تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 40

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

من عيوبنا الكثيرة اننا في مطالعاتنا نهرع دوما للاسماء المعروفة والذائعة الصّيت في عالم الكتابة …في البداية يوجّهنا المدرّسون الى اسماء معيّنة نظرا لارتباطها بدروسنا وهذا منطقي ..ثم نكتفي عادة بملاحقة كل ما كتبه المشاهير الاموات منهم واللهفة على كل ما يصدر للمعاصرين منهم ..

عبد الكريم قطاطة

كنت في بداية عهدي بالمطالعة (رابعة ابتدائي ألتهم كل ما صدر عن محمد عطية الابراشي وكامل الكيلاني وعبدالحميد جودة السحار …وفقط …وفي بداية دراستي الثانوية انهمكت في سحق ومحق مجموعة جرجي زيدان ثم بعدها ومع بداية المراهقة احسان عبدالقدوس، ثم الكبير نجيب محفوظ… ولعلّ الرابط الذي يجمع بين مطالعاتي لهؤلاء، قصص الحب والغرام في رواياتهم …ثم جاء انتقالي لشعبة الاداب الذي حتّم عليّ الاهتمام بالمنهج الدراسي واعني بذلك وحسب الترتيب الشعر الجاهلي ثم عصر الاسلام والشعر الاموي ثم العباسي ثم الحديث والمعاصر …

كثافة المواد في سنتيْ الباكالوريا لم تكن تسمح لنا في تلك الحقبة بتجاوز ما هو مقرر في البرنامج الدراسي ..الا ان الاشكال ياتي بعد الانخراط في دنيا اخرى بعيدة عن الدراسة ..جلّنا امّا ينقطع عن المطالعة تماما او يبقى في منظومة المشاهير اي في كهفهم ..ولأنني كنت من زمرة اولئك الذين يمقتون الكهوف وينادي دوما بتكسير جدرانها وبفتح ان لم تكن الابواب فعلى الاقل النوافذ لنور الشمس.. فاني كنت شديد البحث عن الوان اخرى الوّن بها خزينتي المعرفية في كل مشارب الحياة عموما وفي الشعر والادب بالتحديد …

فتحت زوايا المعرفة على العديد فاكتشفت الطيب صالح وحنا مينة ودرويش والماغوط ذلك القلم الرهيب والقاسم (ليس عرّاب الجزيرة ذلك الذي باع ذمذته بالبترودولار القطري بل سيّده سميح) وابنة الجزائر الكبيرة الرائعة المذهلة بنت المستغانمي …والقائمة طويلة وعريضة …من ضمن تلك الاسماء وقعت يوما ما عيناي على اديب مغربي يُدعى محمد الصبّاغ ..في الحقيقة عنوان كتابه هو ما شدّني ..في برنامج من البريد الى الاثير كان لي ركن عنوانه شموع على الطريق ..كنت استقبل فيه المواهب الفنية الشابة والتي لم يسبق لها ان غنّت لأفسح المجال لهواياتها ..وتخرج منه العديد من الاصوات التي شقّت طريقها في عالم الغناء وحتى لا انزل الى خانة الفخر والمنّ بما ومن قدمت، اكتفي فقط بذكر فرقة البحث الموسيقي بقابس و..هيلا هيلا يا مطر.. التي بُثت لاول مرة في برنامج من البريد الى الاثير .

عنوان الركن في برنامجي هو نفس عنوان الكتاب الذي الّفه محمد الصبّاغ …شموع على الطريق …في البداية كان حبّ الاطّلاع هو ما دفعني لاقتناء ذلك الكتاب ..ويا لروعة ما اكتشفت …قلم جميل جدا ينثر في جمل قصيرة نوعا جديدا من الكتابة الرمزية الانيقة جدا .. الكتاب لم يكن من النوع القصصي او النقدي او البحثي ..هو مجموعة خواطر عن اشياء عديدة في شكل فقرات وجمل احيانا لكن (طريزة ابدع قلم صاحبها في طرزها) ووجدتني استشهد بها في عديد برامجي او كتاباتي الصحفية نظرا إلى رمزيتها …لبلاغتها ..وخاصة لاسلوبها الجميل جدا … هاكم قرنفلة بنفسجية منها : “ما اجمل ان نكون كالميزان لا يهمّه ان ارتفع باللحم ام بالفحم …بالتبر ام بالتبن ..ام بهبّة ريح” …

ياه كم جميل ان نعبّر عن العدل بهذا الشكل ..اليس هو من اجمل الدروس للقضاة حتى لا يسقطوا في خانة الرشوة ومقاضاة مَن وزنه من ذهب وهو يلصق الجريمة والعقاب بمَن وزنه من فحم …؟؟؟ سيغضب حتما بعض القضاة من هذه التهمة …فقط اهمس في آذانهم ..يا سادتي القضاة انتم اكثر من يعرف ان فيكم مرتشين وفاسدين ومجرمين ..واذا اغمضتم اعينكم عن الحقيقة الابدية لا وجود لأي قطاع يسكنه الملائكة .. فانتم مدعوون الى فتح اعينكم على هذه الحقيقة ودعكم وكل من ماثلكم من الانخراط الاعمى للدفاع عن منظوريكم ..وفي كل القطاعات دون استثناء ..وحاولوا مرة واحدة ان تفهموا المقولة (انصر اخاك ظالما او مظلوما) هذه تعني ان كان ظالما قف معه وان كان مظلوما حسّسه بخطئه حتى يثوب الى رشده …

وبكل ألم اقول هذه واحدة من افظع مشاكل تونس بعد 14 جانفي …تحركات لم تكن يوما قطاعية من اجل قطاع ما ..بل قطيعية ..والفارق بين القطاع والقطيع مهول ومقرف ..من ضمن ما كتب الصبّاغ كتب: “الشمس تشرق كل يوم لتقدّم لنا مجموعة من الهدايا فماذا قدمت انت ايها الانسان ردّا على هداياها …؟” يوم بدأت العمل في الدراسة التطبيقية لفن المونتاج (تركيب الافلام)مع السيد جوزيو، احسست بان هنالك اشعة شمس بدات تسطع في كياني ..هنالك وميض لاشعة فيها النور ولكن فيها الدفء ايضا ..وكم هي حاجة الواحد منّا كبيرة في ايّ عمل ان يشعر ويستشعر ذلك .. بيداغوجية المؤطر يجب ان تكون من تلك الزاوية دفئا ونورا… المؤطّر عموما وفي أي ميدان عليه ان يمنح الاخر نور العلم وهذا واجبه كمدرّب ولكن وهو الاهم، عليه ان يعطي الاخر كثيرا من الدفء الانساني ..في نظرته ..في زفرته ..في ابتسامته ..وحتى في غضبه ..غضب الانسان يمكن ان يتحوّل الى نسيم سلام وامان ..

