تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 34

نشرت

في

Images de Femme Voilee Dessin – Téléchargement gratuit sur Freepik

احيانا يعيش الواحد منّا الزمن خارج الزمن ..فزمن الفرح غير زمن الصدمات والازمات ..ويصبح تعداد الساعات مختلفا تماما ..وتصبح الساعات كاذبة ..فساعة الفرح تتحول الى عشر ثانية، ودقيقة الأزمة تصبح جبلا من القرون الجاثمة على صدورنا ..

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

يوم جاءتني رسالة الاستغاثة من حبيبتي ورغم قصر المسافة بيني وبين مقصدي والتي لا تتجاوز زهاء الكيلومتر الواحد، احسست وانا اهرول بأني اشارك لأول مرة في سباق الماراتون مشيا… كنت اجري كطفل صغير ..لاهثا في قمّة عطشه ..واحسست انّ العشر دقائق تثاقلت لتصبح عشر ساعات …يجب ان اصل ..يجب ان اعلن ثورتي وغضبي عن سرقة واختطاف من احب ..ومن لي غيرها …؟؟؟ عيّادة ..هي ولا احد غيرها …وهل هنالك في الوجود من مثل الام لتحس بفجيعة طفلها ….؟؟؟ وقفت امامها خائر القوى كحطام طائرة … ونظرت عياّدة الى حطام طفلها وعبثا حاولت بنظرتها ان تعرف ما في صندوقي الاسود ..وسألت في ذعر: لاباس ..؟؟ ضربك حدّ؟ تعاركت انت وحدّ؟ اشبيه وجهك اّصفر ملخلخ ..؟

نظرت اليها بكل رجاء الدنيا وقلت لها: ولدك ماشي يموت …ولدك يحبّو يقضيو عليه … وارتعدت فرائصها: اسم الله على ولدي اشكون اش عملتلهم ..؟؟… ودون سابق مقدّمات ذكرت لها اسم حبيبتي … هي تعرف ولهي بها .. تعرف ابنها المتيّم بمن احبّ ..لذلك لم يفاجأها اسم حبيبتي وردّت: اشبيها .؟؟؟… وطفقت اسرد عليها ما حدث وخاصّة استحالة قبولي لهذا الخطب …نظرت إلي يعين حزينة وانهمرت منها الكلمات: عاد اشبيه ..تاخذ للّتها … يخّي ما اتخلق في الدنيا كان هي ..؟؟ _ وانفجرتُ: لا لا ..هي او لا احد … وبكل بساطة وحنّية وجدتها تردّد: ايه اش تحبّنا نعملو؟ هذا مكتوب ربّي … هي ربّي يهنّيها وانت تاخذ للّة النساء …واحنا يشرق علينا نمشيو نعاركوهم ..؟؟.. وانت يشرق عليك تمشي تعمل حاجة والا بوحاجة ؟؟؟ …. نحبّك عاقل وسيد الرجال …

لم يكن ارسالنا المشاعري يومها انا وعيّادة على نفس الموجة ..هي كانت ترسل على موجة طويلة المدى (العقل) وانا كنت ارسل على موجة قصيرة المدى (القلب)… انتفضت كجبّار مارد وقلت بشكل حازم: شوف ما نطوّلوهاش وهي قصيرة، تلبس سفساريك توة وتمشي تخطبهالي … وانتفضت عيّادة بدورها وهي جامدة في مكانها: نخطبهالك ..؟؟ اش عندك؟ زيتون بوك والا ورثة امّك …؟؟ اشنوّة تحبّني ضحكة قدّام ناس ما نعرفهمش ..؟؟ اش نقلّهم كيف يقولولي اش يعمل ولدك واش عندو ..؟؟؟ لم ادعها تكمل خطبتها الموضوعية والمنطقية …كنت اعرف ان ارتباط اي شاب بفتاة في ذلك الزمن يقاس بما يكسب لا بما يكنّه من مشاعر … بل قد يصبح الافصاح عن المشاعر جريمة لن تغتفر في حق من يحب ولكن انّى لي ان اعرف وقتها ….قفزت من امام عيّادة وبلغة التهديد والوعيد صرخت: شوف كلمة وحدة يا تمشي تخطبهالي توّة زادة موش غدوة، والا وجهي ما عادش تراه ..والله لا عاد تراه ..

عندما التفت بعد ذلك الزمن الى صنيعي وددت لو وجدت او اكتريت جلادا ليوثقني امام كل الناس ويهوى على ظهري العاري دون شفقة او رحمة ..تماما كما فعل جماعة قريش ببلال وهو يعلن عصيانه على اسياده…. كيف لا وانا لم ادع المجال لايّ صلح وبوجهي الصارم الا وعيّادة تلتحف بسفساريها ودموع القهر تنسكب من عينيها لتُنفّذ قسرا اوامر جلاّدها ..امّي كانت تعرف طفلها جيّدا ..كانت تعرف انّي عنيد جدا بل انّي العناد ..وكانت تدرك اتّي افعلها ..وانّها ستثكل في عبدالكريم اذا لم تنفذ وللتّو امره الهتلري القاصم لكبريائها وعزّة نفسها ..ولكن كانت تدرك ايضا اتّها يجب ان تفعل اي شيء من اجل وردة عمرها …اوليس المثل المصري يقول: من اجل الورد نسقي العلّيق ؟؟ وسارت عيّادة الى اهل حبيبتي “ساق لقدّام وعشرة التالي ..هايمة على وجه الارض من هنا تكوي ومن هنا تشوي”… هكذا روت لي بعد سنوات كيف عاشت الحدث الجريمة التي ارتكبتها في حقّ جنّة عمري ..في حقّ امّي الرائعة العظيمة وانا كالاهبل اسوقها الى الذل والاذلال ..

