تابعنا على

جلـ ... منار

نُذُر وروادع الحرب على لبنان

نشرت

في

عبد الله السنّاوي:

تتناثر نذر الحرب على لبنان، كأنها مقدمات لحرب إقليمية واسعة عواقبها “مدمرة” على ما يقول الأمريكيون.

عبد الله السنّاوي

حسب الجيش الإسرائيلي فإن قواته استكملت جاهزيتها والخطط العملياتية جرى التصديق عليها بانتظار أمر الهجوم الواسع على جنوب لبنان.
في نفس المشهد المنذر تلوح روادع حقيقية تجعل من الوصول إلى نقطة الانفجار حماقة
كبرى تضرب الإقليم كله بصميم أمنه ومستقبله لسنوات طويلة مقبلة.
بين النذر والروادع كل سيناريو محتمل ووارد.
بالنظر إلى الروادع، خارج الأوضاع الإسرائيلية وحساباتها المتناقضة، لن تكون هناك حرب.
أما إذا امتد النظر إلى الداخل الإسرائيلي فإن ما هو متعقل قد يخلي المجال كاملا لما يشبه الجنون السياسي.

الوضع السياسي الإسرائيلي منقسم وهش، الجيش منهك ومأزوم، والنخبة العسكرية والأمنية تحذر من “انهيار استراتيجي” إذا لم تتوقف الحرب في ظل تآكل ما يطلقون عليه “الإنجازات في غزة”.
مع ذلك كله تنحو الحكومة، التي توصف بأنها الأكثر يمينية منذ تأسيس الدولة العبرية، إلى توسيع نطاق الحرب حتى لا يقال إنها سلمت بهزيمتها.
“إنهم مجموعة من المجانين الذين لا يصلحون لأي شىء» بتعبير زعيم المعارضة “يائير لابيد” واصفا الوزيرين المتطرفين “إيتمار بن غفير” و”بتسلئيل سموتريش” ومن معهما.

الذريعة الرئيسية للحرب على لبنان: عودة الأمن إلى شمال إسرائيل وإعادة مئات آلاف النازحين إلى مستوطناتهم، لكنهم لا يطرحون على أنفسهم سؤالا ضروريا إذا ما كانت الحرب سوف تكون حلا.. أم أنها سوف تفاقم المشكلة؟
بقوة الحقائق فإن المقاومة اللبنانية جبهة إسناد للمقاومة في غزة، إذا ما توقفت الحرب في غزة سوف تتوقف بنفس اللحظة الاشتباكات على الحدود الشمالية.
المعضلة هنا أن خطة “بايدن” لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن تكاد تكون قد تلاشت، باستثناء آمال شحيحة.

بالنسبة لـنتنياهو، فإن خيار الحرب مع لبنان يساعده على البقاء في السلطة ودفع الإدارة الأمريكية المهزوزة للاصطفاف معه، أيا كانت العواقب.
وبالنسبة لحزب الله اللبناني فإنه لا يطلب الحرب، لكنه مستعد ومتأهب لمواجهات طويلة وموجعة مع إسرائيل.
حذر زعيمه حسن نصر الله من أنه سيرد على أي اعتداء إسرائيلي بغير قواعد أو سقوف.
كانت تلك رسالة ردع امتد مفعولها لأية أطراف إقليمية قد تدعم بصورة أو أخرى العمليات العسكرية ضد لبنان.
كلامه يكتسب صدقيته من القدرات الصاروخية التي يمتلكها، حجما ونوعا.
إنها حسب التقارير الدولية المتواترة تبلغ عشرة أضعاف ما لدى المقاومة الفلسطينية مجتمعة.
كانت عملية الهدهد، بصورها بالغة الدقة، التي أزيح الستار عنها، لقواعد عسكرية ومناطق حساسة عديدة في العمق الإسرائيلي رسالة ردع استباقية قبل أي هجوم محتمل.

لا أحد فى الإقليم والعالم يطلب حربا واسعة باستثناء نتنياهو وحكومته لمصالح سياسية وشخصية.
تخشى الولايات المتحدة أن يفضي توسيع الحرب إلى فوضى إقليمية واسعة تضر بمصالحها الاستراتيجية والإضرار الفادح بالدور الوظيفي، الذي تلعبه إسرائيل، في الاستراتيجيات الغربية بالشرق الأوسط.
وتخشى أكثر أن تجر إلى ما لا تريده بفائض عجزها أمام مزايدات الجمهوريين قبل الانتخابات الرئاسية الوشيكة.

