تابعنا على

جور نار

الباسم فرحا… الباسم وجعا … الباسم دواما

نشرت

في

<em>مولدي الهمامي مع ابنة بلده الفيحاء زهيرة رحمهما الله<em>

كان القلب واجفا، ولكن كانت الحواس متوقعة مستسلمة، حين هاتفني الصديق مصطفى الشارني في الصباح الباكر على غير العادة … ومباشرة سألته عن جديد مولدي الهمامي، فكان جوابه: لقد توفي منذ قليل …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
<strong>عبد القادر المقري<strong>

ورغم توقع هذا النبإ المحزن، فقد اعتراني ما يشبه عدم التصديق … وغالبا ما يحدث لنا هذا مع الموت، خاصة إذا طال واحدا أو واحدة ممن يشغلون حيزا مهما في حياتنا… وصديقي مولدي الهمامي أخذ مكانه في وجداننا جميعا، منذ كم من وقت؟ … غيري ربما عرفه من زمن الطفولة، أما أنا فلقائي به يعود “فقط” إلى 47 سنة، أي مذ كنا في طفولتنا الثانية، طفولة الجامعة ومعهدنا القديم بمونفلوري زنقة البشروش … كان هو ومصطفى الشارني يمثلان ثنائيا كوميديا من الدرجة العليا … أحدهما (مصطفى) كان يكتب مقالات هزلية صمّاء في جريدة موروثة عن زمن تحت السور اسمها “القنفود” … فيما كان مولدي يرافقه برسوم الكاريكاتور … وكانت للحق موفقة موهوبة هازلة، في زمن علي عبيد وبالخامسة نعم، ولكن قبل كثيرين ممن صاروا أعلام هذا الفن بعد ذلك …

وتمضي عقارب الساعة وخطى الأيام والأعوام و”ينحرف” الثنائي الفكه نحو آفاق أكثر صلابة … الهمامي انتهج طريق الإذاعة والتلفزة التي بالتدريج أصبح من كبار مدرائها … أما مصطفى فقد استغرقته هموم إدارية ونقابية شتى (مثل حالي تقريبا) وابتعد نهائيا عن صناعة الهزل، ولعله أوكل ذلك وأورثه إلى ابنه (الفنان جهاد الشارني) الكوميديان الشاب الناجح في السنين الأخيرة … وقد بقيت على صلة شبه دائمة بمصطفى طوال هذا النصف قرن، فيما قلّت مناسباتي مع مولدي واقتصرت أحيانا على مكالمة من هنا ومعايدة من هناك، ولكنه لبث دائما حاضرا في مجال ذاكرتي، وأعتقد أني كنت حاضرا لديه أيضا …

وتأتي سنة 2014 … كنت خارجا من تجربة إذاعية مُرّة في محطة خاصة مع منشطة جحود، مقررا أن مكاني النهائي في الصحافة المكتوبة ولا مجال مستقبلا للجلوس وراء ميكروفون … حين طلبتني الصديقة كلثوم السعيدي ذات عصر وأنا في خرجة عائلية بضاحية قرطاج … كانت كلثوم بصوتها الماسي ولغتها المباشرة الجذابة على الطرف الثاني من الخط تقول لي باختصار: “محتاجة إليك يا فلان، ولو كنت صديقي فعلا فتعال حالا، أنا بمكتبي مع نخبة منكم، وقد أودعت اسمك في لوج الإذاعة” …

أمر الحسناوات لا يُردّ … خصوصا إذا كنّ في جدية كلثوم وحرفيتها العالية، وضمّت زوجتي رجاءها إلى رجاء كلثوم وكانت من المعحبات بها … وهكذا قطعنا خرجتنا وحوّلنا وجهة عائلة بكاملها ـ زوجتي وليال وأنا ـ من قرطاج بيرسا إلى شارع الحرية، وصعدت إلى مكتب أختنا السعيدي في ركن بلوري من الإذاعة الدولية … كانت الحجرة الصغيرة تضيق بأفراد من النخبة حقا … علي سعيدان الشاعر والفنان، شكري الباصومي الشاعر والصحفي، مولدي الهمامي بتاريخه الإذاعي ووجهه البشوش وضحكته التي تملأ المكان، وكلثوم طبعا بوجهها الطليق ولباسها شيه العسكري الذي تعلوه قبعة كوماندوس …