لم تكن المسافة التي تفصل بين حوشنا ومنزل حبيبتي تزيد عن الكيلومتر ونصف … ولكن وكما الزمن ..المسافات تطول وتقصر حسب الاحداث لا حسب المقاييس العادية البائدة والكاذبة … وتصوروا فقط زمن انتظاري لعودة عيّادة من الامتحان الرهيب ..نسيت وقتها الباكالوريا والمراجعة والاصدقاء ..وطفقت كامل قرون الانتظار اشعل سجائري “المنته”… كنت تماما كذلك النصف مجنون الذي لا يدري ماذا يريد رغم انّه يدري ..كنت لا ادري ايّ خطب فادح ينتظرني او ايّ بحر من الفرح سيغمرني واغرق فيه واتنفس تحت الماء دون ان اغرق ..يومها عرفت عمليّا ما معنى قطع كل الوقت وانا امشي ذهابا وايابا في انتظار عودة عيادة من مهمّتها كسفيرة فوق العادة لدولة مشاعري .. ولمحتها …انها هي تلك المرأة القصيرة طولا ..العظيمة حتى عنان السماء.. الكاريزما حتى ما فوق السحاب شخصية .. لم اجد ذرّة واحدة من الشجاعة كي اهرول اليها لاستقي اخبار الغزوة ..كانت رجلاي مثبتتين في الارض وكنت على نفسي ادور ادور ..هل احسستم يوما مثلي بما معنى الواحد منّا يدور وهو ثابت كعمود على رجليه ..؟؟؟ هل عشتم مثلي رهبة انفراج الستار لاكتشاف ما قد يكون وراء الستار ..؟؟

ووصلت عيّادة ..وهرعت عيناي مسرعة لقراءة ما في عينيها …وخارت قواي..كنت طوال عمري اعشق فكّ رموز الاعين وما زلت ..ولئن اكّد العلم انّ هنالك شيئا ما داخل الاعين البشرية هي كالبصمات لن تشترك عين واحدة مع عين اخرى فيها ..فاني كنت وما زلت التجئ الى عين محدّثي صديقا كان او طالبا او قريبا ..لابحث في عينيه عمّا لا يستطيع قوله ..وكم كانت الاعين تستجيب لبحثي لتعرّي صاحبها مهما حاول التخفّي ..خارت قواي وانا المح عينيّ عيّادة …وزاد انهياري وانا ارى الدمع فيهما ..رغم انّها لم تكن يوما من اللواتي يبكين بسهولة ..اتذكّر جيّدا انّها كان تردّد دوما: يعطيهم شيّة الدموع ..كيف نستحقهم في همّ ما نلقاهمش… ولكن ايّ هم اكبر من همّها وهي تعود منكسرة كسفيرة فوق العادة في الامم المتحدة وهي تحاضر من اجل سعادة واسعاد ولدها ..احسست وقتها انّها حاضرت على منبر الامم “المتخذة” … لم استطع النظر اليها …كنت الدمار بعينه وسالت وبصوت يكاد لا يُسمع الا باذينة القلب: اش قالولك ..؟؟ وجاوبتني ودمع العين يسبقها: قالولي احنا ما عندناش طفلة تحب … وقول لولدك راك مازلت صغير و يمشي يقرا على روحو خيرلو … هل تصدّقون اني اكتب لكم الان وانا في حاجة غامرة لصدر ابكي عليه …عيّادة الغالية يّقال لها هذا الكلام ..؟؟

ياااااااااااااااااااااااااه ما اخيبك يا عبدالكريم …اهكذا انت بكل هذه البشاعة ورّطت عيّادة ورميت بها في الوحل ..؟؟ مسحت أمي بكُمّ سفساريها دمعها وانتفضت وهي ترى ابنها مهزوما وقالت: اما انا ما سكتّلهمش …قلتلهم ولدي مازال صغير ايه ..اما هو في يوم من الايام يكبر ويكمّل قرايتو ويولّي سيد الرجال… هي قالتها نعم ..وكانت تدافع عن كبريائها الجريح وتدافع عن طفلها المكلوم … وعادت عيّادة الى هدهدة وليّدها: وراس ولدي اللي ما تاخذ للّتها ..وختمت تغريدتها بدعوتها الشهيرة: برّة ولدي راجع على روحك . امتحانك عادك بيه جاء .. يجعلك هلال على روس الجبال ..الشمس لا تحرقك والعدو لا تلحقك …

وقتها لم اكن اسمع كثيرا ولم اكن ارى كثيرا ولم اكن انا كثيرا ..كنت قطعة فراغ … وما افظع ان يكون الواحد منّا “لاهو هوّ ولاهو موش هوّ”… لست ادري كيف تحاملت على نفسي وغادرت الحوش … ولست ادري كم قضّيت من الزمن للوصول الى اصدقاء المراجعة .._ الزمن .. الزمن .. الزمن .. ما اقساه وهو يضحك على ذقوننا بكل شماتة .. ووجدت صديق عمري ينتظرني وبادرني بالسؤال بعد ان انتحينا ركنا منزويا: (اش صار لاباس؟ تي اتكلم يا …) نظرت اليه وبدأت بخاتمة ما حدث قائلا: خوك حلت به مصيبة …وقصصت عليه ما حدث “من طقطق …لسلامو عليكو” … ورغبة من رضا في تمييع الحدث وتخفيض هول ما حدث لي، ردّ على طريقتنا انذاك: (بول عليهم يعطيهم … توة موش وقت حب …الباك تستنى فينا ..ننجحو ونمشيو لتونس ونعيثو فيها فساد وطز فيهم…هو يعرف مدى تعلّقي بفتاتي لذلك لم يجرؤ على مسّها بايّة عبارة نابية ..

لم اردّ على ثرثرته وعدت الى: شك .. ضباب ..حطام .. بعضي يمزّق بعضي يمزّق بعضي…لم يعد يفصلنا على موعد اجراء امتحان الباكالوريا الا بضعة ايّام ..كابدت فيها نفسي حتى اتناسى ما حدث وانشغلت بقراءة الى حدّ الحفظ آخر ما صدر لنزار قباني من شعر _ ديوان هوامش على دفترالنكسة… والذي يحتوي على ثلاثة قصائد كتبها الكبير نزار بعد نكسة جوان ..كنت قبل ذلك الديوان التهم التهاما ومنذ بداية مراهقتي كل ما صدر له مفتونا بما ينثره قلم شاعر المرأة والحب من عناقيد ابداع …الان ديوانه الاخير فتح عيتيّ على لون جديد في اشعاره لم يكن يصيغها من قبل وهو يصرّح بذلك بقوله: مالحة في فمنا القصائد .. مالحة ضفائر النساء والليل والشجار والمقاعد ..يا وطني الحزين… حولتني بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين .. لان ما نحسّه اكبر من اوراقنا .. لابدّ ان نخجل من اشعارنا ..نزار في شعر سياسي …