البنتاغون لا يخفى قلقه حيال الوضع على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية داعيا إلى ما أسماه “حل التوترات”.. والخارجية الأمريكية تؤكد الارتباط بين ذلك التوتر المنذر والحرب في غزة، فإذا ما حلت الثانية انهيت الأولى.
نفس الاستنتاج الذي يتبناه كافة اللاعبين الإقليميين بلا استثناء واحد!
في فوضى الارتباك الأمريكي تراجعت قدرتها على الردع.

هذه حقيقة توكدها الخارجية الأمريكية التي أعلنت أن أمن إسرائيل “مسألة مقدسة”، كأنها رسالة طمأنة بالوقوف معها حتى لو دفعت الإقليم كله إلى هاوية المجهول!
فقد الرادع الأمريكي هيبته.

هذه حقيقة ماثلة رغم أن مستشارا للرئيس الأمريكي “عاموس هوكستين” تواجد بالمنطقة لخفض التصعيد، دون أن يكون له فعل مؤثر.
الأسوأ أنه وجد نفسه طرفا في ملاسنات أمريكية إسرائيلية حول حقيقة حجب شحنات الأسلحة واصفا تصريحات نتنياهو بأنها كاذبة!
تلك الملاسنات في توقيتها وطبيعتها تعبير عن فجوة ثقة كبيرة تفصل بين نتنياهو وبايدن.

الأول، أرجع عدم قدرته على حسم الحرب وتحقيق “النصر المطلق” إلى حجب إمدادات السلاح عنه مقارنا نفسه بـ”ونستون تشرشل” الذي قال للأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية “أعطونا المعدات وسوف نتكفل بالمهمة”!
والثاني، اتهمه عبر مستشاريه والمتحدثين باسمه بالجحود ونكران الجميل حيث وقف مع إسرائيل، كما لم يفعل أي رئيس أمريكي آخر.

على نحو صريح ومباشر تحولت دفة الملاسنات من حقيقة حجب صفقات السلاح إلى التدخل شريكا مع الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
بدا مأزق بايدن مستحكما وموقفه مهزوزا.
فهو يريد أن يركب جوادين في وقت واحد، دعم اللوبيات اليهودية في حملته الانتخابية، وتحسين صورته أمام القطاعات الشابة في المجتمع الأمريكي والجاليات العربية والإسلامية التي تناهض الحرب على غزة وتتهمه بالتورط فيها.
يؤرقه سؤال إذا ما كان سوف يقابل نتنياهو عند زيارته المتنظرة إلى واشنطن لإلقاء خطاب أمام الكونغرس دون أن يقرر شيئا حتى الآن!

بنفس الوقت احتلت الحيز العام في إسرائيل ملاسنات أخرى بين بن غفير ونتنياهو، عبرت عن عمق الأزمة الحكومية التي قد تزكي مغامرة الحرب في لبنان.
الأول، يطلب أن يكون طرفا مباشرا في إدارة الحرب دون خبرة سياسية، أو عسكرية.
الثاني، يمانع خشية أن يتحول مجلس الحرب قبل حله إلى سيرك تنشر أسراره بالعلن.

كان قرار نتنياهو بإنشاء مجموعة وزارية أمنية مصغرة تضم “بن غفير” محاولة في الوقت بدل الضائع لامتصاص الأزمة، لكنها بدت كاشفة لمدى صلاحية المستوى السياسي كله للبت في مسائل بالغة الخطورة كالحرب على لبنان.

الأوضاع السياسية الهشة في إسرائيل يفترض أن تردع أية مغامرة لتوسيع نطاق الحرب، لكنها قد تدفع بالمفارقة إلى الإقدام عليها!