غضب المؤطّر كانسان هو حتما سيكون من فصيلة (ضرب الحبيب زبيب) وهذا ما عشته وتعلمته من مؤطّري الايطالي السيد جوزيو .وحاولت عندما اصبحت بدوري مؤطرا ان اتماهى معه ..وارجو ان اكون وُفّقت …ربّما ارضيّتي ساعدته على ان يكون كذلك معي، لأني كنت في بداية خطواتي معه استمع اليه باعجاب… نعم وانا الذي كنت ومازلت مزبهلاّ بالايطاليين لحركيّة كل شيء فيهم …تقاسيم وجوههم… حركيّة ايديهم …تلوين نطقهم للكلمات غاضبة احيانا ومعجبة احيانا اخرى …هذه الفصيلة من العباد هم لا يتكلمون… هم يُغنّون ..هم يعزفون … هم يرقصون …كنت مزبهلا به وانا استمع اليه ولكن ابدا ان فقدت تركيزي في الاستماع بعمق ..وهذا اول ما شدّ انتباهه تجاهي ….

ما لاحظته ومنذ الاسبوع الاول في الدراسة التطبيقية ونحن نلمس لاول مرة الشريط السنمائي بايدينا (لأنه في تلك الحقبة كان مونتاج شرائط الافلام هو السائد مهنيا وحتى الفيديو في بداية السبعينات كانت آلياته ثقيلة جدا وامكانية الجودة في مونتاجها كانت محدودة جدا،. كما أن العالم السمعي البصري بدا مع الاخوين لوميير بفيلم التصوير Pellicule و تواصل على تلك الحالة عشرات السنين وحتى الثورة التكنولوجية الحديثة لم تستطع اطلاقا ان تصل الى روعة المونتاج على الفيلم الفوتوغرافي ..ما لاحظته انه كان ينظر اليّ دون ان ينظر …كان يسترق النظر.. كنت مدركا تمام الادراك حسّيا انه لم يهمل احدا منّا (وما ابشع ان يهمل ايّ مؤطّر احد تلاميذه) …ولكن لم اكن افهم لماذا كان ينظر دون ان ينظر .. وتماما مثله تعلّمت ان استرق النظر على طريقته ..كنت اغتنم فرصة حديثه مع احد الزملاء ونقاشه معهم حول قواعد علمية ثابتة في المونتاج، كيف يردّ الفعل ..هو غاضب احيانا مع البعض راض عن آخرين صامت معي …

هكذا كانت مدّة الدراسة التطبيقية مع السيد “جوزيو”… وجاء الشهر الاخير لاعداد مشروع ختم الدروس … كان على كل واحد منّا ان “يتكوبل” مع احد زملائه المختصين في التصوير التلفزي ليقوم الكاميرامان بتصوير الموضوع ويتولّى المركّب المونتاج ….وعلى كل فريق ان يختار الموضوع الذي يريده ..واخترت انا الموضوع ..ريبورتاج حول حديقة الحيوانات بالبلفيدير …السيد جوزيو تساءل: هل تتصور ان هذا الموضوع هام؟ ..اجبته: اريد ان آخذه من زاوية معيّنة ..تبسّم وقال اوكي ..وهذه لا فرنسية ولا عربية ولا حتى امريكية انها عالمية ..وكان عليّ ان اثبت لمؤطّري السيد “جوزيو” اني في مستوى “اوكاه” …كان في مخططي ان اصوّر واخرج واركّب يوما ريبورتاجا عن موضوع ما، دون تعليق دون حديث دون ثرثرة كما يقع في جل قنواتنا الان …وارتايت ان اقدّم لمؤطّري عملا لا شيء فيه باستثناء الصورة وهي مركّبة بشكل فنّي على الموسيقى وفقط يا فقط …

قمت بدراسة المكان وقمت خاصة بالسؤال عن اصل وفصل كل الحيوانات اي جنسياتهم …وذهبت صحبة زميلي المصوّر ..لم يدم التصوير اكثر من يوم واحد ..ارسلت الاشرطة للتحميض وشرعت في اختيار موسيقى من نفس بلاد كل حيوان …ةضعت الاسيوين في مجموعة والاوروبيين في مجموعة ثانية والافريقيين في مجموعة ثالثة ..واخترت لهذه القارات الثلاث لا فقط موسيقاها بل تلك التي تتناسب مع الموضوع (الحيوانات)… انتهى التحميض وبدات عملية المونتاج … وسي وخينا هاكة الطلياني، مازال ينظر دون ان ينظر …صدقا كنت “شايخ بروحي” وانا اعيد قراءة مونتاج ايّة فقرة اتممتها …ولكن لم افهم ما معنى ذلك الطليان السمح الذي ينظر ولا ينظر ..صدقا لم احس يوما في التربص التطبيقي بالخوف من النتائج التي ستعلن بعد اسبوع ..كان كلّ همّي ان اكون انا … وياما اوقعتني في اشكالات ومشاكل ان اكون انا …وبدرجة ثانية ان اكون عند حسن ظن سي الباجي … ما تمشيوش لبعيد.. لقرطاج ..لانه لم يهمني يوما ان اكون عند حسن ظن لا قرطاج ولا مونبليزير وطززززززززززز فيهم جميعا ..بل عند حسن ظن السيد الباجي صانصة مدير مركز التكوين لدار التلفزة التونسية …

وحان وقت الحصاد ..زعمة ينڨزها كريّم …؟؟؟ يومها وقبل اعلان النتيجة النهائية للحصول على الديبلوم وهو الذي وقعت معادلته بسنة ثانية جامعة فيما بعد، جاء ذلك الجوزيو الايطالي الجميل الانيق وجذبني اليه وقال “قهوة معا ؟”… وبكل سرور وسعادة وشوق كبير لمعرفة اسرار هذه الدعوة، وجدتني كعندليب طائر استبق المسافات والعندليب الاسمر يغني في كياني (وخذتني ومشينا والفرح يضمنا، ونسينا يا حبيبي مين انت ومين انا) …يكب سعد الوقت …يستمعون الى انا موش مريڨل ..وانت موش مريڨلة …وهف.. يريڨلهم تريڨيلة ماهياش ..وينسون (وخذتني من ايدي يا حبيبي ومشينا… تحت القمر …غنينا وسهرنا وحكينا… وف عز الكلام سكت الكلام )…يومها وفي مقهى الاذاعة ذلك الذي ينظر ولا ينظر، نظر بكل تأمل إلى طالبه وفي عز الكلام بدأ ولأول مرة الكلام وقال بفرنسية عرجاء لكن كم هي جميلة: انتبه مليح كريم انت فنان وفنان جدا وانا واثق انك ماشي تُولّي مركّب كبير …وانا كنت نتبّع فيك منذ اول يوم وعندما شفت الـ”سي في” متاعك خلال دراستك اندهشت من ترتيبك في الامتحان النهائي وانت الاخير في دفعتك ..ولكن ولانك تستحق …انت الان ناجح وبامتياز وشريطك حول حديقة البلفيدير عمل محترف ويجد مكانه في اية تلفزة …