وجاء يوم الامتحان ..كنت كعادتي هادئا متوازنا رغم الخطب الجلل… منتصب القامة ذهبت الى معهد الهادي شاكر في اليوم الاول من الامتحان .وجاء موضوع الفلسفة: الحرية لا تُعطى بل عمل يجب القيام به… شيّخني برشة الموضوع وعطيت كل ما عندي في واحد من اهم مواضيع الفلسفة الحريّة… وجاء موضوع العربية: الشاعر ابن بيئته حلل وناقش … وهذا طرت بيه ..تجولت في مدار الشعر منذ العصر الجاهلي مرورا بالاسلامي والاموي والعباسي والحديث والمعاصر حتى ديوان هوامش على دفتر النكسة ..اخترت من الجاهلي عنترة ..لا تسقني كأس الحياة بذلّة، .بل فاسقني بالعز كأس الحنظل ..وطرفة … اخترت من صدر الاسلام حسان بن ثابت ….ثم مررت الى عمر ابن ربيعة وابي تواس وجميل بثينة ..وليت هندا انجزتنا ما تعد ..وشفت انفسنا مما تجد ..واستبدت مرة واحدة ..انما العاجز من لا يستبد …وصولا الى اكبر واعظم واروع شاعر عربي في العهد العباسي وفي كل العهود ..انا الذي نظر الاعمي الى ادبي .. واسمعت كلماتي من به صمم …المتنبي ومن غيره؟ ..

انتهاء بالشعر الحديث وتحديدا شعراء المهجر… وختامها نزار ابن القباني الدمشقي الذي احترف الهوى .. ان الهوى في طبعه غلاّب . كما جاء في قصيدته يا تونس الخضراء …نزار . شاعر الحب والسياسة …في كلمات، فتّقت مواهبي بكل ما احفظه لهؤلاء خاصّة اني مع سي محسن الحبيّب استاذ العربية كنا محظوظين لاننا في هذا الباب قمنا باحد الفروض . ونلت كعادتي 12 افضل عدد …المواد الاخرى كنت كعادتي… ضعيفا جدا في الرياضيات والفيزياء… فوق المتوسط في العلوم… قريبا من الحسن في التاريخ والجغرافيا نظرا إلى لارقام الكثيرة في هذه الاخيرة… وحسنا في الانكليزية …. لكن بالنسبة لنا تلاميذ شعبة الاداب الكلاسيكية “أ” في تلك الحقبة، المهم تسلّكها في العربية ضارب 4 وفي الفلسفة ضارب 6 …

انتهت اختبارات الباكالوريا ..وعدت الى شلّة الاصدقاء ..ولاعمالنا اليومية ويا لها من اعمال ..كورة وبولاط وسهريات في الاعراس التي نعرفها والتي لا نعرفها حيث لا تنفع معنا العبارة المشهورة انذاك لكل من لا يقبل المتطفلين لحضور فرحه “جو عائلي”… وهي بمثابة الورقة الحمراء التي تعيد كل من هو غير مرغوب فيه الى خارج ملعب العرس ..هذه العبارة لا معنى لها عندنا نحن بورة الكحلاوي والا “نبلبزوها”… واتقاء لشرّنا يُسمح لنا بالدخول خاصة ونحن لم نبلبزها يوما مع ايّ كان … المُهم يعطيونا قدرنا ..

بعد الامتحان بيومين …وصلتني رسالة موجزة منها … نعم من حبيبتي ..تقول: دارنا عطاو الكلمة لدار العروس ..اما ما تخافش انا معاك وليك انت اكهو … وهرولت مسرعا اليها ..ومن تكون غير عيادة ,,؟؟؟ وعانقتها بكل عنف حنون قائلا: قلتلك راهي تحبّني شوف اش بعثتلي..؟؟ وسردت عليها الكلمات الموجزة والتي كانت عندي اكبر من ايّ مجلّد .. ونظرت اليها فاذا بها تردّ ببرود واتّزان: اللي يعطي ربّي مبروك .. اندهشت من هذا الموقف الذي كم هو شبيه بالنهر المتجمد لميخائيل نعيمة -يا نهر هل نبضت مياهك وانقطعت عن الخرير .. ام قد هرمت وخاب عزمك فانثنيت عن المسير ).. لم يكن في اعين عيّادة ايّ معنى للحياة… كانت باهتة الى حد التجمد ..فعلّقت في دهشة: اشبيك ما فرحتليش ..فاجابت وبنفس الهدوء المدمّر: يا وليدي حتى يولد ونسميووه ._….

لم افهم يومها ما عنت .. وهل للمحبّ ان يخضع قلبه لسكانر العقل … مهبول اللي يقول ايه …ولانني اعرف واعشق هبلتكم فها انا اصرّ اصرارا على ان المحبّ مهبول او لا يكون …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 79

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الشجاعة عندي ان نواجه الخصم وجها لوجه لا ان نكيل له كلّ التّهم في ظهره ونواجهه بابتسامة خادعة، هي النفاق وهي الجبن والخزي والعار …

عبد الكريم قطاطة

لذلك لمّا انهى السيّد عبدالرزاق الكافي مكالمته مع السيّد منصف بن محمود الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية انذاك ليُشعره بقراره المتمثّل في عودتي لبيتي لاذاعة صفاقس… طلبت منه بكلّ لطف ورجاء ان كان لا يُزعجه، ان يُعلم عبر مكالمة هاتفية مديري السيّد محمد عبدالكافي بقراره، حتّى لا اعود اليه بمنطق المنتصر من خلال قرار فوقي ياتيه من اعرافه … اذ انّ في ذلك اهانة لشخصه ..وانا يعزّ عليّ ان يُهان الانسان مهما كانت نوعية الخلاف الذي بيننا …الكرامة كانت عندي وستبقى خطّا احمر ومثلما دافعت عنها عندما يتعلّق الامر بكرامتي، فمن باب المنطقي جدا ان ادافع عن غيري في هذا الباب مهما حدث …

للامانة فوجئ السيّد الوزير بموقفي … سكت لثوان ثمّ وبابتسامة رضا قال لي: (هذا موقف رجولي …وتقديرا لك سافعل) … رفع سمّاعة الهاتف وباختصار شديد وبصوت هادئ قال: (سي محمد مرحبا بيك معاك عبدالرزاق الكافي .. انا توة بحذايا توة سي عبدالكريم قطاطة حكيت انا وياه في الاشكال اللي وقع بيناتكم ويبدو انو موش كبير… واعتقد انو حان الوقت لانهاؤو ولعودة المذيع للمصدح … مازلت كيف كلمت سي المنصف وعلمتو بقرار عودة سي عبدالكريم وبطلب من هذا الاخير انا كلمتك باش تكون على علم … نطويو الصفحة اللي خذات برشة وقت ونعوّل عليك وعليه باش تخدمو في كنف التأخي بما فيه مصلحة الاعلام …ايّا في لمان)… علّق السيّد الوزير سمّاعة الهاتف ثمّ مدّ يده لي بكلّ حرارة وقال … تشرّفت بمعرفتك ونعرفك تهنّيني …اجبت: (شكرا انّك سمعتني وان شاء الله نكون في مستوى ثيقتك) …