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

من عياش إلى السنوار… “دوري” الإرهاب الصهيوني

نشرت

في

صبحي حديدي:

اللجوء إلى منهجيات المقارنة يقتضي، بادئ ذي بدء ربما، اعتماد درجة الحدّ الأدنى من التكافؤ أو التناظر تارة، والتفاوت والتنافر تارة أخرى، بين مقارَن وآخر؛ الأمر الذي تتضاعف اشتراطاته، ومشاقّه استطراداً،

صبحي حديدي

إذا كانت المقارنات تخصّ البشر عموماً، وفي ميادين مثل الأخلاق والنفس والسياسة والعقيدة خاصة. فليس من اليسير، في يقين هذه السطور، وضع قياديي “حماس”، ممّن استهدفتهم آلة الإرهاب الإسرائيلية في مواقع شتى وسياقات زمنية وسياسية مختلفة، على محكّ تقييمٍ مقارَن واحد أو متماثل؛ حتى إذا كان تسويغ هذا الخيار ينطلق من مبدأ المساواة، ضمن معايير سياسية أو عسكرية أو إيديولوجية، إيجابية أو سلبية، متَّفق عليها أو محلّ اختلاف. وحتى، أيضاً وربما قبلئذ، إذا ارتكزت المقارنات على مسلّمة ابتدائية وناظمة تضعهم، أجمعين، في خانة مقاومي كيان استعماري عنصري استيطاني فاشي المكوّنات وأبارتيديّ المسارات.

ثمة، بذلك، مقادير متقاطعة عليا من التكافؤ في مصائر الاستهداف الإسرائيلي لأمثال يحيى عياش (المهندس) والشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وعبد العزيز الرنتيسي وسعيد صيام وصالح العاروري وجميلة الشنطي وإسماعيل هنية ويحيى السنوار؛ وثمة أيضاً، وفي المقابل الموضوعي أو الضروري، مقادير متقاطعة دنيا من التباينات الناجمة أصلاً عن الوظائف والدلالات والمصائر. طرائق النَيْل من المهندس أو السنوار، ليست مثل اغتيال الشيخ ياسين (قعيد الشيخوخة) أو هنية (النائم في فراشه)، والفارق لا يخفى بصدد الآخرين.

غير منتفاة بالتالي، بل هي ضرورة سياسية ومبدئية، مسألة التشديد على قاسم مشترك أوّل هو إرهاب الدولة الإسرائيلي بوصفه شكل تنفيذ هذه الاغتيالات، وإرهاب الدولة الصهيوني بوصفه المضمون العقائدي الذي يحرّك الدوافع من قلب “فلسفة” عتيقة ترى في الفلسطينيّ تهديداً وجودياً في ذاته وبذاته. وأياً كانت تفاعلات الشكل مع المضمون فإنّ توحّش إرهاب الدولة يلجأ، دون إبطاء، إلى إخراج الجغرافيا من المعادلة: “المهندس” ابن سلفيت في الضفة الغربية، متساوٍ مع السنوار سليل مجدل عسقلان المحتلة سنة 1948، وكلا الفلسطينييَن في خانة واحدة مع محمد الزواري… التونسي!

وليس عجباً أنّ الليكودي أرييل شارون كان مهندس اغتيال الشيخ ياسين؛ و”حكيم” حزب العمل، شمعون بيريس، كان الآمر باغتيال عياش؛ والليكودي الثاني نتنياهو كان على رأس حكومة الاحتلال يوم استشهاد السنوار. وليس من باب العجائب أنّ الثلاثة كانوا مجرمي حرب بامتياز، كلٌّ على طريقته وأفانين إجرامه، وأنّ تكوين دولة الاحتلال ظلّ ينحطّ من هاوية عنصرية إلى أخرى فاشية.

والحال أنّ منهجيات المقارنة الكلاسيكية ذاتها قد تعيد إنتاج مواضعاتها المألوفة، بين ماضي 1996 وحاضر 2024، على أصعدة حاسمة تخصّ ما هو عميق ومحوري في معمار “حماس” السياسي والعسكري والعقائدي. ذلك لأنّ أغراض الاحتلال من وراء اغتيال “المهندس” انقلبت ضدّها حين أفقدت قيادات “حماس” بعض ذرائع الاعتدال، وانتظار استكمال الانتخابات بوصفها الاستحقاق السياسي الفلسطيني الأبرز في ذلك الطور، وأفسحت المجال أمام انعتاق الحرج الآخر الذي كان يكبّل فصائل عز الدين القسام ويشلّ عملياتها.
وليس استشهاد السنوار ببعيدٍ، اليوم، عن منطق تطوّر مماثل تُضاف إليه اعتبارات عديدة فرضتها سيرورات “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ إذْ قد يقبل امرؤ أنّ غياب السنوار عن المشهد الميداني في قلب المعركة المفتوحة يمكن أن يوجع المقاومة، وقد يساجل امرؤ آخر بأنّ الغياب ذاته قد يكون عتبة الوثوب إلى مراحل انتقال ليست أقلّ استكمالاً لتلك التي دأب عليها القائد الغائب.