لم انتظر جدا الاعلان الرسمي عن النتيجة ..شكرته وودعته وذهبت الى رضا لاعلمه …وكانت ليلة ليلاء حمراء ..بكل مفاهيم الاحمرار… من مقرراتها الى قواريرها شديدة البراءة الى حد الاحمرار، لشلة الاصدقاء في تونس دون ان اكون مشتركا معهم في شرابها فشرابي مختلف .. انا لم اذق يوما الخمر بكل اصنافه في حياتي …هكذا قررت منذ بداية شبابي وادمنت على ذلك القرار رغم تعدد الاغراءات ..لم يكن الواعز الديني انذاك السبب ابدا … ربما هو جبن منّي …ربّما هو الخوف من عواقبه لاني في العشق لا اخاف من الغرق بل لا عشق عندي دون غرق ..وهذا امر اسعد جدا عيّادة ..التي لم تشك يوما في اني لم اذق الخمر ..هي لم تسالني يوما عنه ..هي تنظر اليّ وتعرف بالضبط ماذا فعلت وماذا لم افعل ..هل تتصورون اني لحد يوم الناس هذا عندما ازورها في قبرها احسّ لا فقط انها تسمعني وتسمع بكائي ..وما اروع البكاء على قبرها .بل هي تنظر الى عينيّ وتقرأ فيهما امّا اماني او ضياعي …

وبدات في الغد رحلتي مع مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية كمركّب افلام ..وفوجئت في الاسبوع الاول بالسيد الهادي المزغني احد منتجي الدار يطلب منّي شريط الحديقة العمومية ليدمجه ضمن برنامجه الاسبوعي (من هنا وهناك) وهو برنامج يهتم بالاخبار الطريفة والعجيبة، ويبثه في موعده المقبل.. كان اليوم خميسا من اواخر سنة 72 يوم موعد برنامج من هنا وهناك ..تربعت امام الشاشة قبل الاخبار بكل نرجسية وزهو ..لاشاهد اول عمل تلفزي قمت بمونتاجه في حياتي المهنية …شعور لا يوصف …شعور…من خبايا العندليب ..(وخذتني يا حبيبي ورحت طاير طاير …واه مالهوى يا حبيبي اه مالهوى ….يا حبيبي) …

ما احلاه ذلك الشعور و خاصّة ..ما احلاه الهوى … باهي والا موشو باهي ؟… اكيد يتبع… راهو الهوى …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 55

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

هنالك لدى الغرب عموما قناعة جماعية تذكّرنا بـ {اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا} ودون الدخول في جدل عن حقيقة الحديث موضوعا كان ام صحيحا وما المقصود منه في ابعاده العميقة، فالمؤكّد ان الغربي يعمل على الاقلّ بما جاء فيه في منظومة حياته ..هو يقدّس عمله ويتفانى فيه وهو ايضا قلّ ان يترك فرص التمتّع بالحياة …

عبد الكريم قطاطة

اتذكّر جيّدا وانا في روما سنة 1988 عند قيامي صحبة العديد من الزملاء في مؤسسة التلفزة التونسية بتربّص تكويني في واحدة من اهم تلفزات العالم (الراي)… اتذكّر ذلك العامل البلدي الذي يرتدي يوميا بدلته الصفراء وهو يجتهد في تجميع القمامات من الحي الذي نقطن فيه في قلب روما… كان يعمل بكلّ فخر ومثابرة …. تقولشي مهندس في النازا … ذات ويك اند ونحن نتجوّل قرب الفاتيكان، تُطلّ علينا سيارة حمراء سبور لتتوقّف امام احدى المغازات وينزل منها شاب هو الوسامة والجمال والاناقة … حتما هو واحد من اشهر ممثلي هوليوود … ونُمعن النّظر فيه باعجاب شديد لنتكتشف أنّه العامل البلدي ذاته …

هكذا هم في نهاية الاسبوع …الويكاند عندهم للتفرهيد والخروج من روتين عمل الاسبوع… لذلك وفي جلّ عواصم اوروبا تُنظم رحلات اخر الاسبوع داخليا وخارجيا …

ذات مرّة قررنا شلّة من الاصدقاء ان نسافر آخر الاسبوع في رحلة منظّمة الى امستردام بهولندا حيث الزهور والطواحين ومدينة الدراجات الهوائية… (وهي التي تحتل المرتبة الثانية عالميا بعد شنغاي الصينية وتاتي صفاقس في تلك السنوات مباشرة بعدهما) … كنّا مدركين جيّدا ان الهولنديين من اكثر الاوروبيين عنصريّة تجاهنا نحن العرب… كنّا نسمع كذلك ما يشاع من ان اسطورة كرة القدم الهولندية جوهان كرويف صرّح ذات مرّة انّه لو علم انّ العرب يتفرّجون عليه لما لعب بتاتا …لكنّ ذلك لم يمنع عزمنا على المشاركة في الرحلة لسببين… اوّلهما ان تجربتنا في فرنسا اكّدت بما لا يدع ايّ مجال للشك انّ الانسان عموما اذا احترم لابدّ ان يُحترم … (النفس نفسك وانت طبيبها وين تحط نفسك تصيبها)… فانا وجُلّ من اعرفهم، لم يحدُث ان استوقفنا عون امن ليطلب منّا اوراقنا ..اطلاقا ..اما ان يُعربد الواحد في مدينة الانوار ويشرب حتى يرى الديك اسدا ويصول ويجول بكل عنتريّة (يحساب روحو في حومة السمران او في الملاسين) فطبيعي جدا ان يقع ايقافه كعربي وسخ (ساال آراب) وربّما يقع ترحيله …

ثانيهما… الرحلة الى امستردام بالنسبة لي كان هاجسي الوحيد فيها ان اعيش تجربة الزطلة … نعم كانت لي رغبة جامحة في تجربة فعل الحشيش فيّ ..ولكم ان تسألوا عن الاسباب ولماذا امستردام بالذات … اوّلا وللتذكير انا في عشقي لا اكتفي بالشاطئ بل اريد سبر الاغوار في كل تجاويفها… واذا كانت الخمور بانواعها متوفّرة في كل مكان من المعمورة فانّي كنت اخاف تجريبها والغوص فيها عشقا دون حدود… بينما الامر في تلك الحقبة (نهاية السبعينات) بالنسبة للزطلة مختلف جدا لعديد البلدان العربية…باستثناء المغرب الذي رأيت فيه بائعي الحشيش سنة 74 كبائعي التبغ عندنا وباستثناء ايضا المقصورات المغلقة لدى الاثرياء في جُلّ البلدان العربية عموما والخليجية خاصّة…