بعد النقديم قالت كلثوم إنها كانت في فترة تجميد بثلاثة أعوام من “بركات” ثورة 14، وإنهم أخيرا فتحوا أمامها الضوء الأخضر … وهي تريد أن تكون عودتها غير عادية … “تولك شو” فيه أسماء هي تراها رنانة وذات شأن، تحيط بها إحاطة المجموعة الشمسية بقرص الشمس … ووافقناها دون كبير تردد … أما أنا ورغم قراري الجازم أعلاه، فما أن رأيت هؤلاء وسمعت من هؤلاء، حتى نسيت حقدي كله في لحظة … على العمل الإذاعي طبعا … ورحنا في الإعداد لما يمكن أن يكون عليه مشروعنا، مشروع إعادة نجمة مظلومة، إلى دائرة الضوء التي أقصيت منها ظلما …

وانطلقنا بعد أسيوع أو اثنين … كانت البداية حافلة بنا الخمسة … وبعد مدة انسحب اثنان وأضيف واحد مكانهما … واستمررنا 22 شهرا بالصيف والشتاء، برمضان والإفطار، بموعد شبه يومي، بمواضيع لا حصر لها … وغاب أناس وحضر أناس، ولكن أكثر من حضر وقبل الأوقات وبعدها، بقيت أنا والمولدي الذي كنت أقضي ساعات الإعداد والانتظار بمكتبه نتحدث في كل شيء تقريبا … أخبرته عما فاته من سيرتي منذ تخرّجنا ووجدته متابعا وفيا لما كتبت، وعرفت منه ما فاتني من أحواله وتطوراته في تلك العهود والعقود … منذ دخوله متدربا في بداية الثمانينات، إلى مروره بمرحلة رئيس جمهوريتنا الأول ورئيسنا الثاني، إلى هجرته في ألمانيا الغربية، إلى تحمله المسؤوليات من أدنى درجة إلى أرفعها، وصولا إلى الثورة وتنكيلاتها وقد عانى منها هو أيضا …

ورغم ما زخرت به هذه الفترات من أفراح وأتراح، فقد كانت للمولدي طريقته الخاصة في التعليق والتعبير … كان يسخر من كل شيء ويجد زاوية تنكيت في أية حادثة … ويروى لي كمّا من النوادر التي تخللت وجوده في أهم مصادر الخبر، في غرفة الأخبار، في مكاتب المديرين، في دواوين الوزراء، في منائي السفراء، في محافل العرب والعالم، في القصر الرئاسي حيث كان مثلا شاهدا على مقابلة الزعيم بورقيبة العاصفة مع سفير أمريكا غداة عدوان حمام الشاطئ 1985 … مع طائفة من الطرائف حول جميع هؤلاء الساسة، وحول أكبر نجوم الإذاعة والتلفزة الذين لحق بمعايشتهم، وحول كواكب الفن زمن كانوا يملؤون ردهات الإذاعة ومقهاها وشوارعها الجانبية وكامل حي “لافاييت” مرحا وصخبا ومناوشات ومواقف …

حصصنا الإذاعية المشتركة كانت بمثابة العيد بما تحمله الكلمة من معان تونسية … فيها الأصوات المتقاطعة التي لا تخلو منها لمّة من لمّات بلدنا، فيها الإفادات كل بما جاد علمه أو تخيل ذلك، وفيها المراوحة بين الجد والهزل، وفيها الهراش بين من يكتسي رداء المسؤولية (هو) وبين من يرفض المنظومة برمّتها (العبد لله) … ويتطوّر ذلك في “الأوف” فأتهمه بأنه من أبواق السلطة، فيردّ عليّ بأنني يساري متخلّف … وفجأة يعلو من القاعة الفنية نغم إيقاعي مما يختاره لنا مخرج البرنامج، فيترك المولدي كل شيء وينغمس في رقصة شعبية متخمّرة، تحت قهقهاتنا وتصفيقنا الحار …

اختلفنا طويلا واتفقنا آخرا وفي كل مرة … ولكن أبدا أن حصل بيننا جرح أو شرخ … كان دائما يجد الكلمة المناسبة لكي يقول إنك على حق في مكان ما، أو إنه قصد خيرا ويعيد صياغة رأيه، أو يبعثني أقضي إذا لم يعجبني العجب … فلا نتمالك من الانفجار ضحكا … كان هكذا مع كل الذين تعامل معهم أيضا … رؤساء ومرؤوسين … ولطالما وجدت في مكتبه أو أثناء تجوالنا بين المعابر والطوابق، وجوها وقامات من تلك الدار تثني عليه وتعانقه معانقة الخلان رغم ابتعاده عن كل منصب تلك المدة حتى تقاعده … أجواء المرح والصراحة والعمل الكثيف هي نفسها وهم يشهدون ويمتنّون … أسس في الإذاعة وأنجز وكانت لفترات حكمه إضافات ووقفات مجد كم حدثوني عنها، وكم رأيت منها … حاول إعادة وهج الأغنية الإذاعية وجهّز استوديو من أحدث ما يكون وقد زرته منبهرا … ولكننا نعرف أن الخلف لا يبقي شيئا كثيرا مما يبنيه السلف …