“دَوْري” إرهاب الدولة الصهيوني تتعاقب فصوله، إذن، ولكن ليس من دون تبدّلات تقلب السحر على الساحر الإسرائيلي؛ كأنْ يفوّت السنوار على الكيان فرصة “اقتناص” على شاكلة شيخ في كرسيّ متحرّك، أو قيادي نائم في فراش.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

حبال نتنياهو… وجرّار أدعياء مناهضته

نشرت

في

صبحي حديدي

ذات يوم شاء المعلّق الإسرائيلي دافيد روزنبرغ اقتراح مزيج يلخّص شخصية رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، فساجل بأنه خليط من شخصية فرانكنشتاين ومن مسلك الحزب الجمهوري في أمريكا؛ من خلال جانب مشترك هو خلق الوحش الذي سوف ينقلب على خالقه، كما فعل نتنياهو مع أفيغدور ليبرمان، وفعل الجمهوريون مع دونالد ترامب.

صبحي حديدي

فإذا شاء روزنبرغ الدقة وتحديث نظرته إلى نتنياهو، فالأرجح أنه سوف يطوّر الشطر الأوّل من شخصية الأخير، لصالح أيّ مزيج يستجمع صفات مهووس متعطش للدماء، طامع إلى السلطة إلى حدّ القتال بالأسنان والأظافر، كاذب ومخاتل ومراوغ؛ عدا، بالطبع، عن كونه خاضعا للقضاء في تهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة…

وإذا مضى روزنبرغ أبعد، فراقب سلوك نتنياهو خلال 48 ساعة مضت، لا غير؛ فلن يكون بحاجة إلى كبير جهد كي يرصد مسلسل أكاذيبه حتى على أقرب رعاة دولة الاحتلال: المشاركة في صياغة مشروع فرنسي – أمريكي حول هدنة 21 يوماً في العدوان على جنوب لبنان والعاصمة بيروت، ثم التلميح إلى قبول الصيغة، ثم الانقلاب عليها بعد تهديد ووعيد من إيتمار بن غفير أحد الوحوش التي خلقها ائتلاف نتنياهو الحاكم.

أمّا إذا أصغى إلى خطبة نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخرائط البركة مقابل اللعنة التي عرضها على قاعة شبه فارغة بعد انسحاب ممثلي عشرات الدول، والاستعانة بالنبي موسى في أرض الميعاد؛ فإنّ روزنبرغ لن يستصرخ العالم إنقاذ دولة الاحتلال من أسوأ زعمائها (كما فعل توماس فريدمان في “نيويورك تايمز” مؤخراً)، بل لعله سوف يشفق على فرانكنشتاين من تماثل مع نتنياهو!

التاريخ، من جانبه، لن يطمس تقلبات نتنياهو في السلطة منذ الحلقة الأولى في تاريخه السياسي، أي أواخر آذار (مارس) 1993، حين انتُخب زعيماً لحزب الليكود وبات مرشحه لانتخابات رئاسة الوزراء؛ هو، ذاته، الذي حلّت عليه نقمة الناخب في سنة 1999 ومُني بهزيمة ساحقة مهينة أمام إيهود باراك، أجبرته على الاستقالة الفورية. وإذا كان في تلك الحلقات التعاقبية الأشبه بالباب الدوّار بعض قواعد لعبة الاحتلال في تبادل السلطة، فإنّ فيها أيضاً الكثير من ذلك المزاج الخاصّ الطاغي الذي يتحكّم بالناخب الإسرائيلي وبصندوق الاقتراع تحديداً: مزاج الخوف من السلام، الذي يبلغ درجة الرهاب، والانكفاء إلى الشرنقة العُصابية التي تدفع إلى التمسّح بأمثال بن غفير، واستيلاد تنظيمات، متدينة/ متشددة و/ أو عنصرية، مثل “إسرائيل بيتنا” و”البيت اليهودي” و”العظمة اليهودية”….