وهنا تعود ذاكرتي الى رمضان 2008 عندما كنت في عمرة وتجاذبت اطراف الحديث مع سائق سيارة اجرة في مكّة … وهو شاب عرف اننا تونسيون وبالذات صفاقسيّون فطفق يرحّب بنا ترحابا خاصّا ويُعدّد لنا مآثرنا وعشقه للسي اس اس خاصّة …لم يكن يفعل ذلك طمعا او خبثا بل كان شابا ظريفا لطيفا عفويا …وكان لابدّ ان اردّ على تحيته ومديحه باحسن من ذلك، فرحت اُكيل اعجابي بالسعودي عموما وخاصّة بسكّان المدينة المنوّرة الذين يفيضون بِشْرا وابتسامة دائمة وطيبة… ففهم الشاب وهو ابن مكّة قصدي وابتسم في لطف وقال: عندك الف حق… سكان المدينة افضل بكثير منّا في كل شيء حتى في التزامهم بدينهم …ثمّ همس لي ونحن في الاسبوع الثاني من رمضان وتحسّبا من ان يصل صوته الى البقية في سيارة الاجرة: “تحبشي توة نهزّك لبقايع تحت الارض فيها كل شيء …خمر… نساء …حشيش ؟؟؟”…هو لم يقل ذلك بمعنى هل تريد وسيطا ؟، بل ليؤكد كلامي من انّ اهل المدينة المنورة افضل بكثير من متساكني مكّة… العهدة على من روى نعم …ولكن وعذرا يا رب ان كنت ميّالا لتصديق ذلك الشاب …

اذن امستردام هي مدينة الحشيش… لذلك اخترتها… وما ان وصلنا وحتى قبل دخولنا الى النزل المتواضع جدا (وهو اختيار منّا نظرا إلى عوزنا المادي كطلبة) … حتى لفت انتباهنا بعض المنشورات السياحية والتي تذكُر فيما تذكُر انّ استهلاك الحشيش ممنوع قانونيا ولكن نفس تلك المنشورات تُضيف: “ننصحكم بعدم التزوّد به من باعة الشوارع لأنّ نوعيته رديئة” … فهمتو حاجة ؟؟؟… ولأن امثالي الراغبين في عيش التجربة يهمهم جدا عجُز المنشور فان القرار اتُّخذ بعد… ساتعاطاه لاكتشف كُنهه كتجربة لا ادري وقتها توصيفها … الاولى والاخيرة ؟؟؟ الاولى وما تلاها ؟؟؟… المهم عندي ان امارس حقّي في التجربة …ما ان دلفنا إلى باب النزل حتى تيقّنت ان الميدان خصب جدا …جل رواد المكان مسطولون …رجالا ونساء ..وبانماط وسلوكات مختلفة …

اوّل من لفت انتباهي سيدة شقراء في غاية الجمال … كانت تجلس متسمّرة على حافة الكونتوار تحتسي خمرا وتدخّن حشيشا ..كانت في منتهى الهدوء والرصانة … تقولشي تمثال جامد لا حراك به …وكانت نظراتها اكثر جمودا ..عيناها وعلى عكس الاخرين مثبتتان الى سقف قاعة الاستقبال في بهو النزل لا تهتم باحد ولا تنظر الى احد ..كان النادل يقدّم لها كوبها حذو يدها كلّما انتهت من افراغ سالفه في جوفها ..هل هي عمياء؟؟ … عرفت فيما بعد انها عمياء نعم … وعرفت وهو الافظع انّها لم تولد كذلك الاّ انّها كانت منذ بدأت تستهلك الحشيش تمارس هوايتها المجنونة: النظر الى الشمس … الى ان فقدت بصرها …انه عالم المخدرات الرهيب …

اخذت مكاني ببهو النزل …طلبت قهوتي (كابوسان) وطلبت سيجارة …. .فهمني النادل واحضرها …دخنتها دون خوف او تردد …ولم يحدث لي شيء …هل غشني النادل؟؟؟… طلبت ثانية واشعلتها …لم اكن ادري ان تأثير الحشيش يتطلّب ربع ساعة على الاقل ليبدأ اشغاله داخل مُخيّخي وكياني … وما كدت اكمل الثانية (وهي “اوفر دوز” بالنسبة لغير المتعوّدين امثالي على استهلاك الحشيش)…حتى شعرت بالدوران يبدأ في فعل فعله …ولتفادي اي سلوك منّي وسط بهو النزل طلبت من اصدقائي التونسيين ان يصعدوا بي الى غرفتي وان لا يتركوني وحيدا وان يقوموا بتسجيل كل ما اقول وما افعل …في البداية لم استطع الوصول الى الغرفة التي كانت في الطابق الثالث الا بعد معاناة كبيرة ..كنت اتعثّر في كل درج اريد ان اتخطّاه ..والسبب انني اصبحت احس بخفّة غير عادية في جسدي وحركاتي… فكنت كلّما رفعت رجلي لاتخطّى الدرج الذي انا فيه اشعر بان ساقي ترتفع امتارا الى اعلى وهي في الحقيقة لم ترتفع الا بعض السنتمترات غير الكافية للوصول الى الدرج الموالي… لذلك اسقط واعيد الامر نفسه مع كل درج … حاصيلو ما وصلت لبيتي كان ما كل غديرة شربت ماها … لا علينا …كانت تجربة مهولة ومهبولة ورائعة …اكتشفت كلّ ذلك بعد ان استفقت وسمعت التسجيلات ..وهاكم الفيلم …

كنت ممددا على سريري في شبه غيبوبة ممتعة … وكنت ارى في سقف البيت المخربش بالاوساخ اشياء عديدة ..مخزوني المعرفي خرج ليفسرها ..كنت اقول لاصدقائي انظروا الى عنترة كيف استجابت له القبيلة ليدافع عن حماها وليرفع رأس حبيبته عبلة بشهامته وشجاعته …في ركن آخر كنت ارى طرفة بن العبد المنبوذ من عشيرته التي اُفردته افراد البعير المعبّد … انا ابن آداب لذلك جاءت تهويماتي تلك اللحظة من خلال ما اختزنته ذاكرتي من دراستي في الشعر والرواية ..الا انّ ذلك لم يمنعني من العودة الى واقعي (مزطول وحاذق!)… كنت ارجو من اصدقائي ان يُحضروا لي صديقتي الجزائرية التي صاحبتني في رحلتي تلك ..بل كنت ابكي واصرخ في وجهوهم: “يا حيوانات افهموا انها ليست الحاجة الجنسية التي تحكُمني فقط اريد ان اعرف كيف سيكون سلوكي معها في حالتي تلك” …

