادي إلى الثانوي
كانت مؤسساتنا التربوية تحتضن الفلسفة إلى جانب الحِدادة والرياضيات مع النّجارة والأدب والشعر بالتوازي مع الآلية، والاقتصاد جنبا إلى جنب مع الكهرباء، والتركيب اللغوي مع التركيب المعدني، والكيمياء مع الكهرباء … في تناغم وانسجام يُضفيان على مدرستنا روحا تعدّديّة يجد بموجبها كل تلميذ فرصته في النجاح واكتساب المهارات الأساسية التي تُؤهّل صاحبها لاختيار مدى طول المسار الذي يناسبه، وتخيّر أي جهاز يتم استخدامه بأكثر اقتدار : الجهاز “النظري” الذي يتطلب طول نفس ويقابله التعليم العام الطويل أو الجهاز “اليدوي” (و هو لا يقل ذكاءً) الذي يستدعي قدرة فائقة في الإتقان والبراعة والدقّة والإبداع بدون كثير تجريد نظري عام.
لم تكن هناك أفضلية في الذهنية الشعبية العامة بين مسالك “مرموقة ومرغوبة وذات قيمة اجتماعية مضافة” ومسالك أخرى أقل شأنا مخصصة لــ “غير الأذكياء” ويكفي أن نتوقّف عند الحقيقتين التاليتين لتأكيد هذا الأمر :
– حجم الاستفادة الكبيرة التي حصلت لفائدة الإدارة التونسية والصناعات الناشئة والمؤسسات الانتاجية المختلفة وقطاع الشركات الصغرى والمتوسطة، بفضل الكفاءات التي أفرزها التعليم الإعدادي المهني والاختصاصات “التقنية الصناعية” المُتوّجة بالديبلوم التقني في اختصاصات عديدة ومتنوعة من قبيل الميكانيك والكهرباء والتصرف والإدارة… علما بأن نظامنا التربوي في ذلك الحين كان أكثر مرونة مما هو عليه الآن، لأنه كان يسمح للمتميّزين من كل شعبة بمواصلة الدراسة في إطار “سنة سابعة خاصة” ثم اجتياز ما يُعادل الباكالوريا التقليدية والدخول إلى الجامعة.
– شعبة “العلوم التقنية” المُفضية إلى الباكالوريا اليوم والتي ورثت على نحو ما المُراكمات الحاصلة عبر تجارب “التعليم المُمهنن” في مدرستنا التونسية مع جُرعة ربما أكثر متانة من التعلّمات الأساسية في الرياضيات والفيزياء، لا تحجب بالمرة التكوين الأساسي في ذات مجالات الكهرباء والميكانيك والإلكترونيك والتكنولوجيا عموما… هذه الشعبة تشهد إقبالا واسعا في صفوف تلاميذ الثانوي بل هناك مطالبة مجتمعية في كل الولايات بفتح مخابر إضافية للتقنية في المعاهد الثانوية من أجل توسيع طاقة استيعاب هذه الشعبة أمام الطلب المتزايد عليها. وبالتالي، فإن حجّة “عزوف الشباب ومن ورائه العائلات إزاء التعليم المهني أو التقني” حجة مردودة على أصحابها لا تصمد كثيرا أمام منسوب التفوّق الدراسي في هذا المسلك الذي أصبح “نخبويا” هو الآخر، وأمام الآفاق الواعدة المفتوحة أمام حاملي باكالوريا “العلوم التقنية” في الجامعة التونسية والجامعات الألمانية بصورة خاصة.
قد يعترض بعضهم على كون التخلي عن التعليم المهني في مدرستنا التونسية شكّل انحرافا أضرّ أيما ضرر بمكسب ثمين بناه القدامى باعتبار أن هذا الصنف من التعليم أفردته الدولة بوزارة مستقلة هي وزارة التكوين المهني والتشغيل حتى يكون أكبر شأنا وتتوفر له أكثر إمكانيات، وتتفرغ أجهزة بكاملها ووكالات وبوّابات ودواوين ومراكز وطنية متنوعة لتطويره وجعله أكثر قدرة من منظومة التعليم المهني المندمجة على استيعاب آلاف التلاميذ غير الراغبين (وربما غير القادرين) على مواصلة تعليمهم في مسارات تعليمية طويلة.