الفصول الأولى بدأت في أيار (ماي) 1996، حين انتخبه الإسرائيليون فأدخلوا بذلك انعطافة نوعية على تقليدهم العتيق في الموازنة بين اليمين ووسط اليسار؛ الأمر الذي لم يكن يشكل أي فارق كبير أصلاً، لولا أنّ انتخاب نتنياهو صنع ويصنع الفارق كل الفارق. الفصول الأخرى لم تكن تبرهن على شيء قدر برهنتها على “موهبة نتنياهو الاستثنائية في الخروج بقرارات سيئة التدبير، استفزازية، وفي التوقيت الخاطئ”؛ كما قالت افتتاحية شهيرة لأسبوعية “إيكونوميست” العريقة النافذة، وعدّدت: شقّ النفق الأركيولوجي في قلب الشطر الشرقي المحتلّ من مدينة القدس، والشروع في بناء ضواحٍ استيطانية على أراض محتلة، وإبقاء انسحابات جيش الاحتلال في حدود نسبة 2% ليس أكثر. مسمار الافتتاحية جاء في الخاتمة: “إن إسرائيل، إذْ تدخل نصف قرن من عمرها، لا تستحقّ رئيس الوزراء الذي يحكمها الآن. وينبغي عليه أن يرحل”.

لكنه لم يرحل بالطبع، وحين شرع في حرب الإبادة ضدّ قطاع غزّة كانت الـ”يكونوميست” في صدارة المتضامنين معه، الصامتين عن جرائم الحرب، المشاركين في غسل يديه من دماء عشرات آلاف المدنيين الأبرياء؛ الخيار الذي لم يبرأ منه روزنبرغ نفسه، على شاكلة فريدمان أيضاً؛ والحبل على الجرّار…

أكمل القراءة

جلـ ... منار

لمرّة واحدة

نشرت

في

د. أحمد خالد توفيق

قرأت هذا الإعلان ورأيته في التلفزيون عدة مرات. هل في سيارتك خدوش؟.. وداعاً لخدوش السيارات وورشة الطلاء. هذا الـ “سبراي” يذيب الطلاء فيغطي الخدش. سمعت هذا الإعلان فراق لي المبدأ.

سيارتي مغطاة بتوقيعات الشباب الذين يحملون مسامير، دعك من الشاب العاشق الذي كتب على الباب حفراً: “أحمد يحب منى” مع صورة قلب كبير. كأن الأشجار نفدت من العالم فلم يبق سوى باب سيارتي.

هكذا ابتعت علبة الطلاء بمائة جنيه مصري ورششت به سيارتي .. لا شيء .. واظبت على الرش عدة أيام، لكن الخدش ظل خدشاً .. لم يتغير شيء.

اتصلت بالشركة المنتجة فنصحني الموظف في قرف أن أستعمل عبوة ثانية.. بعض السيارات تحتاج لعبوتين. اشتريت عبوة ثانية بمائة جنيه وجريت أن يزول الخدش الكوني .. لا جدوى … لاحظ أنني لو ذهبت بالسيارة إلى ورشة الطلاء لما أنفقت هذا المبلغ. هكذا ألقيت بالعبوتين في القمامة وأطلقت سبة.

سمعت عن مركز جديد للتخسيس يستخدم الأشعة الكونية في إذابة الدهون. نظرت لكرشي المترهل في المرآة وقررت أن الوقت قد حان لأجرب. ذهبت لذلك المركز، فقال لي الطبيب: “لا بد أن تلتزم بحمية جيدة كي يجدي العلاج” ثم ناولني الحمية المطبوعة في ورقة: جناح عصفور في الإفطار .. كسرة خبز في الغداء .. نصف تفاحة في العشاء. لو التزمت بهذه الحمية لتحولت إلى غاندي بعد ثلاثة أيام ولا داعي لإذابة الدهون بالأشعة الكونية.