خرجت من الوزارة بفخر واعتزاز وسعادة لا تُوصف … للامانة لم تكن سعادة مشوبة بالخيلاء والانتصار على الخصوم بقدر ما كانت سعادة العودة الى المصدح والى اصدقائي المستمعين… كنت دوما اقول لكلّ متدرب عندي في ميدان التنشيط الاذاعي …. المصدح امّا ان يكون حبّا كبيرا غامرا عارما لحدّ الغرق الجميل او لا يكون… بعضهم لم يكن في بدايته يستوعب مثل هذه الكلمات بل كان يستغرب منها … وكثير منهم من غرق في لجج حبّ المصدح لحدّ الهوس …لكن يبقى الاشكال الاكبر في توظيف هذا الهوس بشكل ايجابي ومن زاويتين … الاولى الايمان بالرسالة الكبيرة التي على المنشّط ان يعتنقها من اجل اعلام يرتقي بالذات وبالوطن وبالانسان والا اصبح المصدح والاعلام من صنف هشتكنا بشتكنا …

الزاوية الثانية الايمان وبشكل دائم انّ حبّ المصدح وتحقيق بعض النجاح ستكون عاقبته الفشل متى اصبح المنشّط يعتقد انه اصبح نجما لمجرّد ان ينهال عليه مجموعة من المستمعين بعبارات النفخ والشكر والمديح وعبارات من نوع انت مبدع وانت رائع ..وهو لم يفهم بعد انّه سلك بضع خطوات في سلّم الطريق الصعب والشائك والطويل… ولم يتفطّن انّ عملية النفخ هذه هي تماما كالنفخ في الرماد …كنت دائما اردّد: شرعيّ جدا ان يتوق ايّ منشّط للنجومية …ولكن بداية النهاية ان تصبح لدى المنشّط قناعة كاملة بأنّه نجم لا يُشقّ له غُبار منذ بداياته وهو غير قادر احيانا حتى على صياغة فقرة دون الوقوع في اخطاء لغوية ونحوية بدائية … درب التنشيط ينتهي فقط عندما ننتهي …علاقتنا بالمصدح هي علاقة التلميذ بالدراسة ومدى الحياة …لذلك كنت كثير الانزعاج بالنسبة لي ولمن ادرُسهم فنون التنشيط من كلمات الاعجاب على شاكلة (انت مبدع) …. عن ايّ ابداع تتحدثون ؟؟ هذا هو الفخّ الكبير الذي ينساق اليه العديد من المنشطين وخاصة المبتدئين منهم …

عندما غادرت مبنى الوزارة اتجهت مباشرة الى محطة اللواجات …كنت لا الوي على شيء وكان كلّ همّي ان ازفّ البشرى لعائلتي واصدقائي … بعد اربع ساعات وجدتني بمنزلي… زوجتي كانت اذاك تُقيم بالمستشفى الجامعي قسم الولادات نظرا لاشكال صحّي حتّم عليها الاقامة والعناية الدائمة بها، ووالديّ رحمهما الله كانا في استقبالي … توجّست الوالدة خوفا وهي تعلمني بأنّ سيارة الاذاعة جاءت لتسأل عنّي، وكعادتها بادرتني بالسؤال (لاباس يا وليدي ؟؟ كرهبة الاذاعة اربع مرات تجي وترجع تسأل عليك جيتشي من تونس ؟؟)… طمأنتها بالقول (وراسك لاباس يا عيادة الحمد لله عن قريب ترجع تسمعني في الاذاعة) … (ايّا الحمد لله ما تخافش في جرّتك دعاء الخير مادامنا راضيين عليك) …

وماكادت تُنهي كلامها حتى رنّ صوت منبّه السيارة … خرجت لأجد الزميل السائق …سلّمت عليه وسألت لاباس ؟؟ اجاب زميلي … لاباس سي محمد حاجتو بيك وقلّك دوب ما توصل ايجاني … تبسّمت وقلت … اوكي هيّا نمشيو …كنت قد فهمت قصد سي محمد عبدالكافي … لمّا وصلت وتطلّعت الى نظرات عينيه … سلّمت عليه وقبل ان ينبس ببنت شفة قلت له: صاحبك راجل اقسم لك بكلّ المقدّسات اني لم اقل فيك كلمة سوء … كلّ ما في الامر وبالحرف الواحد قلت للسيّد الوزير وقعنا في سوء تفاهم انا ومديري استغلّه اصحاب السوء ليُعكّروا الاجواء بيننا، وطلبت منه بعد مكالمته مع الرئيس المدير العام ان يبلغك مباشرة بقراره حفاظا على كرامتك وعزّة نفسك …

كان متجمّدا في كرسيّه ينظر اليّ بكلّ تركيز … نهض من الكرسيّ وجاءني معانقا والدمع مترقرق في مقلتيه وقال …الله يهلك اصحاب الشرّ واكاهو … ومدّ يده وقال … )هذا وعد من عند خوك من هنا فصاعدا ما ترى منّي كان الخير) … وللامانة كانت بداية عهد جديد مع الزميل والعرف سي محمد … اصبحنا صديقين جدا لدرجة انه كان يستشيرني عند ايّ تغيير او مع بداية ايّة شبكة، مما جعل البعض يعلّقون على ذلك بالقول وبشكل مازح (الشبكة ما تخرج اللي ما يشوفها عبدالكريم) … كانت فرحة للعائلة والاصدقاء والزملاء في الاذاعة وفي الصحافة المكتوبة كبيرة… وطبعا الصدقة ما تخرج كان ما يشبعو امّاليها وباعتبار انتمائي لجريدة الاعلان لعدد الثلاثاء، ظهر اوّل خبر عن عودة الكوكتيل بهذه الجريدة وبتاريخ 6 جانفي 1987:

“رسمي… كوكتيل عبدالكريم يعود يوم الاثنين القادم

في ظرف اقلّ من شهر نسجّل للاستاذ عبدالرزاق الكافي مبادرة ثانية في اعادة المياه لمجاريها وتحقيق رغبة الجماهير الواسعة… فبعد ان استجاب لطلب الزملاء الذين اتصلوا به في صفاقس لاعادة الزميل مختار بكور للنقل الرياضي (هنا لابدّ من الاشارة الى انّ الزميل الهادي السنوسي هو الذي وقع تكليفه منّا جميعا كي يكون المحاور في قضية الزميل مختار بكور وفعلا نجح في مهمته وعاد الينا بوعد من الوزير باعادة زميلنا مختار)، علمنا انّ السيّد الوزير تدخّل شخصيا في الايام الاخيرة لاعادة شيطان الميكروفون الزميل عبدالكريم قطاطة الى التنشيط الاذاعي …اذن سيعود في الايام القليلة القادمة الكوكتيل الى شبكة اذاعة صفاقس بعد غياب تواصل حوالي السنة وثمانية اشهر، ليزيد في تدعيم البرامج المباشرة … وقد اتصلنا بالسيّد محمد عبدالكافي مدير اذاعة صفاقس الذي افادنا انّ سيادة الوزير قد قرّر اعادة الزميل عبد الكريم الى حظيرة العمل الاذاعي بداية من 2 جانفي، وعلمنا انّ توقيت البرنامج قد تغيّر ليصبح يوميّا من الاثنين الى الخميس من الثانية والنصف بعد الظهر الى الرابعة وذلك لضغوط الشبكة الحالية”

قد يتبادر لذهن البعض مجموعة من التساؤلات حول توقيت البرنامج ومدّته ويوم عودته الذي تأخّر إلى 12 جانفي عوضا عن 2 جانفي …اوّلا وبكلّ موضوعية عندما قرر الوزير اعادتي لاذاعة صفاقس كانت الشبكة جاهزة تقريبا .. لذلك عندما تحاورت مع السيّد محمد عبدالكافي عبّر لي عن انشغاله لعدم وجود مساحة كافية للكوكتيل واستحالة عودته في مكانه المعتاد (العاشرة صباحا)… وطلب رايي في الامر وبكل صدق ونزاهة عبّرت له عن يقيني بأنّه ليس التوقيت ما يخلق نجاح ايّ برنامج بل المحتوى وسترون اني في ما بعد عملت بكل المساحات توقيتا … الاصيل ما بين الثانية والنصف الى الرابعة … المساء من الرابعة الى السادسة … الليل من التاسعة الى منتصف الليل… وصولا الى فجر حتى مطلع الفجر من منتصف الليل الى الخامسة صباحا ….

وللامانة ايضا كان ذلك نوعا من التحدّي من جانبي للذين يقولون (طبيعي انو عبدالكريم نجح في الكوكتيل لانو واخذ احسن توقيت من العاشرة الى منتصف النهار … متجاهلين اني عندما اخذت على عاتقي الكوكتيل في ذلك التوقيت كانت تلك الفترة اذاعيا فترة ميّتة وليس بها سوى برامج اهداءات … لذلك قبلت التحدّي واضفت متحدثا الى الزميل محمد عبدالكافي… ما رايك بما انّ توقيت البرنامج يأتي في الاصيل ان نبدّل اسمه إلى “كوكتال الاصيل” ؟… وللامانة مرة اخرى كان تفكيري ليس مأتاه التوقيت فقط بل صفة الاصالة تعنيني ايضا …لست ادري هل فهم سي محمد الامر كما فهمته ولكنّه وافق دون نقاش….امّا تاجيله ليوم 12 فذلك كان حرصا منّي على استنباط محاور جديدة للكوكتيل بعد ان وقعت سرقة جلّ اركانه القديمة إلى برامج اخرى… وهذا ايمان منّي ايضا بأنّ المنتج والمنشّط غير القادر على الابتكار والخلق مآله الموت الاذاعي السريري …

وجاء يوم 12 وقسمت الكوكتيل الى محورين… نصف الساعة الاولى يحتوي على المقدمة الشخصية اي (الموقف) باعتباري كنت ومازلت اؤمن بالاعلامي صاحب المواقف لكن دون غرور وبكل تواضع… ولا قيمة عندي لذلك الاعلامي عموما الذي يكون (صباب الماء على اليدين او القفاف والانتهازي والذي تشتريه بكسكروت) وهذا وقع …. نعم هنالك من وقع شراؤه بشاطر ومشطور وبينهما كامخ (وهو اسم الكسكروت باللغة العربية القحّة… ما ارزنو وقداش فيه تجوعيب على لغتنا الجميلة) …امّا النصف الثاني للكوكتيل وبمعدّل ساعة فادرجت فيه ركنا جديدا تحت عنوان بكلّ احراج …وفيه اقوم بدعوة ضيف لاطرح عليه بعض الاسئلة الخالية من المجاملة ولكن بكل لياقة وبعيدا عن الاساليب الوقحة التي انتشرت بشكل مقذع بعد 14 جانفي (وقيّد على حريّة التعبير والتي هي في الحقيقة حريّة التبعير)…

وللعدد الاوّل اخترت ضيفا من الوزن الثقيل… ومن يكون غير ساحر الاجيال حمادي العقربي …دعوني احك لكم عن علاقتي بحمادي … انا اعرفه منذ كان يكوّر في البطاحي …حمّادي من ميزاته انّك وانت تشاهده في ايّة تكويرة يستحيل ان تتكهّن بايّة حركة كروية سيقوم بها …ومن عيوبه انّه لا يُجيد الكلام الا برجليه …اتذكّر جيّدا انّي وفي اوّل لقاء طويل معه وانا اقترح عليه لقاء صحفيا مطوّلا بجريدة الايام، وجدته معجبا بي وببرامجي… فاجأني بذلك وفاجأني اكثر عندما قال انه لم يسبق له ان ادلى بحوار مطوّل لايّة جريدة وانّ العديد من الحوارات التي صدرت ببعض العناوين الصحفية كانت وهمية … وبكلّ صدق كان يومها يفضّل ان لا يكون الحوار … لكن لم استسلم واقنعته بأنّه من حقّ الناس عليه ان يعرفوا العديد من التفاصيل واكّدت له انّني لن اقدّم الحوار للنشر الاّ بعد ان يطّلع عليه كاملا …الاّ انّ اجابته اخجلتني واسعدتني … قال حمادي … نعرفك معلّم وعندي ثيقة فيك … وكان الحوار صفحة كاملة في جريدة الايام …