كان ذانك العامان (2014 ـ 2016) من أخصب المدد التي عشتها بمرافقة العشير الذي غاب عني سابقا وحضر بقوة أيامها وفي ما بعد إلى حد البارحة … طاف بي في مجاهل مبنى الإذاعة السحيق، الخاوي في معظمه والعابق بألف تاريخ، من الباب المهيب الذي يفتح مرة ويغلق مرات على شارع الحرية وحلاق المذيعين الراحل، إلى البهو الملكي وتلك اللوحة الخزفية من روائع زبير التركي، إلى البيانو العتيق الذي ما زال صامدا ويجلس إليه صاحبنا و ينقر عليه نقرات عازف هاو، إلى الطوابق العليا ومكاتب مجلة الإذاعة المهجورة حيث استذكرت أيامي الشابة مع صالح جغام رئيسا للتحرير وأسطورة حظيتُ بصحبتها … هنا كان مكتب صالح … هنا كان بوراوي بن عبد العزيز … هنا كان فريد بالقايد، هنا كان المصور إلياس والكاتبتان الرقيقتان سميرة ومامية … كنت أتنهد مع ركامات الأنقاض والعلب الملقاة أرضا وبقايا أوراق قد يكون لي منها شيء … وكان يسخر كعادته ويجد في هذا الخراب ما يسلّي وما يستدعي لمحة جذلى وخاطرة ظريفة …

ورغم انتهاء المكتوب بشكل درامي مع برنامج كلثوم الناجح، فقد بقيت الصلة مع مولدي مستمرة ويومية تقريبا، بالحضور أحيانا، وبالتلفونات المطولة في غالب الوقت … وحين جاءت ولادة “جلنار” كان المولدي من أول المؤسسين والمحررين … وانتظمت كتابته الخبيرة شهورا وأمتعت قراءنا بصفحات من عمر الإذاعة وعمر صديقنا الطريف وألأستاذ في آن … كنت أتعلم منه ومن تجاربه الطامية، وكان رغم فذلكته الأبدية حصيفا ناصحا موزون المواقف عارفا بقدره محترَما ومحترِما … وكانت مكالماتنا غذاء روح لي، رغم أن آخر السنوات حملت لرفيقي عذابات لا أدري كيف احتملها … من وفاة والدته وأخيه أيام كوفيد، إلى أوجاع هذا المرض الذي تعب أولا في تشخيصه الصعب، ثم في اكتشافه وعلاجه، ثم في نُذر النهاية التي يبدو أنه استشعرها ولم نشعر …

لروحك ألف صلاة وألف زكاة وألف قبلة طاهرة … وها أني أقول لك أخيرا ما لم أقله في حياتك، ولو قلته لضحكت مني وشتمتني كما أعرفك … الله كم أحببتك أيها الصافي الذي لا يعكّر مراياه حدث مهما جلّ … ولكنك دون أن تدري كسرت بعضا من فؤاد لا أظنه سينجبر قريبا …

رحمك الله عشيري …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 97

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

من ضمن ما تعلمته في دراستي بالمعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس، قاعدة اعتبرتها ذهبية في الانتاج السمعي البصري الا وهي نجاح اي برنامج يعتمد اساسا وبدرجة 80 بالـ 100 على الاعداد الجيّد… نعم والاعتناء بتفاصيل التفاصيل… وهذا ما حرصت عليه منذ وجدت نفسي امام المصدح فما بالكم ببرنامج يمتدّ على مساحة زمنية بـ24 ساعة دون توقف…