لكنّ اغرب ما وقع في تلك الزطلة، لوحة عبّاس بن فرناس في اوّل محاولة تاريخية للطيران … غمرتني الفكرة لحدّ الامتلاء وقمت من سريري متجها الى النافذة قائلا لاصدقائي: “عبّاس بن فرناس على حقّ” ..عندما يصل الواحد منّا الى هذه الدرجة من الخفّة سيتحدّى الجاذبية الارضية وسيبرهن على قدرته على الطيران .. وكان في نيّتي وبكل عمق وارادة وايمان ان اخرج من النافذة في الطابق الثالث طيرانا …نعم هكذا هي الزطلة وهكذا هو الحشيش …ولولا اصدقائي لطرت دون رجعة ودون ورقات يتيم… المهم في التجربة على روعتها انّها عمّقت لديّ فكرة استحالة تجربة المسكرات بكافة صنوفها والى الابد… وهذا ما حصل… كان الطلاق بالثلاث مع الخمور و مع الحشيش طبعا …كانت الاولى والاخيرة …وادركت بفعل السن و بعض الحكمة انّ الخمر الحقيقية والزطلة الحقيقية هما ما تصنعه انت بنظرتك العميقة للجمال… للاخر… للحياة …لا بمفعول مؤثّر خارجي لا حول لك فيه ولا قوة …

انا اسكر جدّا وانا استمع الى اغنية راقية ..وانا اقرأ قصيدة راقية …وانا اشاهد فيلما راقيا او مسرحية راقية …وحتى وانا انظر بمتعة الى قرنفلة وردية اللون… الى مشموم ياسمين… الى صغير يُلاغيني بموسيقى الكون … الى العقربي يقسّم برجليه تقاسيم موزارية … الى عبدالوهاب وهو يخرج الروائع الواحدة تلو الاخرى ليختمها بـ”من غير ليه”… الى العندليب ذلك الذي لم يستطع احد خلافته كارقى فنان ذي احساس مرهف … الى الست وهي تتاوه في (وصفولي الصبر)… ياااااااااااااااااااااااااه يا تومة عظمة على عظمة …

لذلك انا كنت وسابقى طيلة حياتي سكّيرا بكل ما هو جميل وراق …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 54

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

كلّ من يعرفني عن قرب يعرف انّ باريس غيّرت فيّ اشياء هامّة جدا ونحتت شخصيّتي ايّما نحت وقلبت عديد القناعات رأسا على عقب .. لعلّ ابرزها والتي طبعت بقيّة حياتي، مراهقتي السياسيّة قبل دراستي بفرنسا …

عبد الكريم قطاطة

في باريس عاشرت عديد التيارات من اقصى يمينها الى اقصى يسارها …كنت اُجيد الاستماع الى خطبهم والى تنظيراتهم السياسية … وفهمت انهم جميعا يشتركون في خاصّية مشتركة: الجعجعة السياسوية على مستوى القيادات وسلوك القطيع على مستوى القواعد … والنتيجة ان تتمتّع القيادات في جلّها بالكراسي وبالعيش الكريم من قصور وجواري وانهار خمر وان تواصل القواعد “نضالها الغبي” ومسيراتها واعتصاماتها وجوعها وعطشها والدمّار لا فقط الازرق بل بكل الالوان القاتمة… من اجل سادتها ومن اجل قصور اخرى وجواري اخريات وانهار من العسل المُصفّى الشيفازي الكنية (نسبة الى ارقى انواع الويسكي شيفاز) ..

لهذا السبب آليت على نفسي ان اقاطع نهائيا فكرة الانتماء الى ايّ فصيل سياسي طيلة حياتي و لا انضمّ إلا الى حزب الانسان المدافع عن الانسان ..احسست بأن الانسان الكوني هو الاجمل والارقى والاعمق بعيدا عن ايّة رغبة انتهازية …ترسخت لديّ قناعة بأن الدفاع عن الانسان كونيا هو الاقرب لمنطق الحياة بعيدا عن السياسة والسياسويين ..لأن الانسان اينما كان وبقطع النظر عن جنسه ولونه هو رغم انفي وانف الجميع اخي ..نعم السنا جميعا احفاد آدم وحوّاء ؟؟؟ … اختلف قطعا مع العديد من البشر في سلوكاتهم الحياتية وارى ذلك امرا طبيعيا تماما كما اختلف قابيل وهابيل …ولكن تعلمت ان لا اكره اي بشر على وجه الارض …قد لا اتوافق مع تصرفاته …قد اقف منددا بجانب الشرّ فيه مسلما كان او مسيحيا او يهوديا او بوذيا .. ولكن لنا جميعا رب هو الكفيل بمحاسبتنا … اذ كيف لي ان اخلع الله من كرسيّ عرشه واجلس مكانه لأكفّر زيدا او احكم على عمرو بالجنة وزيد بالنار ؟؟؟ ذلك عندي ليس فقط خطأ بل هو شرك خفيّ .. مثل هؤلاء الذين يُكفّرون ويعطون صكوك الجنّة ولم يدركوا انّهم بافعالهم تلك تقمّصوا جُبة الربوبية وجلسوا على العرش ليصدروا احكامهم ويعيثون في الارض فسادا …هم لم يقرؤوا يوما (لايُزكّي الا الله)…

في فرنسا ايضا تعلمت ان الانسان لا معنى له ان لم يُفصح عن قناعاته دون وجل او تردّد …لانه ان اصاب فيها سيواصل التشبّث بها وان لم يُصب جاء الرأي الاخر ليُصلح له خطّ مساره … في هذا الباب ساسرد عليكم حادثة هامة عشتها مع مدير الدورة في دراستي الاستاذ كلود اوتزن بيرجيه .. في نهاية الدراسة النظرية وبعد مجموعة من الاشرطة الوثائقية القصيرة التي انجزتها كدروس تطبيقية لما تعلمناه (لعلّ ابرزها شريط وثائقي حول مهرجان المسرح بأفينيون)، جاء موعد الاستعداد لديبلوم ختم الدروس …اخترت انا كموضوع لهذا المشروع انتاج شريط وثائقي حول صفاقس _ واسميته صفاقس حبّي Sfax mon amour ..

كان الهدف بالنسبة لي ان اقوم بانتاج واخراج فيلم وثائقي طويل حول الاوضاع في تونس بكل مفاصلها الساسية والاجتماعية والثقافية… واخترت صفاقس كمثال لمدينة من مدن تونس… لماذا صفاقس دون غيرها ؟؟؟ _ لأنو ما تخرج الصّدقة كان ما يشبعو امّاليها … حظي المشروع المقترح بالقبول من لدن مدير الدورة و ايضا من لدن مؤسستي (الاذاعة والتلفزة التونسية) والتي ساهمت بالجانب التقني من معدات تصوير صورة وصوتا، مرفوقة بمدير تصوير (الزميل عبدالله رتيمي) وبمصوّر (كاميرامان) هو الزميل الهادي ملاّك… دون نسيان مصاريف تنقلهم واقامتهم بصفاقس … وكان لي ذلك …