عندما دعوته ليكون ضيفي الاوّل في كوكتيل الاصيل …كان سعيدا بعودة الكوكتيل وكان مراوغا كعادته وبابتسامته الخجولة المعهودة قال … تي اشنوة يا سي عبدالكريم موش لو كان نخليوها مرة اخرى خير؟ …قلت له لا يا حمادي، الحلقة الاولى نحبّها مع معلّم … ومرة اخرى يرواغ ويقول … يخخي انت موش معلّم ؟؟….ودون تطويل مشاور قلتلو يا حمّادي قُضي الامر انت ضيفي في الحلقة الاولى … وبكلّ حبّ وحياء يُجيب حمادي … وانا عندي حكم معاك؟ …. وكان ذلك …وكان يوم 12 جانفي وكان يوم 13 جانفي ايضا …حاصيلو كيف تمشي تقطّع السلاسل وكيف تجي تجيبها سبيبة …اقداااااااااااااااااااار

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 78

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الثلاثية الاخيرة لسنة 86 شهدت مجموعة من الاحداث الهامة … لنبدأ بسبتمبرها حيث انتقلت مجموعة “الايام” الصحفية بجلّ عناصرها وبعد الاستقالة من الجريدة الى خانة صحفية اخرى .. جريدة الاعلان …

عبد الكريم قطاطة

هذه الجريدة كانت، اسما على مُسمّى، عنوانا صحفيا جلّ صفحاته اعلانات … كانت تصدر يوم الجمعة وبرئاسة تحرير للمتميّز جدا الزميل جمال الدين الكرماوي، ربي يشفيه*… جمال هو فنان بكل موازين الكلمة فهو لاعب ممتاز في كرة القدم لعب بالملعب التونسي … وهو عازف غيتار وهو ايضا قلم فينو ومن افضل من عرفت الساحة الصحفية فيانة ونقشا… اشتهر في جريدة الاعلان بمقاله الاسبوعي الو الاعلان …مقال كان ينتظره عشاق الكلمة الرشيقة والاسلوب السمح …

السيّد نجيب عزوز مدير الجريدة اغتنم فرصة انسحاب فيلق الايام من الايام ليضرب عصفورين بحجر واحد… العصفور الاول تمثّل في استغلال تألّق مجموعة الاقلام في تجربتها مع الايام وانتدابها … والعصفور الثاني توسيع دائرة انتشار جريدة الاعلان لتصبح جريدة نصف اسبوعية وذلك بالصدور مرتين في الاسبوع … يوم الجمعة لفريق جمال الكرماوي و يوم الثلاثاء لفريق نجيب الخويلدي … كان ذكيّا جدّا في ادراكه لما قد تخلقه روح المنافسة بين الفريقين واستغلالها ايجابيا … وفعلا نجح في الرهان رغم كلّ عوائق ومشاكل الغرور التي عاشها الفريقان …وفعلا انطلقت التجربة الثانية لاسرة الايام داخل اروقة الاعلان في 30 سبتمبر 1986…

شهر ديسمبر من نفس السنة شهد حدثين اوّلهما عيد ميلاد اذاعة صفاقس (8 ديسمبر) والذي كان بالنسبة للمستمع المتعلّق بالكوكتيل مناسبة اخرى لاحياء مأتم … هاكم ما كتب عبداللطيف الحداد مرة اخرى بجريدة النهار يوم 3 ديسمبر 86 حول الحدث وتحت عنوان “خطاب عاجل الى مدير اذاعة صفاقس .. عيدا سعيدا في غيابنا”:

(سيّدي .. تحتفلون بعيد ميلاد اذاعة صفاقس الـ 25 وكلّكم فرح وترح واشياء اخرى وذلك من حقّكم طبعا ..اعرف انّ ربع قرن من الحياة والجهد والدأب له وزنه وثقله المُعتبر ولونه الخاص جدا .. اعرف وثانية انّها فرصتكم كاملة لتقولوا هكذا فليذهب المتنطعون الى الجحيم … انّنا نفهمهم وبكلّ تاكيد ونحتفظ ـ مازلنا ـ بأدقّ تفاصيل ذبحة ذلك المطرود منذ عشرين شهرا عبدالكريم قطاطة … انّها 8 ديسمبر اخرى لن يكون فيها فتى اذاعة صفاقس الاوّل هناك ..وانّه امر يُثير فينا كثيرا من الحزن والبكاء … اتُصدّق سيّدي انّ كلّ التقارير التي تصلك عنّا كاذبة ..؟ فنحن لم نعد نُننصت اليكم منذ ماي 85 والسبب بسيط جدا جدا ..وهو انّ اذاعتكم امست بدون الكوكتيل كأيّة قلعة خاوية … ونحن اصدقاؤه ما كنّا عصابة مافيا ولا جماعة كوكايين .. بل انّنا لم نقتل قطّة ولم نحرق قمحة ولم نطالب برأس احد .. فقط نادينا ومازلنا باعادة الكوكتيل وصاحبه الى ساحة الاذاعة…

ونحن ثالثة يا حضرة المدير مازلنا على عهدنا مع صاحب الكوكتيل حبّا وارادة واملا الى ان ينام القمر .. هكذا ذاكرة الناس الطيبين في هذا الوطن العزيز وهذا الجنوب الطيّب لا تنقطع بتلك السهولة المزعومة وتعوّدت ان تخبّئ الحب لمن حفر ويحفر فيها بالمثل فهل تُجبر الكسر وتضع امرا ؟؟… لقد كان لك ومازال كلّ الوقت لتطرح وتجمع وتضرب وتقسم وتكسر وترتّب الاوراق وتُمعن في تجميد تلك الامبراطورية الهائلة في التنشيط، وبث الفرح في البيوت الحزينة والمدن الباردة ولكن عبدالكريم قطاطة عائد الينا غبّا وكفّه مضرّجة بالحبّ والفرح لجما ودما … ذلك حدسنا ورهاننا … لاننا تعلمنا معا انّه حيث البكاء والبكاء والبكاء نتقمّص الكلمة ونحفر المدى حتّى ينبجس الحلم غدا وتمطر السماء .. وحتى يأتي ذلك اليوم الاكيد فهو سيظلّ منّا في العمق وفي تجاويف الذاكرة امّا انتم يا سيّدي فطاب عيدكم في غيابنا… عبداللطيف حداد ـ قصر الحدادة غمراسن)