عبد الكريم قطاطة

اذن وجب الاعداد الجيّد شكلا ومحتوى لهذا البرنامج… لذلك حرصت قبل تنفيذ البرنامج على تكوين فرق للاعداد معي لهذا الغرض: فريق خصصته لآراء المستمعين بمدينة صفاقس وضواحيها حول مسيرة اذاعة صفاقس ومدى تجاوب المتلقّي معها طيلة 35 سنة… فريق آخر كلّفته بآراء المستمعين الشباب الذين لم يواكبوا الاذاعة الا في سنواتها العشر الاخيرة وخاصة نقاط ضعف الاذاعة التي علينا تلافيها ونقاط قوتها التي وجب تعزيزها… وكلا العملين كان ضمن ريبورتاجات … فريقان اثنان يواكبان السهرة مباشرة مع مستمعينا خارج ولاية صفاقس بداية من الساعة العاشرة صباحا ليوم 7 ديسمبر، حيث ينطلق الفريق الاول في رحلة ماراثونية من بنزرت حتى صفاقس طيلة البرنامج، ليلتقي بعديد المستمعين في منازلهم وفي مدن مختلفة وليفسح لهم المجال للتعبير عن آرائهم سلبا او ايجابا حول ما تقدمه اذاعة صفاقس من برامج…

وفريق ثان يقوم بنفس المهمة انطلاقا من بن قردان الى صفاقس… على ان يكون وصول أفراده الى صفاقس وبالتحديد الى مقرّ الاذاعة يوم 8 ديسمبر على الساعة الثامنة صباحا… حيث يكون اللقاء مع هذين الفريقين مباشرة من الاستوديو للتعبير عن رحلتهما كيف كانتا، وعن انطباعاتهما حول كلّ ما عاشاه في تلك الرحلة… لم انس كذلك مستمعينا عبر الهاتف حيث خصصت طيلة السهرة نصيبا من الوقت لمداخلاتهم… ودعوت صديقي وزميلي عبدالجليل بن عبد الله لمشاركتي في التنشيط الذي حرصنا فيه معا على اضفاء روح الدعابة فيه… وتداول على الكونسولات العديد من التقنيين الذين هبوا وبكل طواعية لياخذ كل واحد منهم نصيبه من الحدث… وقبل 24 ساعة من انطلاق البرنامج كان دليل البرنامج مُعدّا بكل تفاصيل البرنامج وبتوقيت المداخلات وبكلّ اغانيه…

ودليل البرنامج عندي من الاشياء المقدسة رغم انّ ظاهره عمل عسكريّ قاس لانّه مفصّل بالدقائق والثواني وهو ما يعتبره البعض عملا شاقا ثم هو لا يفسح المجال للارتجال… وحجة هؤلاء في مفصل الارتجال انهم يعتبرونه هامشا هاما من الحرية لا استغناء عنه… بينما ارى الارتجال في تقديري هروبا من مسؤولية تنظيم العمل بدقّة اي هو تعلّة كاذبة… لانّ العمل المنظم لا يتعارض مع الارتجال ان لزم الامر… امّا ان يدخل المنتج الى الاستوديو دون اعداد جيد تاركا الحبل على الغارب للفنّي الذي يتولّى اختيار وتمرير الاغاني التي تروق له، فذلك عندي (تخلويض وكسل)… اذ كيف لمنتج ومنشط لا يقوم هو باختيار اغانيه التي تتلاءم والمواضيع المقترحة في برنامجه ؟؟ وفي رواية اخرى نعم للحرية والارتجال اذا كان ذلك يخدم مصلحة المنتوج ولا للعبث والتهاون..

عندما قدمت دليل البرنامج للسيد عبدالقادر عقير للاطلاع عليه وامضائه.. اندهش من دقة التفاصيل وللامانة امضى عليه دون ايّ اطلاع… واضاف مرّة اخرى: (يخخي انا نعرف خير منك؟)… اخذت دليل البرنامج بعد ان امضاه واغتنمت الفرصة لتذكيره بالجائزة… تلفزة من الحجم الصغير… طمأنني بالقول (صاحبك راجل)… اتفقنا وتمنى لي النجاح والتوفيق… ارتأيت ان تكون الجائزة لافضل مداخلة في البرنامج سواء كان ذلك من الريبورتاجات المسجلة او من مستمعينا في مداخلاتهم من خطّي بنزرت وبن قردان او من مستمعينا عبر الخطوط الهاتفية واعلنت عن ذلك منذ بداية البرنامج …