لا أشكك في نجاعة التكوين وجودته في مراكز التكوين المهني التابعة لوزارة التكوين المهني اليوم، ولا أستنقص من قيمة مجهودات كبيرة بُذلت في سبيل تطوير أداء منظومة التدريب والتكوين المهني لا فقط في مستوى المراكز التابعة للوكالة الوطنية للتكوين المهني ولكن في مستوى عديد الوزارات الأخرى مثل الفلاحة والصحة والسياحة والدفاع …ولكنني على يقين في نفس الوقت أن منظومة متكاملة ومتنافذة عضويا تكون فيها المعابر مُحيلة الواحدة على الأخرى في إطار نفس المؤسسة التربوية ونفس النسيج التكويني وذات الإشراف الإداري والبيداغوجي، أفضل وأنجع بكثير من منظومة “الشتاتالتكويني” التي نعيشها اليوم في تونس، وذلك لسببين رئيسيين على الأقل :
– طاقة الاستيعاب الحالية في كامل منظومة التكوين المهني لا تتجاوز في أحسن الحالات 60 ألف متكوّن من المسجلين سنويا بين العمومي والخاص (حسب أرقام وزارة التكوين المهني لسنة 2018)، وذلك في كل مستويات التكوين (غير المشفوعة كلها بشهائد معترف بها) والتي لا تشمل المنقطعين سنويا فقط بل كل المنقطعين عبر السنوات والمحرزين على شهائد جامعية ممن لم يحصلوا على شغل… وعدد المنتمين إلى هذه الفئات يُقدّر بمئات الآلاف المتراكمة من سنة إلى أخرى.
– التوجيه نحو التكوين المهني والتدريب عندما يكون داخليا ومندمجا مثله مثل التوجيه نحو المسالك التقليدية الأخرى تماما، يجعل منه مسلكا طبيعيا لا يزيد ولا ينقص قيمة لأن صاحبه لن يغادر المؤسسة التربوية ويظل منتميا لها ومنتفعا بالتعلّمات العامة المشتركة إلى جانب تكوين خصوصي ذي جودة وآفاق… وبالإضافة إلى الوقع النفسي السيّء على التلميذ نفسه وعائلته في حالة “الإبعاد”، هناك صعوبة إضافية تتمثل في ضرورة مباشرة مسار جديد يتعين خلاله على التلميذ أن يُجمّع المعلومات حول عروض التكوين واستجلاء ما هو قادر على متابعة الدراسة فيه، والقيام بإجراءات ثقيلة أحيانا من تسجيل وتنقل وتخيّر المركز التكويني الأقرب إلى مقر سكناه في صورة توفّره.
ثانيا : بعث شبكة المؤسسات النموذجية
الفكرة في حدّ ذاتها مُغرية لأنها تنطلق من حقيقة بديهيّة تتمثّل في أن هنالك أطفالا وشبانا متميزين دراسيا (وهم تلاميذ حسب المختصين ذوو اشتغال ذهني مختلف وتدفق عصبي أسرع ولديهم ترابطات عصبية أكثر كثافة) بما يتطلب تأطيرا خاصا ومرافقة مختلفة حتى لا يشعروا بالضجر وأن المدرسة لا تستجيب لانتظاراتهم. لكن في عديد بلدان العالم تمّ التوصل إلى صيغ معالجة أقل حدّية مما حدث لدينا مثل الاعتراف أولا بأنهم تلاميذ ذوو حاجيات تربوية خاصة واعتماد مقاربات بيداغوجية مرنة مع هؤلاء، وتمكين المربين من تكوين خاص يسمح بتعهّد هذه الفئة وخلق أقسام متعددة المستويات، حتى يُسمح لكل تلميذ بالتعلم حسب النسق الخاص به أو ما تسميه رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية للتلاميذ المُبكّرين ذهنيا élèves intellectuellement précoces EIP بــ “العمل ضمن جُزيْرات” بما يشجع على التعاون بين الأقران وخلق مجموعات بمستويات فيها أكثر ثراء.
إذن الحل لا يكمن في عزل التلاميذ المتميّزين حتى لا يتأثّروا بالمستوى “المتدنّي” لباقي التلاميذ في المؤسسات التربوية “العادية”، بل في جعل التلاميذ “العاديّين” يتأثرون إيجابيا بالمستوى العالي نسبيا للتلاميذ “النموذجيين”، بحيث تكون الخسارة مُضاعفة، فلا المدرسة حافظت على خيرة أبنائها ولا هؤلاء جَنَوْا امتيازات مدرسية تُذكر.
فما هي إجراءات التهيئة البيداغوجية الخاصة التي يتمّ رصدها لفائدة تلاميذ المؤسسات النموذجية في تونس، وأي تكوين خاص يتمتع به الأساتذة المنتدبون فيها وأية مواد إضافية تُدرّس هناك وأية أساليب إفراقيّة معتمدة وأي زمن مدرسي خاص يتلاءم مع الطبيعة الخاصة لهذه الفئة من التلاميذ ؟
الإجابة : قطعا لا شيء.
التلاميذ الذين يُحرزون معدّلات عالية في المؤسسات النموذجية هم يحرزونها بفضل المستوى الجيد الذين قدموا به من مؤسساتهم الأصلية وليس بفضل “قيمة بيداغوجية مضافة” توهّمها المؤسّسون وأرادوها لهذا النسيج التربوي الهجين…