هنا لابدّ لي من توضيح امر هام … نشري لمثل هذه المقالات يأتي فقط من زاوية التوثيق ولم ولن يكون قصدي التفاخر بما كّتب حولي والله على ما اقول شهيد… ثم هو حرص منّي ايضا على العرفان بالجميل للمستمع وهو يُدلي بشهادته في كلّ ما حدث وذلك اراه واجبا تجاه هذا المستمع وتجاه ما دوّنه من اوجاع وجراح …شهر ديسمبر ايضا شهد سابقة اعلامية هامة … اثر مباراة في كرة القدم بين النادي الصفاقسي وضيفه الترجّي والتي تمّ فيها طرد اللاعب منصف الطرابلسي ثم شطبه مدى الحياة وقع ما وقع … ومن ضمن تلك الوقائع ايقاف الزميل مختار بكّور عن التعليق الرياضي للاذاعة الوطنية … نعم … اذ ارتأت في تعليقه انحيازا للنادي الصفاقسي … وهو امر يصل الى درجة الكفر والردّة في نظر المسؤولين الكبار والذي مازال مثل هذا التصرّف العمودي لحدّ الان يتمرّغ على مسامّ جلودنا رغم انّ 99 في ال 100 من الاعلام العاصمي ولحدّ الان هو مكشّخ وبامتياز …اعني وبنذالة …مع احترامي للاقلّية النزيهة والشريفة … لا علينا سآتي حتما يوما ما وفي الورقات القادمة لهذا الملّف … اذن وقع ايقاف الزميل مختار بكور عن النقل الاذاعي الرياضي رغم انه من اكثر المتعاونين هدوءا ورزانة في اذاعة صفاقس …

امام هذا الوضع ارتأيت ان اغتنم فرصة زيارة وزير الاعلام انذاك السيد عبد الرزاق الكافي لاذاعة صفاقس التي ستحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين، كي انظّم مباراة في كرة القدم بين اعلاميي الجهة وزملائهم من العاصمة… والحرص بعدها على اللقاء بالوزير ومطالبته فضلا لا امرا بارجاع الزميل مختار بكور لسالف نشاطه… تحادثت في الامر مع السيد عبدالعزيز بن عبدالله رئيس النادي الصفاقسي انذاك وعبّر لي عن مساندته المطلقة ماديا وادبيا لحدّ التكفّل بمصاريف اقامة ضيوفنا الزملاء من تونس… وكان الامر كذلك… مباراة ودية بالملعب الفرعي للطيب المهيري… سهرة رائقة شائقة بكلّ المفاهيم …لحدّ الثمالة وبكلّ المفاهيم لاحفاد ابي نواس… ثمّ لقاء مع الوزير واستجابة لرجاء الجميع واعادة مختار بكور الى سالف نشاطه…

اعود بكم الان الى خاتمة الورقة 77 والتي همس لي انذاك وزير الاعلام وهو يسلّمني الكأس … (انت هو سي فلان ؟؟ طلّ عليّ في مكتبي بالوزارة يوم الاثنين المقبل) … عندما ختم كلامه نظرت مليّا في عينيه بعد ان قلت له: حاضر … فقرأت فيهما وداعة ولطفا … ثمّ كان لزاما عليّ ان البّي الدعوة مهما كان الامر …بوزيد مكسي بوزيد عريان …ما الذي سيحصل اكثر ممّا حصل ؟؟… ربّما هي (صحّة راس) … غرور … تنطّع … _ قولوا ما شئتم …فأنا كنت ومازلت هكذا …ثوابتي لن يمسّها احد وقناعاتي ومهما خلقت لي من مشاكل وخصوما لن اتزحزح عنها …والروح ما يهزّها كان اللي خلقها …

يوم الاثنين كنت بمكتب الوزير … استقبلني ببشاشة وابتسامة عرفت مغزاها خاصة بعد انا قال: (مرحبا بيك سي عبدالكريم …تي العريضة متاع 20 الف امضاء امضاء اطول منّك) … ابتسمت بدوري ولم اردّ عليه …ولج للحوار بشكل فوري وسألني: (اشنوة اللي بينك وبين سي محمد عبدالكافي؟؟)… لم اتردّد لحظة واحدة في القول: (سي محمد عبدالكافي عرفي امس واليوم وغدا، والذي وقع سوء تفاهم بيننا استغله اصحاب النفوس المريضة) .. لم يكن موقفي مبنيا على الخوف او هزان القفة لعرفي، ولكن كنت مدركا اوّلا بل متيقّنا بمعرفة والمام الوزير بتفاصيل ما حدث… وثانيا ما كنت ولن اكون من تلك الشريحة التي تغتنم مثل هذه الفرص لتطعن في الظهر الخصوم … لو كان السيد محمد عبد الكافي رحمه الله حاضرا لقلت كلّ ما لديّ في صدري …. امّا اغتنام فرصة غي والتشهير به فذلك الجبن والنذالة بعينها…

نظر اليّ مرّة اخرى السيد عبدالرزاق الكافي بنفس الابتسامة الوديعة … وحمل سمّاعة الهاتف وطفق في تركيب رقم … وماهي الا لحظات حتى سمعته يقول: (عالسلامة سي المنصف بحذايا سي عبدالكريم قطاطة وحكيت معاه ونحبو يرجع لبرنامجو في اقرب فرصة) … فهمت انّ “سي المنصف” هو السيد منصف بن محمود رئيس الاذاعة والتلفزة انذاك … نظر اليّ السيّد الوزير وقال: (انتهى الاشكال سي عبدالكريم؟)… اجبته: (شكرا سيّدي الوزير على الثقة، ولكن لي رجاء لو تسمح) .. (تفضّل سي عبدالكريم) …وانتم لو تسمحون انتظروا معي الرجاء في الورقة القادمة … يخخي موش يقولوا ذوّق وشوّق ..؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كتب المقال قبل وفاة الزميل الكرماوي رحمه الله

أكمل القراءة

جور نار

ماذا ينتظر التونسيون خلال العهدة الجديدة من رئاسة قيس سعيد؟ (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ذكرنا في الحلقة الماضية بجريدة جلنار الجزء الأول من انتظارات الشعب خلال طرح تحليلي مختصر يشير خاصة إلى أن الانتخابات الرئاسية التي تمت يوم 6 اكتوبر تعد اول انتخابات نزيهة وشفافة لم تشبها عمليات تدليس مثلما وقع في مرحلة بورقيبة، او تهافتا ومباريات بين الولاة للترفيع في نسب التصويت زمن بن على…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

كما كانت هذه الانتخابات نقية من المال الفاسد والتدخلات الداعمة الخارجية (القطرية و التركية) عبر الجمعيات الاخوانية المشبوهة التي توزع حقق الطماطم وارطال المكرونة و الأوراق النقدية لاستغلال أصوات البؤساء وضعاف الارادة من المواطنين، وكذلك تكفير من لا يصوت للنهضة من خلال المساجد وابواقها والتهديد بالسحل وغير ذلك من صفحة تلك الفترة الظلامية المظلمة…

الانتخابات التي شهدتها تونس هذه المرة أعطت الصورة الحقيقية لما يستوجب ان تكون عليه الانتخابات بالعالم الثالث والبلدان العربية جمعاء… كما عبر خلالها الشعب التونسي على رغبته الجامحة والحاسمة لكنس منظومة فاشلة وخطيرة لوثت وطنا جميلا… عبّر الشعب عن ثقته بقيس سعيد متمنيا و معتقدا انه الكفيل بتحسين أوضاع البلاد التي دمرتها عشرية ما بعد 2011.