وانطلق قطار البرنامج كما هو محدّد له يوم 7 ديسمبر 1996 على الساعة التاسعة صباحا لينتهي يوم 8 ديسمبر 1996 على الساعة التاسعة صباحا… واقسم بالله انّ دليل البرنامج وقع تنفيذه بنسبة 99 في الـ100 دون ايّ خطأ او خلل .. اذن لماذا 99 في الـ 100 ؟ اين ذهب الواحد في الـ100 ؟؟ على الساعة الخامسة صباحا من يوم 8 ديسمبر فوجئنا جميعا بالسيّد عبدالقادر عقير يحلّ بيننا بالاستوديو… كان في قمّة السعادة والفرح… هنّأني وهنّأ الجميع بنجاح التجربة وطلب منّي دون ازعاج ان يقول كلمة ليعبّر فيها عن شكره وامتنانه لفريق البرنامج على نجاح المهمّة… لبّيت طلبه ولمدّة لم تتجاوز الثلاث دقائق اردفت كلمته باغنية من الاغاني الاحتياطية التي ابرمجها في كل انتاج اقدّمه لمثل هذه المفاجآت…

عنصران اخيران اختم بهما هذه الورقة الخاصة بالحدث… عيد ميلاد اذاعة صفاقس الخامس والثلاثين: العنصر الاوّل مآل جائزة البرنامج … للامانة كنت مركّزا جدّا على تدخلات المستمعين في الريبورتاجات المسجّلة وفي خطّي بنزرت وبن قردان مع اهالينا هنالك وفي المكالمات الهاتفية… وللامانة ايضا، عديد المداخلات كانت متميّزة جدا من هنا وهناك…و كان عليّ ان اجتهد وان اكون عادلا في اختياري للفائز… ثمّ هلّت مكالمة هاتفية وبالتحديد من مساكن ومن مستمعة اذاعة صفاقس السيّدة فاطمة بيّة والتي يعرفها الجميع باسم امّ غسّان… وهل يُعقل ان لا تكون (فطّوم) كما يحلو لي تسميتها غير حاضرة في مثل هذه المواعيد ؟؟ فطّوم هي بنت اذاعة صفاقس بل هي صنيعة اذاعة صفاقس…

فطوم وهذا يعرفه جلّ الناس نشأت من رحم اذاعة صفاقس… القدر جعل من اذاعة صفاقس لها المدرسة التي لم تدخل قبلها ايّة مدرسة… نعم وبإرادتها وعزمها نحتت الصخر… صخر الجهل والظلام… وخرجت الى نور العلم وهي تخطّ اوّل حروف الابجديّة لتكتب اوّل رسالة في حياتها الى (سِيدها) كما يحلو لها ان تسميني دائما… وكان لزاما عليّ وهو من واجباتي مهنيا وانسانيا ان آخذ بيدها وان اعينها على كسر حواجز كهف الجهل… وبفضل ارادتها وعزيمتها وبشيء قليل من تشجيعي تعلّمَت وشقّت طريقها لمزيد المعرفة والنور… واقسم لكم باصدق الايمان انّ فطوم حاليا تكتب شكلا ومحتوى افضل من الكثيرين الذين يحملون شهائد عليا وهي التي لم تدخل المدرسة يوما… هنيئا لي ولنا جميعا بك…

ليلتها تدخلت فطوم كعادتها عبر الهاتف لتدلي بدلوها في البرنامج الحدث وفي مدرستها اذاعة صفاقس… ولولا حرصي الشديد على تمكين كلّ المستمعين من نفس الحجم الزمني في مداخلاتهم لما توقفت شهرزاد الفطومية عن الكلام المباح حتى الصباح… في نهاية المكالمة دغدغني صوت وليدها انذاك مهران… وما اجمل دغدغة صوت الاطفال… في تلك اللحظة قفز لذهني من هو صاحب افضل تدخل ولمن ستؤول الجائزة… ستكون لمهران ولا لغيره لاني اعتبرت تدخله افضل تدخل من حيث الصدق والبراءة… هكذا اجتهدت… هكذا قررت… وهكذا اعلنت عن حصول مهران على الجائزة في نهاية البرنامج… وهكذا تسلمت فطوم وزوجها ومهران الجائزة في احتفال خاص بالحدث جانفي 1997 …

خاتمة البرنامج كان ايضا مسرحا للقرار… نعم قرار فاجأ الجميع… لم اعلنه لاحد قبل يوم 8 ديسمبر 1996 … لا احد على الاطلاق … حتى عائلتي التي كانت حاضرة بالفضاء الخاص بالتقني صباح 8 ديسمبر فوجئت به… قلت امام المصدح وللجميع: (هذا اخر عيد ميلاد اقدم فيه برنامجا خاصا بالحدث)… وتحول الفرح بالنسبة للبعض إلى دموع … فوجئوا جدا بقراري… فكيف لمنشط مثلي في (طمبك) نجاحه ونجاح الحصص الخاصة باعياد ميلاد اذاعة صفاقس التي قدمتها، أن يعلن الانسحاب ؟؟ خاصة وهم يدركون جيّدا انّي عنيد في قراراتي وندُر جدا ان تراجعت فيها.. وها انا اجيب عن (لماذا كان ذلك القرار)…