التصوير امتدّ على ثلاثة ايام رجعت بعدها الى معهدي بباريس لأقوم بنفسي بعملية المونتاج …تمّ انجاز الشريط والذي يمتدّ على 50 دق وجاء يوم مناقشة المشروع أمام لجنة الامتحان والتي يرأسها السيد اوتزن بيرجيه … كانت القاعة تغصّ بالطلبة وكان من بينهم تونسيون وجزائريون (طلاّب درجة ثانية) …الشريط كان ملتزما بالدفاع عن حقوق الغلابة والمساكين، عن الفئات الضعيفة والمسحوقة… واخترت له كنهاية شبّان النادي الصفاقسي في الكرة الطائرة انذاك صنف اواسط… القائمة كانت تضمّ افضل جيل عرفه النادي الصفاقسي والفريق الوطني عموما: غازي المهيري، عبدالعزيز بن عبدالله، صرصار، كسكاس، الحشيشة الخ .. اخترت هذه المجموعة وهم يسددون ضربات ساحقة (زماتشات) وبعد كل ضربة تنفجر الصورة ليخرج منها حرف باللغة الفرنسية “ف” كالفقر وياتي التعليق: (هؤلاء الشبان سيقضون يوما على “ف” كالفقر، “ظ” كالظلم، “ا” كاستغلال … وكانت كل ضربة زماتش مرفوقة بدويّ يتلاءم وانفجار الصّورة وآخر حرف وانا المعارض انذاك لسياسة بورقيبة، كان حرف “ب” وبزرت صورة الرئيس بورقيبة وهي تنفجر وبدوّي هائل لينتهي الشريط …

عذرا ايّها الزعيم والف عذر لأن من اتوا بعدك ورغم كل خطاياك لا يساوون ظفرا منك …هكذا ختمت الشريط وصفّقت ايادي التونسين والجزائرين وحتى الطلبة الافارقة بكل حماسة ونشوة … الموضة انذاك ان تكون معارضا حتى ولو كنت غبيّا في معارضتك… اثنت لجنة التحكيم والتي كانت في جلّها يسارية ايضا على قيمة المنتوج تصوّرا وتنفيذا … وجاء دور رئيس لجنة التحكيم ليعلن عن النتيجة رسميّا وعن العدد المرصود ..وقبل الاعلان ابدى رغبته في ملاحظة صغيرة على حد تعبيره… قال السيد كلود: “كريم انت واحد من الطلبة المجتهدين وكلّ اساتذتك فخورون بك وبالعمل الذي قدمته في رسالة ختم دروسك الا انّ هناك امرا حيّرني ولم استسغه منك انت بالذات كطالب له خبرة كبيرة في المونتاج .. عند عرضك لمقارنة بين الاحياء الفقيرة والاحياء الثريّة ورد خطأ منهجي في المونتاج لست ادري كيف لم تتفطّن اليه …القاعدة تقول انه في المونتاج المقارن علينا ان نختار مشاهد بنفس الحجم تصويرا بينما مشاهدك لم تكن كذلك اذ انّك اخترت مشاهد قريبة جدا في الاحياء الفقيرة ومشاهد بعيدة جدا في الاحياء الثريّة …اليس هذا خرقا لقاعدة علمية في المونتاج ؟ هل من تفسير لهذا الخطأ الفادح؟؟” …

وسكت الجميع لم ينزل على رأسهم الطير بل اسراب طيور ..كيف لعبدالكريم (الباع وذراع) في المونتاج ان يسهو على هذا الامر…؟؟؟ ابتسمت ابتسامة فيها (صدقا) شيء من المكر …وبكل هدوء اجبت: سيد كلود بقدر احترامي وتقديري وتثميني لمزاياكم العلمية علينا جميعا، بقدر استغرابي من انّكم احيانا وبشكل لا اشكّ لحظة في انّه لاشعوري تعودون لارتداء جلباب المستعمر في رؤيتكم للاشياء وتحليلكم لها …سيد كلود علّمتمونا فيما علّمتمونا ان الكاميرا هي عين المخرج وبالتالي عين البيئة التي يعيش فيها وان لا قيمة لعمل ينفصل عن واقعه وبيئته …سيد كلود .. انتم في فرنسا مسموح لكم ان تخترقوا عديد الابواب لتصوير ما تشاؤون بفضل حرية التعبير .. التصويرالتلفزي ..سيد كلود في مجتمعاتنا لم يصل لهذه المرتبة بعد …لذلك كان من السهل عليّ ان انزل بالكاميرا الى ممرات وازقة الاحياء الفقيرة لاصوّر ما اشاء .. ولكن في الضفة الاخرى لم يكن ممكنا بالنسبة لي… القصور عندنا محاطة بالكلاب الشرسة …فكيف لكاميرا ان تقتحمها …لذلك جاءت صور الاحياء الفقيرة من عمق اعماقها وجاءت صور الاحياء الراقية تكاد تكون ضبابية … نظرا إلى بعدها عن اعيننا ..ورغم ذلك ولتدارك الاختلال عدّلت الامر باستعمال مقطوعتين موسيقيتين تتزاوج كل واحدة منهما مع الفصيل الذي يناسبها” …

عجّت القاعة الكبرى بالتصفيق الحاد (مرسي الزناتي لم ينهزم يا رجّالة!)… سكت الجميع وانتظرت ردّ رئيس لجنة التحكيم السيد كلود وانا الذي وصفته بالاستعماري في ما ابداه من رأي …نظر اليّ الاستاذ الكبير وقال: “استسمحكم جميعا ايها الاساتذة في ان اقدّم اعتذاري لطالبي العزيز كريم …نحن جميعا ومهما كبرنا في ميداننا نتعلّم … وانني اعتبر ردّ طالبي كريم درسا لنا جميعا حتّى لا نخطئ في حق طلبتنا… نعم من حقهم بل من واجبهم ان يثعبّروا عن افكارهم ومنطلقهم في ذلك البيئة ولا شيء غيرها” …وخرج من مكانه واقبل عليّ قائلا: “نحن ليس من عاداتنا ان يُقبّل الرجل رجلا آخر ولكن تعلّمت منكم انتم انكم تُقبّلون بعضكم بعضا ..هل تسمح لي كريم بتقبيلك؟” …طبعا وبكل فخر وسعادة واعتزاز بك سيدي كلود ..وعجّت القاعة ثانية بالتصفيق وقُوبل مشروعي بملاحظة ممتاز جدا وبتهنئة خاصة من لجنة التحكيم …

في فرنسا تعلمت ايضا وبكل عمق ان المرأة كائن بشري كسائر الاخرين … في مجتمعاتنا العربية عموما هي للمخدع …متى اراد سي السيّد وعلى طريقة سي السيد وكيفما شاء سي السيّد … انذاك ايقنت سرّ تخلّفنا بل سرّ جهلنا لابسط قواعد الحياة معها ..نحن لا نعرف في جلنا المراة الا كأم اذا عرفناها هي ايضا… فلا الاخت لها مكانتها ولا الزوجة لها مكانتها ولا الصديقة ولا الزميلة وهذه الاخيرة يقول عنها البعض (لو كان عطاها ربّي شدّت دارها واتلهات بصغارها) … لهؤلاء اقول: (لو كان عطاكم ربّي راكم قريتو شوية وتنوّرتو وعرفتو ماذا فعلت المرأة في حياة الرسول الاكرم)…