لقد تناولنا باختصار عددا من انتظارات وتطلعات الشعب خلال السنوات القادمة وذكرنا اهم القطاعات ذات الاولوية مثل الفلاحة و الصحة و التعليم وعلى المستوى الاجتماعي تطرقنا إلى التشغيل و القدرة الشرائية للأسر التونسية والغلاء الفاحش للأسعار كما عرجنا على قطاع الخدمات و عصرنة الإدارة التونسية وفرض قدسية العمل وتنقية القطاعات من كل مخلفات الارتخاء والفساد (انظر عدد جلنار ليوم 8 أكتوبر 2024)…

في هذا الجزء الثاني نبدأ بضرورة تأهيل العمل الدبلوماسي والقنصلي بالخارج و الرفع من الدور المناط بمهامه الكلاسيكية وحسن اختيار التمثيليات حسب الأهداف السياسية والامنية وخاصة الاقتصادية، ودعوة القناصل إلى تحسين العناية بمواطنينا بالخارج ونبذ روح الارتخاء و عقلية اللامبالاة التي تطغى من حين لآخر.. كما على السفراء تأكيد لهتمامهم خارج الوطن بالمعطيات الأمنية نعم ولكن الاقتصادية أيضا، عن طريق رسم منهجية لجلب الاستثمارات لتونس و متابعة التطورات التي من شانها دعم تصديرنا وتنمية مدخراتنا من العملة الصعبة… كذلك حث مواطنينا بالخارج على المشاركة في عمليات ومشاريع التنمية.

بخصوص المتطلبات الأمنية.يبدو أنه من البديهي دعم مؤسسة الأمن ومواكبة كل التحولات الفنية وتحديث التجهيزات ومزيد ضمان اكثر رفاهة لاطارات واعوان الأمن، و تعزيز الاجراءات التشريعية لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة…

قطاع الثقافة يعد من القطاعات المظلومة منذ حكم بن علي وسعت منظومة ما بعد الثورة إلى كنس حضور الفعل الثقافي و تقزيم الإبداع والمبدعين… ويكفي الإشارة إلى هرسلة المسرحيين و الاعتداءات على الأساتذة والقناة الوطنية… ولحدود السنوات الأخيرة فإن ميزانية وزارة الشؤون الثقافية (أقل من 1 بالمائة من ميزانية الدولة) تبعث على الاستغراب … فلا إمكانيات لدعم الإنتاج الثقافي من مسرح او سينما او فنون أخرى لتبقى القنوات تلوك مسلسلات السبعينات و الثمانينات…

كذلك هناك احساس تبعا لما ذكرنا بكبح الإبداع والإنتاج الأدبي… وكل ما تفعله وزارة الثقافة اليوم لا يتجاوز “التكرّم” بإقتناء بعض الكتب يخصم جزء من ثمنها لفائدة الضرائب … أين دعم الروايات؟ والسيناريوهات؟ والإنتاج السينمائي؟ وكيف يتم اسناد الدعم على أيدي اللجان او القبول من قبل القناة الوطنية؟؟ كلها اسئلة و مسائل تنتظر مزيدا من التنظيم او الدعم او المراجعة او عدالة الاختيار.

لعل قطاع الطاقة يحتل مكانة أثيرة في أولويات تونس ويفرض تدخلا عاجلا ضمن مخطط واضح المعالم… إذ نحن نستمر في تجاهل الطاقة الشمسية التي حبى بها الله بلادنا والتي يمكن أن تكون أكبر رافد للتشغيل و تصدير الطاقة عوض الترفيع المستمر في اسعار استهلاك الكهرباء و استيراد التجهيزات او المنصات…

كذلك وإثر تحرر قطاع الفوسفات من عبث و تجميد عانى منهما طيلة اكثر من عشر سنوات، يتطلب اليوم هذا المجال مزيدا من الرفع في طاقة إنتاجه و اقتناص مزيد من الأسواق العالمية وتنويعها ..

نمر إلى قطاع السياحة الذي بقي لسنوات طويلة يعزف على وتر واحد، موسيقي كلاسيكية وجب تجاوزها… ذلك أنه اصبح اليوم من الضروري المرور إلى تنويع الوجهات والمواد السياحية. لتشمل الشمال الغربي ومزيد دعم السياحة الثقافية، كالآثار التاريخية المتعددة بجهات جندوبة و القصرين، وقفصة (الحضارة القفصية) ويعين بريمبة بقرية المنصورة قبلي و كذلك توريس… كلها في مجملها وخصوصياتها تمثل ركائز لتنويع المنتج السياحي.

وفي حقيقة الأمر لا يمكننا تناول كل الملفات الوطنية الهامة التي تتطلب الدعم خلال السنوات القادمة مثل القطاع الصناعي والبيئة والعدالة الجبائية والخدمات البلدية ومراقبة انجاز المشاريع المعطلة اصلا منذ العشرية، وكذلك أهمية دعم قطاع العدلية لتسريع التقاضي وتحسين ظروف عمل الفاعلين في المرفق القضائي.

لن انهي هذا الطرح دون أن أشير إلى ضرورة ترسيخ اكثر ما يمكن من مكتسبات الثورة عبر ضمان ديمقراطية حقيقية لكل التونسيين دون استثناء، بالتوازي مع التزام الجميع بمصلحة الوطن ووضوح الرؤيا السياسية ومزيد دعم الحريات الفردية و العامة وحرية الرأي و الصحافة دون أي احتراز ..

الوطن للجميع لكن جميعنا مطالب أيضا بوضع أولوياتها و مصالح شعبها قبل كل الأولويات الأخرى فردية او حزبية، فتونس تستحق دوما الأحسن.

أكمل القراءة

صن نار