انا وبعد انتاج هذا البرنامج الحدث محليا ووطنيا وعربيا وعالميا اكون حلّقت في اعلى درجات السُلّم انتاجا… اذن على الانسان ان يعرف موعد مغادرة السُلّم… ثمّ ما ذنب ذلك الكمّ الهائل من الشباب الذي ينتظر فرصته ليتسلّم المشعل؟… اليس من واجبي ان اتنحّى لاتيح الفرصة لهم ؟؟… وتاكدت من واقعيّة قراري خاصة بعد ان دُعيت للعودة للمصدح بعد جانفي 2011 … نعم دُعيت للعودة ولم اجر وراءها… وساعود لذلك الزمن الارعن في ورقات قادمة… عندما لبيت دعوة الواجب وعدت لمصدح اذاعة صفاقس قال بعضهم (تي يخخي هالسيد يحب ياخذ زمانو وزمان غيرو ؟؟ تي يمشي يشدّ دارو ويشدّ سبحة خيرلو) … سامحهم الله …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 96

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

توضيح: العمر يجري .. وها انا احاول السباق مع الزمن حتى اختم هذه السلسلة والتي في تقديري ستكون قفلتها سنة 2022* … أرجو من الله ان يمدّ لي في العمر حتى اختتمها …

عبد الكريم قطاطة

الورقة 96 ستكون خاصة بما عشته وعاصرته في اذاعة صفاقس في اواخر سنة 1996 … تلك السنة عشت فيها حدثين اولهما تعيين السيد عبدالقادر عقير مديرا لاذاعة صفاقس خلفا للسيد النوري العفاس رحمهما الله… والحدث الثاني هو الاحتفال بعيد ميلاد اذاعة صفاقس الخامس والثلاثين وذلك نظرا الى خصوصيات ذلك الحدث… دعوني اوضّح فيما تعلّق وسيتعلّق بايّ زميل غادرنا، لن اسمح لنفسي بذكر بعض التفاصيل عنهم احتراما لـ(اذكروا موتاكم بخير)… لكن وللتوثيق وهي القاعدة الاساسية في الورقات هنالك احداث لابدّ من ذكرها ولو بشيء من الاقتضاب…

عندما عُين الزميل عبدالقادر عقير مديرا لاذاعة صفاقس كان الامر غير منتظر بالمرّة… اذ انّ تعيين مدير لاذاعة صفاقس غير منتسب للجهة أمر يحدث لاوّل مرّة… وفهمت بعدها انّ ماكينة عبدالوهاب عبد الله اصيل المنستير وامبراطور الاعلام انذاك بدات تشتغل… فعيّنت العديد من اصيلي اما المنستير او الساحل في عديد المراكز الاعلامية الحساسة… والزميل عبدالقادر عقير مسيرته الاعلامية كانت متواضعة جدا ..اذ هو عمل باذاعة المنستير كمنتج ومنشط لمدّة قصيرة للغاية ..وبعدها دخل سلك المعتمدين حيث اشتغل كمعتمد بقرقنة ثم بعقارب… دون ذلك وقبل ذلك اشتغل كمعلّم في المدارس الابتدائية في تونس وفي ليبيا كواحد من المتعاونين انذاك…

يوم تعيينه وبعد انتهاء المراسم الرسمية فوجئت بحاجب الادارة يبحث عنّي ليقول لي (سي عبدالقادر يحب عليك) فاستجبت لدعوته … وكلّ ما اتذكره عن سي عبدالقادر انه يوما ما كان هنالك برنامج مشترك بين اذاعتي صفاقس والمنستير كنت انا امام مصدح اذاعة صفاقس وكان هو امام مصدح اذاعة المنستير… وقبل بداية البرنامج بنصف ساعة هاتفني ليقول لي انّ تجربته متواضعة في التنشيط ورجاني ان امدّ له اليد ووعدته بذلك… وتعدّى البرنامج لاباس… دون ذلك لم يكن لديّ عنه ايّة فكرة لا سلبا ولا ايجابا … وتلبية لدعوته وجدتني بمكتبه كمدير .. كان استقباله لي على غاية من الحرارة والصدق… هنأته بمنصبه وتمنيت له النجاح … ودون مقدمات قال لي: (انا لا اعرف ايّ احد في اذاعة صفاقس باستثنائك… اريدك ان تقف معي فهل اعوّل عليك ؟)… اجبته دون تردّد وبكلّ شفافية وصدق: (يشرّفني ذلك متى عملت من اجل مصلحة اذاعة صفاقس… ولكن سأكون اوّل من يقف ضدّك ان عملت من اجل مصلحتك وعلى حساب مصلحة اذاعتي)… واضفت (هذا هو انا ولك الاختيار)… فاجاب دون تردّد او حتى لحظة تفكير: (وانا اخترتك انت بالذات لاني عرفتك من خلال مسيرتك وكلّي ثقة في آرائك ومواقفك ولن تجد منّي الّا ما يرضيك ويرضي المجموعة…