في فرنسا ايقنت انّي كنت قبل لا اختلف كثيرا عن الحيوان في تعاملي مع المرأة .. في فرنسا …نعم في فرنسا …وانا ابن القرآن الذي تعلّم انّ آدم خلق له الله حواء لتكون سكنا له لا لتكون مخلوقة ذليلة درجة رابعة … محرومة من جل حقوقها ككائن بشري ليس فيها من البشر الا الاسم واحيانا يجرؤ البعض على تسميتها باسم الحيوان… وهذا موجود في بعض جهاتنا بتونس نعم والله موجود ..الم يقل محمد عبده ذهبت للغرب فوجدت اسلاما ولم اجد مسلمين ولمّا عدت للشرق وجدت مسلمين ولكن لم اجد اسلاما …؟؟؟

في فرنسا كذلك ايقنت اني على صواب عندما قررت ومنذ بداية وعيي بالاشياء ان لا اشرب ابدا الخمر …انا لم اذق الخمر يوما … ولكن وبباريس كنت وفي غياب الواعز الديني تماما انذاك اقوم اسبوعيا باعداد طاولة ابي نواس لكافة اصدقائي لسهرة نهاية الاسبوع… اعرف متطلبّات كل واحد منهم من مشروبات مُسكرة ومن _ (عدوها) اي ما يرافقها من مأكولات …كنت اعشق جدا تلك الاجواء وكان بداخلي رغبة جامحة لسبر اغوار السكارى لا لمعرفة اسرارهم ابدا بل لمعرفة حقيقة شخصياتهم… اذ انهم انذاك يتعرّون تماما ويصبحون في منتهى العفوية والبساطة …دون قناع ..يخرجون من كهوف الزيف الى صدق المشاعر والمواقف ..اتذكّر يوما كنّا اقمنا حفلا على شرف قدوم مجموعة من الطالبات الجزائريّات اللاّتي اتين لتدريب خاطف بالمعهد لمدة شهر ..ذلك الحفل حضرت فيه دون شك ولائم ابي نواس وانتحى كل واحد منّا مع صديقة جزائرية لم تمر على صحبتها بضعة ايام ليشكوا لبعض نوستالجيا البلدين… ولكن باسلوب عمر ابن ربيعة لا مكان للحب العذري فيه ..حيث يجد الطرفان تحقيق مآرب قد لا ترى النور ابدا في وهران او عنابة (حتى هي باريس يا سي)…

انتهى الحفل وذهب كل فارس الى فراشه بعد انتهاء الغزوة وما كدتُ امد جسدي في سريري حتى سمعتُ طرقا على الباب …نهضت وفتحت… فاذا به العربي ..”العربي” هذا طالب جزائري درجة ثانية بالمعهد تجمعني به صداقة حميمة جدا ..نظرت في وجهه فاذا به ليس العربي …وجه مكفهرّ تعلوه مسحة غضب رهيبة ..صامت … جامد كجلمود صخر …نظرت اليه وسألت: “لاباس عليك خويا العربي اشبيك ؟؟؟”… لم يُعر لسؤالي ايّة اهمية وواصل صمته ..اعدت النظر اليه وقلت: ” ادخل اشنوة ماشي تقعد واقف كي المسمار قُدّام الباب؟ ..البيت بيتك” … انذاك ارتمي في احضاني وهو المزطول خمرا وطفق في بكاء كالاطفال ..ادخلته واجلسته على سريري وقلت له خوذ راحتك ..ووقت ما تحب تحكي نسمعك …ابتعدت عنه قليلا لالمح سكّينا سقط منه بجانب السرير ..حملته بكل دهشة ..تاملته ..واشرتُ للعربي …هذا متاعك ؟؟؟ لم يجب وزاد بكاؤه …لم افهم البتة الامر …وانتظرته يُنهي مواويل البكاء …مسح عينيه ومسح انفه ونظر اليّ مليّا ثم انزل وجهه الى الارض وبكل خجل قال: “تعرف يلخو احنا الجزائريين دمّنا يفوّر فوران …اليوم شفتك وانت معنكش في بنت بلادي ما حملتش ..الله غالب احنا شعراويين وجيت توة باش ندغرك بهاكي الموس ..ما نجمتش وقت غزرت لعينيك .السكرة تعمل يا كريم …يرحم والديك سامحني راك موش صاحبي انت …انت خويا راك” …وعاد لبكائه الشديد …طبطبت على كتفه وقلت:”ولا يهمّك ياالعربي …هاكة الشراب موش انت ولا يهمّك ..انت خويا آمس واليوم وغدوة ..انا عندي اثنين منّك ؟؟” …

هذه الحادثة علّمتني ان الخمرة قد تصل بي الى مثل تلك المواقف خاصّة وانا من الذين ان هُم عشقوا يعشقون بعمق ..انا لست من الذين يسيرون على شواطئ العشق انا اعشق الغرق في بحوره …ما العشق ان لم يكن جنونا لا يعترف بالنمطية … هكذا عشت حياتي مع العشق ..عشق الفن.. عشق المصدح ..عشق السي اس اس… عشق الجمال …عشق الانسان …لذلك كنت اخاف من الخطوة الاولى في دروب الخمر ولعلّ اهمّ تجربة عشتها في حياتي اكّدت اني كنت على حق عندما لم اقم بمعاشرة ابنة العنب حفظكم الله هي تلك التي عشتها ذات يوم بامستردام بهولاندا …

اوووووووووووووووووووووووف تجربة رهيبة جدا …ولأني اخاف عليكم من الرهبة سارويها لكم في الورقة القادمة ان كُتب لي ذلك… خاتمة بليدة تقولون؟؟؟ … فرصة لكم كي تكتشفوا عيبا آخر من عيوبي ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

نحن زرعنا الشوك (8)

نشرت

في

عبد القادر المقري:

وبعد، ودون الإكثار من تفاصيل المرحلة البالغة السوء التي تحدثنا عنها والتي هددت جدّيا كيان الدولة والمجتمع، هل نحن أمام جرم بلا مسؤولية أو مسؤولين؟

