أعتقد جازما أن كُلفة جميع الندوات والملتقيات واللقاءات والمؤتمرات والفعاليات والموائد المستديرة والورشات والمسامرات والمحاضرات والبحوث والدراسات التي كانت يافطتتها الرئيسية “إصلاح المنظومة التربوية التونسية”… والتي دفعناها من اللحمة الحيّة على امتداد عقود كانت تكفي وحدها لتشييد المخابر وبناء القاعات وانتداب المختصّين في المجالات المختلفة والارتقاء بمستوى الرفاه البيداغوجي وأداء مدرستنا عموما.
ولكن الإفراط في التنظير حول الفكرة يقتل الفكرة ويُدميها أحيانا.
هذا لا يعني بطبيعة الحال أن التأصيل النظري والتفصيل المفاهيمي والتحديد الفلسفي واستدعاء المقاربات … لا قيمة له خاصة عندما يتعلق الأمر ببناء البرامج وتحديد المرجعيات … وإنما هناك جملة من مواطن الخلل والإنهاك المُتّفق حول تشخيصها وكذلك بالنسبة إلى المعالجات الكفيلة بتجاوزها ودكّ أركانها. مع التأكيد على أن عددا كبيرا من الحلول لا يتطلب أكثر من بعض القدرة على “مغادرة مُربّعات التخطيط البيروقراطي” والقطع مع “عقلية المْساسية الدولية والبحث عن الاعتمادات اللازمة لتمويل المشاريع الغائمة، من قبيل “إرساء الجودة” و “دعم اللامركزية” و “اعتماد المنهاج” … إلى غير ذلك من عناوين البرْكة (بدون إشباع حرف الباء) وقلّة الحرْكة.
وهذه عيّنة تلقائية من الإجراءات الفورية المقدور عليها تماما والتي من شأنها أن تعطي نتائج ميدانية مؤكدة في ظرف زمني وجيز :
وحدات للطاقة الشمسيّة بكل المؤسسات التربوية (حوالي 6000 مؤسسة في الابتدائي والإعدادي والثانوي)
يؤكد غيوم فوند الطبيب النفساني الفرنسي المعروف أنه “أصبح من الثابت لدينا علميا أن الحالات المناخية القصوى حرّا وبردا تؤثّر على الحالة الذهنية العامة للفرد وتقوّي من منسوب العدوانية والاندفاعية لديه”. بما يعني أن المناخات الدراسية في ربوعنا والحالة الذهنية لدى أطفالنا تتأثر بشكل مباشر بالبرد الضّاري شتاءً والحرّ الشديد ربيعا وصيفا.
إن تدفئة قاعات دروسنا خاصة في المناطق الجبليّة وتكييفها خاصة في جهات الوسط والجنوب يُمكّن ـ علاوة على تليين الطباع وإتاحة مناخ يطيب فيه التعلم والتعليم ـ من ربح وقت ثمين أقدّره شخصيا بشهر دراسي إضافي على الأقل أو أكثر لأن تلاميذنا عادة ما يغادرون مدارسهم أو معاهدهم منذ نهاية شهر أفريل لضُعف دافعيّتهم نعم ولكن أيضا بسبب الظروف القاسية داخل قاعات مكتظة تتقلص فيها كميات الأوكسيجين بشكل يُعيق المتعلم في تحفّزه والمعلّم في قدرته على الرّكض وراء استكمال البرنامج وإعداد جمهوره لخوض غمار الاستحقاقات الدراسية اللاحقة.
هناك حسب تقديري ثلاثة اعتبارات أساسية تُشجّع على تحقيق هذه القفزة الشمسية الواعدة :
أولا : تحت تأثير الضغوط الفعالة التي يمارسها المجتمع المدني الدولي على أصحاب القرار السياسي والانهيارات المناخية الكبرى التي يشهدها العالم اليوم، تطورت خلال السنوات الأخيرة وبشكل لافت التكنولوجيا المستخدمة في إنتاج الطاقات البديلة، وجامعتنا التونسية ليست ببعيدة عن هذه الهندسة الحديثة، فلنا مراكز ومخابر بحث ومؤسسات جامعية متخصصة في تكنولوجيات البيئة التي أصبحت لها تجربة بفضل خبرة مدرّسيها وباحثيها، يمكن أن تساهم بشكل فعال في تخريج الكفاءات والتقنيين والفنيين ـ تصورا وتصنيعا وتركيبا وتعهدا ـ بالشكل الذي يعفينا من اللجوء إلى استقدام كفاءات أجنبية… بل ويمكن أن يجعل من تونس مصدّرا كبيرا في المجال أمام حاجة الغرب الكبيرة إلى الطاقة والاستفادة من 300 يوم مشمس في السنة بالنظر إلى الموقع الجغرافي للبلاد التونسية.
ثانيا : وجود عديد الأطراف الأوروبية التي يمكن أن نبني معها شراكات حقيقيّة عادلة يتمّ بموجبها تكفّل الطرف الأجنبي بتوفير الألواح والمعدّات المختلفة وتتكفّل بلادنا بتوفير الخبرات واليد العاملة وتزويد البلد الشريك بالطاقة مجانا لمدّة تُضبط في ضوء تقدير حجم المساهمة لكل طرف.
ثالثا : إمكانية توظيف هذه الفضاءات المكيّفة مجانا خلال فصل الصيف لاحتضان أطفال وشباب متروكين لحالهم لمدة طويلة تزيد عن ثلاثة، اشهر دون المشاركة في أي نشاط ذي علاقة بالمعرفة والعلم والذّهن عموما … بما يجعلهم مهدّدين جديّا بالانحدار إلى الأميّة. كأن تحتضن هذه الفضاءات أنشطة حرّة ومسلّية ومُضيفة في المسرح والفنون والتعبير والتواصل والتدريب على وسائل الإعلام والمطالعة والثقافة العامة وورشات للكتابة والرسم والسيراميك وصنع الأكسسوارات والغناء الجماعي…. وغيرها من الأنشطة الدّاعمة لتكوين الأطفال والترفيه عليهم في آن.
ويظل الحلم التربوي قائما بأن نسمع يوما خبرا رئيسيا في نشرة الثامنة مساءً مفاده أن وزارة التربية تُعلن انطلاق أشغال تجهيز جميع المؤسسات التربوية التونسية بالطاقة الشمسية وذلك على امتداد ثلاث سنوات !!! وسيتمّ الانطلاق من مدرسة أولاد بركة بفوسانة بالقصرين والمدرسة الابتدائية “المناخ” بفرنانة من ولاية جندوبة.
هذا واحد من الإجراءات غير المُكلفة التي من الممكن جدا أن تنفّذها وزارة التربية ويكون لها انعكاس مؤكّد على الاحتباس البيداغوجي في مدارسنا العمومية المتهرّمة.
لكنّه إجراء قابل لأن يتمّ استبداله بإجراءات كثيرة أخرى في نفس مستوى الكُلفة الزهيدة ونفس القيمة البيداغوجية المُضافة وضمان عدم اعتراض أيّ كان (من أصحاب العقول السويّة على الأقل) عليها باعتبار جدواها الثابتة وفاعليّتها المؤكّدة. ولِم لا وضع تصوّر لحِزمة متكاملة من الإجراءات الفورية المتزامنة التي تنهض بمدرستنا وتجعل منها فضاءات حاضنة ووِجهات فاتنة تُقبل عليها الناشئة في غِبطة وتهلّل وابتهاج… مثل :
بعث قاعات متعددة الاختصاصات في كل المؤسسات التربوية يتمّ اللجوء إليها لتنظيم كل الأنشطة الموازية وتتحوّل حينا إلى قاعة للمراجعة حتى لا يظل تلميذ واحد خارج أسوار المدرسة، وحينا آخر إلى مخابر صغيرة في الإعلامية وتطبيقاتها والملتميديا والروبوتيك والإلكترونيك (يُذكر في هذا الخصوص أن تجربة “ضع اليد في العجين” التي أسّسها جورج شارباك صاحب جائزة نوبل للفيزياء في 1992 المتمثلة في تشريك طلبة الأقسام العلمية والهندسية الجامعية في تحسيس الأطفال واليافعين بأهمية العلوم ودفعهم للانخراط فيها ومعايشة إشكاليات العلوم والتجريب والبحث العلمي… كانت تجربة ناجحة جدا إذ شارك فيها سنة 2013 ما لا يقلّ عن 18 من كبريات مدارس المهندسين و1300 طالب و30 جامعة لفائدة 1200 قسم من الابتدائي…في نوع من التدريب العلمي المبسّط).
أو
بعث دار ضيافة بمواصفات سياحية دنيا في كل ولاية تستقبل المتطوّعين من بين آلاف الكفاءات التونسية في المخابر والجامعات العالمية في المهجر، في عشرات اختصاصات العلوم التكنولوجية والعلوم الانسانية لتقديم محاضرات وتنشيط ورشات وتقاسم تجاربهم وبثّ روح المبادرة والبحث والتحصيل …. وهم لا يطلبون في العادة أكثر من تأمين نقلهم وإقامتهم وإعاشتهم في ظروف لائقة… لكونهم يعودون بشكل طبيعي ومنتظم إلى عائلاتهم عديد المرات في السنة ويكفي برمجة تدخلاتهم خلال فترة كافية قبل مجيئهم.
أو
إقرار جوائز تحفيزية حقيقية لفائدة الأساتذة والمتفقدين في المواد التي بات من المؤكد أنها هي التي تُعيق تقدّم عدد كبير من التلاميذ في السلم الدراسي وهي بصورة أساسية الرياضيات واللغات، في الجهات التي تحقّق نتائج أدنى من المعدّل الوطني للنجاح في الباكالوريا …وذلك كلّما وُضعت برامج وخطط ميدانية تؤدّي إلى تحسّن فعلي في النتائج…في سياق خطّة وطنية جديّة توضع للغرض.
…وسيظلّ الحلم قائما مهما ادلهمّ ظلامنا ولم نعد نرى أملا.