ولم تدم جلستنا طويلا حيث دعاني للخروج معه في نزهة على سيارته وليته ما فعل… مدير جديد يهزّ عبدالكريم معاه في كرهبتو نصف ساعة بعد مراسم التعيين ؟؟؟ والف لسان يتساءل: (تي من اوّل نهار عبدالكريم كلالو عقلو ؟؟)… وهذا كالعادة لا يعجب الملأ … ساعود في ورقات قادمة لما فعله هذا الملأ والذي انتصر في معارك عديدة ولكنه خسر الحرب… هذا الملأ حوّل علاقتي بالزميل عبدالقادر عقير من علاقة ودّ وانسجام لما فيه خير للدار واهل الدار (والله شاهد على ما اقول)… الى علاقة حرب بدأت خفية واصبحت مع مرور الوقت معلنة بيني وبينه وانتهت باقالته من منصبه وبتعويضه بالسيد رمضان العليمي… وستأتي اهم التفاصيل كما اسلفت في ورقة قادمة. ..

الحدث الثاني الذي عشته سنة 96 كان عيد ميلاد اذاعة صفاقس الخامس والثلاثين… مما عودت عليه المستمع اني طيلة السنوات التي انتجت فيها حصصا خاصة بعيد ميلاد اذاعتي كنت دائما ابحث عن بصمة خاصة لكلّ عيد ميلاد… وعندما بدات في التفكير في عيد الميلاد الخامس والثلاثين ومنذ بداية شهر سبتمبر 96 كان هاجسي ان يكون البرنامج مختلفا تماما شكلا ومضمونا عن كلّ ما سبق محليا ووطنيا وعربيا ولم لا عالميا… ولم تطل مدّة التفكير والبحث طويلا… نعم قلت في نفسي لم لا يكون البرنامج على امتداد 24 ساعة تنشيطا دون انقطاع… وامتلأت بهذه الفكرة صدقا بكثير من النرجسية ايضا ..اذ انّي سانجز ما لم يقع انجازه على الاطلاق ..شكلا وحجما … ثمّ اعتكفت لمدة اسبوع ابحث عن محتوى لهذا البرنامج اذ لا يكفي ان يكون الشكل مبهرا فذلك يذهب مع او نسمة رياح… المحتوى يجب ان يكون مقنعا ومدروسا بعناية وبفريق كامل يؤمن معك بالمشروع… واخترت مكوّنات هذا الفريق وكنت واضحا مع الجميع ..من يقبل بالمشاركة عليه ان يقبل بالعمل تطوّعا كاهداء لاذاعتنا في عيد ميلادها الخامس والثلاثين… وللامانة قبل الجميع بالفكرة وبكلّ سعادة…

وبدات اعقد اجتماعات دورية مع الفريق بعضها في صفاقس واخرى في تونس مع البعض الذي كان يزاول دراسته الجامعية هنالك… ومع نهاية شهر اكتوبر اصبح كل شيء جاهزا وحتى دليل البرنامج جاهزا بالدقيقة والثانية… وانا المعروف عني اني لا اترك للحظ او للصدفة او لايّ عائق ان يقف ضدّ اعدادي لتفاصيل التفاصيل… وعندما عرضت المشروع جاهزا للسيد عبدالقادر عقير كان في قمة السعادة والرضاء ..كيف لا واذاعة صفاقس وفي عهد ولايته عليها ستحقق رقما قياسيا عالميا ..وكيف لا والمشروع لن يكلّف حزينة الاذاعة ايّ مليم باعتبار تطوّع كامل الفريق… وعندها اغتنمت الفرصة لاقترح عليه ان تخصص اذاعة صفاقس جائزة في حجم الحدث… ودون ايّ تردد اجابني: (الغالي طلب على الرخيص؟)… قلت له جهاز تلفزة من حجم صغير … ضحك بقهقهة سي عبدالقادر وقال لي: (جهاز تلفزة ضربة وحدة يا خويا عبدالكريم ؟؟) قلت له نعم ..وتأتي على قدر الكرام المكارم… مدّ يده لي بحرارة وقال: اطمان ستكون الجائزة كما اردت… وللامانة لم يطلب منّي السيّد عبدالقادر عقير ايّ شيء عن تفاصيل البرنامج بل اضاف: (عندي فيك ثقة عمياء، هو انا نعرف خير منّك ؟) حييته واجبت: لن اخذلك…

وجاء يوم 7 ديسمبر 1996 وجاءت الساعة التاسعة صباحا وانطلق قطار البرنامج الذي لم يتوقف الا على الساعة التاسعة صباحا ليوم 8 ديسمبر 1996 … يااااااااااه وعلى طريقة سعيد صالح، المسافة طوييييلة قوي … ولكنها ممتعة للغاية عشتها وعاشها الفريق بكل سعادة وجدية وعاشها معنا المستمع من بنزرت لبن قردان كذلك بكثير من الذكريات… اذن دعوني استرح لاعود اليكم في الورقة 97 بعديد تفاصيلها اعذادا وتنفيذا…

ـ يتبع ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ونحن الآن في نهاية 2024 وما زال النيل يجري والورقات تتوالى وتتوالد… حفظك الله مبدعنا الدائم (التحرير)

أكمل القراءة

جور نار

أسعار تنخفض ومواد تعود إلى السوق… ولكن أين الإعلام؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

لماذا يتردد الإعلام الوطني في الإشارة إلى تراجع الغلاء الذي شهدته الأسواق ومنها خاصة الأسبوعية؟ بالإضافة إلى كل ذلك نلاحظ صمتا مطبقا عن بداية توفير المواد المعروضة بنسبة كبيرة (مثل الكسكسي وخاصة الفارينة والسميد وبقية أصناف العجين الغذائي) فيما مواد اخرى في طريقها إلى العودة مجددا مثل القهوة والسكر بصفة تدريجية كما ان بعض المساحات التجارية والدكاكين تعرض القهوة والسكر رغم بعض التهافت …

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

إن النقص في مادة القهوة قد شجع بارونات هذه المادة والمساحات التجارية على عرض النوعيات الباهظة الثمن فوق طاقة المواطن لتحرير بيعها في غياب عرض القهوة المعتادة المطلوبة… كما تم تسجيل انخفاض نسبي في أسعار جل الخضروات وشهدت الأسواق أيضا أسعارا معقولة في البرتقال بأنواعه والتمور بصورة اقل كما لاحظ المستهلكون عرض كميات وافرة من الموز بصنفين بين اسعار تصل إلى 7 دنانير للكيلو للصنف الكبير و 5 دنانير للصنف الاقل…

وعلى مستوى بيع زيت الزيتون يبدو أن الأسعار شهدت انخفاضا بسيطا لا يشجع المستهلك على اقتناء كميات هامة للعولة التقليدية… ذلك ان القوارير سعة لتر واحد من المعروضة بالمغازات الكبرى، حافظت على سعرها (15د) ولم تعرف اقبالا كبيرا من المستهلكين أملا في تنزيل مفترض لسعر اللتر… خاصة أن رئيس الجمهورية قد أكد اول امس على ضرورة تمكين المواطنين من اقتناء الزيت بأسعار معقولة، تتماشى مع الطاقة الشرائية… فهل سينزل السعر إلى 10 او 12 د؟ هذا ما سنراه قريبا لانه سيكون في النهاية لمصلحة الفلاح والمستهلك معا…

من ناحية أخرى هناك مؤشرات على اعتزام شركة الكهرباء والغاز إجراء تخفيض مشروط على الفواتير الاقل استهلاكا للطاقة (اقل من 300 كيلوواط في الشهر) مما يعطي سعرا إجماليا منخفضا نسبيا نهاية الشهرين لمن استهلاكهم اقل من 600 ك.و… ويعد ذلك طريقة ذكية قد تأتي بنتائج محفزة وجهود عامة للتحكم في استهلاك الكهرباء والغاز…

ونتمنى أن يقع تطبيق هذا القرار دون أية تعطيلات محلية او جهوية او مركزية باعتبار بناء على تركيز منظومة متطابقة مع هذا الهدف.

أكمل القراءة

صن نار