على كل حال أجريت الجلسة المطلوبة ودفعت مبلغاً من المال يكفي وحده لجعلي أفقد وزناً.. إنه كفيل بأن يجيعني ويجيع أطفالي. وعدت لداري .. قال لي الطبيب إن وزني سينقص خمسة كيلو جرامات بعد ثلاثة أيام.. لم يحدث شيء .. ظل وزني كما هو وازداد قليلاً …

اتصلت بالطبيب أسأله، فقال إنني بالتأكيد غير ملتزم بالحمية، وهذا شيء مخجل لرجل محترم مثلي … وضعت السماعة وأطلقت سبة.

أحضر لي قريبي تلك الفتاة من قريته لتعمل خادمة في البيت. قال لي إنها جوهرة .. زوجتي لم تر ذلك عندما تتناول الطبق فتجد عليه بقايا الطعام .. وعندما تقلب البساط لتجد القاذورات مخبأة تحته .. قلت لها إنها جوهرة فلم تعلق. ثم بدأت أشياء تختفي في البيت .. الأموال تنقص وقطع الحلي تختفي … فتحت زوجتي حقيبة الخادمة المخفية بعناية فوجدت فيها كل شيء. واجهت الفتاة بالأمر، فقالت في تحد إنها لا ترغب في أن تعمل عندنا أكثر من هذا لأننا لا نليق بها، لكن لابد من الحصول على مستحقاتها كاملة. قمنا بحساب مستحقاتها وأطلقنا سبة.. هي كذلك أطلقت سبة..

لما أصابني ذلك الألم في أسناني ذهبت لطبيب الأسنان في آخر الشارع. قال لي الرجل إنني في أرقى عيادة أسنان في مصر ووعدني بحلول لم أسمع عنها من قبل، ثم دس رأسه في فمي ربع ساعة ثم خرج ليعلن أنني بحاجة لحشو عصب .. كان الألم يقتلني فطلبت منه أن يفعل ويريحني .. أتوسل إليك .. – «لا تقلق .. أنت في أرقى عيادة أسنان في مصر» وقضى داخل فمي ربع ساعة واستعمل أشياء غريبة مثل المثقاب ومفرمة اللحم. عندما عدت لبيتي اكتشفت أن أشياء غريبة حدثت .. طعام الغداء يخرج من عيني .. والشاي يخرج من أذني .. وألم الأسنان لم ينته بل ازداد. اتصلت بالرجل، فقال لي: هل تناولت طعام العشاء بعد ما تركتك؟ قلت له في براءة إنني بالتأكيد تناولت العشاء. هو لم يطلب مني الصيام. قال في غيظ إنني أفسدت كل شيء ووضع سماعة الهاتف في وجهي .. هكذا أطلقت سبة ..

تزوج صديقي حبيبة قلبه الفاتنة الرقيقة .. كانت لطيفة جداً وشهد معها شهراً لا يمكن وصفه أو تصديقه. ثم اكتشف أنها كسول جداً لا تمد يدها نحو أي شيء في البيت. لا تطهو أبداً .. متنمرة شرسة .. لا تفارق المرآة ولا التجميل … كأن مهمتها الوحيدة هي جعل شباب الحي يجنون .. قالت له إن من أهم شروطها ألا تنجب فهي لا تريد أن يتشوه قوامها الرائع. بعد شهر آخر تم الطلاق. وزغردت هي احتفالاً بحريتها التي استلبها ذلك الوغد بينما اطلق هو سبة.

عندما سمعت القصة دار شريط الذكريات في رأسي .. الطلاء .. طبيب الأسنان .. الخادمة .. التخسيس … كلهم يعملون بطريقة واحدة: إنهم يخدعونك فتسقط في الشرك .. وبعدها لا تكرر الخطأ ثانية، لكنهم استفادوا بأول مرة .. لو وقع مليون شخص في الخطأ لأول مرة لصاروا هم أغنى من قارون، حتى لو لم يكرر أي من ضحاياهم الخطأ ثانية. يعرفون أنك لن تعود لكن من يهتم بك؟. من يريد عودتك؟.

النصب لمرة واحدة هو طريق النجاح والثراء، لكن لا توجد مدارس تعلمك هذا الكلام للأسف.

أكمل القراءة

صن نار