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

جميع التحاليل التي صدرت سواء عن الفاعلين في تلك المرحلة أو مناوئيهم، كانت تقول بجلاء إن هؤلاء لم يأتونا من كوكب آخر… صحيح هم جاؤونا بوجوه وسياسات لا تشبهنا أو لم نتعود عليها، ولكنهم في معظمهم وُلدوا بيننا، وتلقوا تعليمهم في مدارسنا، ووجدوا في أرضنا حقولا خصبة لإنبات زرعهم المتوحش … لذلك كان خطرهم أفدح بكثير من خطر الاستعمار كجسم خارجي لم يفلح في اختراق وجداننا ورمي جذوره في تربتنا ولو كان في تلك الجذور بضع بذور لحضارة عصر … لقد لفظ أجدادنا الدخيل الفرنسي بقضّه وقضيضه، ولم يأخذوا منه حتى ما أخذه منه العالم من فنون الذوق واللياقة والأدب الرفيع وأولوية الجمال… لكنهم مع غزاة 2011، وجدوا أنفسهم كالسمكة في بحرها، أو على الأصح كالبحر الذي استعاد أسماكه… فأيّ بحر ينجب ويؤوي ويغذّي مثل هذه الكائنات؟

بيئتنا شرّيرة متجمّدة في شرّها وإن تحركت يوما ففي اتجاه الوراء، وما أكثر خطوط سيرنا إلى الوراء… بدءا من الأسرة التي لم تتطور المفاهيم فيها… رغم القشرة الخارجية التي يشهرها النظام السياسي على الدوام تحت عنوان مجلة الأحوال الشخصية… نص قانوني يقال إنه الأكثر تقدمية في جنوب المتوسط وعلى ضفافه الشرقية وصولا إلى المحيط الهندي وبحر الصين … أي في كافة الربوع التي تحتوي مآذن ترفع الشهادتين خمس مرات في اليوم … طيب … ولكن ما لفت الانتباه أنه ذات تسعينات وفي خضمّ تكوين نظام نوفمبر لمفردات خاصة به، وقعت إضافات “تحديثية” لتلك المجلة التي كنا نخال أنها لا تحتاج إلى تحديث… وهذا يعني اعترافا ضمنيا بأننا قبل ذلك ولعقود كنا نعيش مع فصول متخلفة لمجلة كانت تزعم التقدمية … فضلا عما كشفته عدة بحوث نقدية قامت بها جمعية النساء الديمقراطيات، أو صدرت عن بعض الوجوه النسوية، أو ذهب بها حمة الهمامي أبعد من ذلك في كتابه عن المرأة التونسية … كما أن “بطل” مجلة الأحوال الشخصية ذاته (أي بورقيبة) لم يعط القدوة في احترام تلك المجلة حين تعلق الأمر بنفسه وزواجه وطلاقه وحقوق المرأة في بيته…

طبعا ستثور آلاف الرؤوس وتحمى وتزمجر وتطلق عليك أقذع السباب لو ذاع عليها مثل هذا الكلام… وهذا في حد ذاته تأكيد لما نقوله لا نفي له… ففضلا عن ملابسات “تطليق” السيدة وسيلة وقبلها السيدة مفيدة (ماتيلد لوران) وهي حقائق شائعة لا حاجة لها إلى بيان أكثر… فضلا عن ذلك، فإن الحمية في تقديس شخص كان بمثابة رب الأسرة التونسية، دليل على أننا لم نخرج عن علاقات الإقطاع التي سادت في القرون الخوالي… ودليل أيضا على أننا سواء في أسرتنا الكبرى (الوطن) أو أسرنا الصغيرة، ما زلنا نعمل بمعايير الإمامة والمشيخة وولاية الفقيه … وأن الجمهورية عندنا كانت وما تزال اسما بلا مسمى …

ثاني خطوط السير إلى الخلف: الشارع… طوال طفولتنا وما بعدها، وفي زمن الجمهورية والمجلة دائما نتحدث، كانت مقاييس تقويم الأشخاص سواء مدحا أو ذمّا، تتم بحسب الجنس (رجل، امرأة) أو الوسط الجغرافي (مدينة، ريف) أو السلالة أو المعتقد أو الثروة أو القوة البدنية … ولم تحتل قيم أخرى كالعمل والكفاءة العلمية والسلوك المتحضر مكانها إلا بقدر ارتباطها بالمقاييس السابقة… ويكفي هنا أن نعود إلى معايير اختيار المسؤولين في الستينات والسبعينات حتى نعرف أن ذلك لم ينشز عن سلم الاختيار المعتمد زمن الخلافة الأموية أو العباسية أو الدولة العثمانية… يعني أننا لم نندمج في الزمن المعاصر وثوراته الكبرى مهما ادعينا…

البيئة الثالثة هي المدرسة… وقد قرأنا سيولا وفيضانات عن مجانية التمدرس وتعميم التعليم والمنح الجامعية والوجبات الخيرية وتوزيع الشطائر بين الوجبات إلخ… وتم إدراج ذلك كالبرنامج الانتخابي الأبدي الذي لازم سلطتنا السياسية وميزان حسناتها… جيد، جيد جدا… ولكننا لم ننتبه مرة واحدة إلى أن ذلك من واجبات أية حكومة توضع في يدها أموال المجموعة الوطنية ويتم تكليفها بخدمة الشأن العام… ولم ننتبه إلى أنه لم يُشكر أحد على هذا في بلدان الشمال رغم أن في حكوماتها ما أخرج بلادا بكاملها من دمار شامل إلى ازدهار شامل وحقيقي… كما حصل في الدول التي خسرت الحرب العالمية الثانية، وحتى معظم التي انتصرت فيها … لم تؤلّف مدحيات في المستشار أديناور، ولا عكاظيات في وينستون تشرشل، ولا معلقات في الجنرال ديغول… أما نحن…

نأتي الآن إلى محتوى مدارسنا وما كانت تقدمه من برامج… مع تقديري الأكيد لمعلّمينا وأساتذتنا وما بذلوه من جهد بطولي، وخاصة في الأرياف، فإن ثغرات خطيرة تبدّت في نظامنا التعليمي منذ تلك الفترة… للعلم فقد تناول المختصون الأجلاّء هذه النقائص على مدى السنوات ولن نكون بأفصح منهم ولا أعلم… ولكن نقتصر على بعض الإشارات… مادة التاريخ مثلا كانت منقسمة كالتالي: 30 بالمائة لتاريخ تونس القديم حيث يقع التنصيص على أن كل الحضارات دخيلة علينا، وعلى أن ماضينا كله استعمار وهزائم (يعني لا علاقة لك أيها التلميذ لا بأمجاد قرطاج ولا الدولة الأغلبية التي احتلت لقرون مالطة وجنوب إيطاليا وجزرها، ولا الدولة الفاطمية التي تأسست هنا ومن هنا انتشرت، و لا بابن خلدون، ولا بأروى القيروانية، ولا بفاطمة الفهرية، ولا، ولا…) و70 بالمائة عن “الحركة الوطنية” وهي عبارة عن مسح بيوغرافي لحياة الزعيم من يوم ولادته في حومة الطرابلسية إلى عودته المظفرة يوم غرة جوان وما تلاها من خير عميم، وبينهما سجون ومقيمون عامون حفظنا أسماءهم وأسماءها وتواريخهم وتواريخها عن ظهر قلب…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار