ظننت يوما ومازلت أظن أن خير طريقة لكي يعالج المدرّس أداءه ويُجوّده هي أن يعود إلى نفسه طفلا وتلميذا بالذات، ليقيّم ما كان يُبهره في سلوك أستاذه وما كان يشدّه في علاقة معلمه به والوقوف خاصة على ما كان يحبّذه فلا يجده وما كان يكسره كسرا في سلوكات المربّين… ليكون مدرّس اليوم أفضل من بعض مدرّسي الأمس عطاءً وتواصلا وقدرة على المرافقة ومنهجا في التدريس. عشتُ شخصيا لحظات حاسمة في طفولتي المدرسية بحلوها ومرّها، هذا بعض منها :
أولا، دُبّ سي علي جدّي :
كان عمري لا يتجاوز الخمس سنوات عندما وطئت قدماي عالم الطباشير الملوّن والحبر البنفسجي الصبّة والصلصال والأعواد … وهذا الدخول المبكّر إلى المدرسة كان له مبرّر وحيد يتمثل في ضمان الترافق بيني وبين أخي الأكبر الذي كان يتجاوزني سنّا بعام أو عام ونصف يوفر لي حماية ونتساعد على مواجهة الكلاب العربية ذات النّباح العشوائي والذئاب الشاردة.
لم يكن يستهويني لعب الكجّة والخذروف أكثر من تعلّم بعض الحساب وتعريق الحروف.
كان معلّمنا الأنيق والطيب سي علي جدّي، جادّا ومُجديا في تدريسه وحريصا على تحفيزنا بشتى الطرق لنتعلّم ونتجاوز فقر مكتسباتنا القبْليّة، لا أذكر شيئا كبيرا من تلك السنة الابتدائية الأولى سوى بعض الصّور الصادمة مثل “هذا قرد راكب” و “هذا قرد قاعد” و “هذا جمل بارك” ( ولا أفهم إلى حدّ الآن حقيقة ما وراء هذه الكثافة في معاني القعود والبروك والركوب بدلا من معاني القفز والطيران والتحليق)… وأذكر خاصة أنه صادف أنني أجبت بطريقة صحيحة على سؤال ألقاه علينا سي علي فما كان منه إلا أن أهداني صورة دبّ قطبي على ورق مقوّى صغير. غمرتني فرحة لا توصف بتلك الصورة الجائزة … ورُحت أريها إلى كل أفراد عائلتي دليلا على إحراز نجاح نوعي غير مسبوق، بالرغم من أنني لم أكن متمثلا لهذا الحيوان الغريب الذي ليس هو بالكلب أو الخنزير أو الخروف لكنه يبدو وديعا ولطيفا رغم كبر حجمه. ومن يومها أصبحت أُقبل على دروس سي علي جدّي وكلّي أمل في نيل تتويجات أخرى.
الدّرس المستخلص: كان سي علي جدّي يمثل جيل معلّمين من عهد آخر متشبّعين فطريّا بنظريات آلان ليوري وفابيان فينويي في “الدافعيّة والنجاح المدرسي” (عنوان كتاب صدر بباريس سنة 1997)، ومن ناحية أخرى، كلمات بسيطة من قبيل “أحسنت” و “برافو” و “ممتاز” و “حقيقة…شكرا” الخ… لا تكلّف المدرّسين شيئا لكنها قادرة على توليد دافعيّة محرّكة للسّواكن وحافرة في المكامن.
ثانيا، الأستاذ الأصفر (إستعرت له هذا الإسم للنّأي به عن مربّع التشهير) :
كان ذلك في السنة السابعة أساسي (الأولى ثانوي نظام قديم)، وكنا ندرس الرياضيات التي أذكر أنها لم تلنْ لي منذ الوهلة الأولى لكن في ذات الوقت لم تكن نيرونات دماغي الصغير رافضة تماما لطلاسم هذه المادّة الصلبة. .. وكان سي لصفر نحيف القامة عبوسا ضروسا غير سعيد في حياته بالمرة على ما يبدو، لا يبتسم أبدا لأنه (ربما) كان يعتبر الرياضيات اختصاصا حربيا أو صنفا من أصناف الرياضات القتالية. بحث عن متطوع أو متطوعة لفك رموز تمرين حسابي على السبورة … لم يتطوع أحد … فأصدر قرار تسخير صعدتُ بموجبه إلى المصطبة التي بدت لي يمثابة المقصلة في تلك اللحظة، تظاهرت بمحاولة فك ألغاز التمرين ولمّا تأكّد أنني كنت بصدد إضاعة الوقت وتأجيل عملية القصاص أكثر ما يمكن، افتكّ مني قطعة الطباشير وطلب مني أن أقف في متناول يديه الحديديّتين وناولني صفعة قوية ألقتني أرضا في مشهد أقرب إلى ساحات المواجهة مع جيش تساهال الصهيوني منه إلى مربعات التربية والتعليم … أعتقد الآن بعد حوالي نصف قرن، أن ما ساءني ليس وجع الصفعة في حد ذاتها لأنه عابر بل وجع إهانة السقوط أرضا وكون “العقوبة” كانت غير متناسبة مع طبيعة الخطأ الذي لم يكن ناجما عن تقصير متعمّد أو سوء سلوك …
منذ تلك اللحظة، كرهت سي لصفر وكرهت الرياضيات واستسلمت إلى ملاحظات nul en mathématiques وما جاورها.
الدّرس المستخلص :“كفّ أمّك يقوّيك آما كفّ البرّاني يقتلك ويِفْنيك”. إضافة إلى أن نزعة التعويم القطاعي المقصود في شعارات “كاد المعلم أن يكون رسولا” وأن “المعلم شعلة قدسية تضيء العقول” لا يمكن إلا أن تؤبّد سلوكات منحرفة تدمّر أجيالا وتقصف أطفالا.
ثالثا، كيف تفعل لتكون الأوّل دائما ؟
في التاسعة أساسي (الثالثة ثانوي نظام قديم)، كانت تربطني صداقة ما بالتلميذ صاحب النتائج الأولى في قسمنا (لقبه الورغي) لكن لم أكن أجلس بجانبه. أتذكر ذات يوم بينما كنا ننتظر قدوم الأستاذ وكان المقعد إلى جانب الورغي شاغرا، انتهزت الفرصة لأجالسه قليلا وألقي عليه السؤال التالي (الذي كان يخامرني منذ مدة طويلة لكنني لم أجرؤ على مباشرته في الموضوع) : “صباح الخير، بالله عليك، قل لي كيف تفعل وكيف تراجع دروسك وماذا تصنع لتكون دائما الأول في الامتحانات ؟” . لا أذكر مفردات إجابته بالضبط، ولكن أن متأكد الآن أن إجابته كانت عائمة وغائمة وغير دقيقة، من قبيل “أراجع دائما” أو ” ليس أكثر من المراجعة المنتظمة”… لم يقنعني ولكني تظاهرت بالاقتناع.. هو نفسه لم يكن يملك إجابة أو وصفة سحرية للنجاح لأن الاشتغال على الذات صعب ولأن ما طلبته منه تعجز عن تفقّهه حتى ما يسمى بالعلوم العصبية المعرفية اليوم.
الدّرس المستخلص : دور المدرّسين هو هذا بالضبط، مساعدة الأطفال والشبان على تعليمهم كيف يتعلمون وجعلهم يُدركون كيف ينجحون. إلى جانب أنه بإمكانك أن تكون مسكونا بإرادة حقيقية في النجاح لكن تعوزك المفاتيح. تحاول معالجة جميع الأقفال الموصدة، تُطلّ من كوّة الباب لعلّ وراء الباب إرادة نيّرة تأخذ بيدك نحو الدروب المضيئة.
رابعا، السّابعة خاصة (الرابعة ثانوي نظام حالي) :
تابعت تعليما ثانويا قصيرا في شعبة “تقنيات اقتصادية للإدارة” TEA الذي يتوّج بشهادة التقني في نهاية السنة السادسة ثانوي (نظام قديم). كانت شعبة دراسية يأوي إليها “طالبو اللجوء المدرسي” كما شعبة الاقتصاد والتصرف في نظامنا التربوي الحالي، لكنها كانت شعبة جامعة درسنا فيها مبادئ الاقتصاد والحقوق واللغات الثلاث وبعض المواد التقنية في علاقة بالشؤون الإدارية مثل الاختزال والرقن وتقنيات التحرير الكتابي… وكانت شعبة غير موصدة الآفاق تماما حيث يُمكّن التلميذ الذي أحرز أفضل النتائج في امتحان الديبلوم من كل ولاية أن يتابع دراسته بالـ”سنة السابعة خاصة” بالعاصمة بمعهد العمران آنذاك (معهد الفنون بالعمران حاليا). وأقرّ أنني إلى حد الآن لم أفهم كيف تمكّنتُ من التفوق بذلك الشكل في جمهرة غير قليلة من اللاجئين، وخاصة كيف لم يتمّ التلاعب بالنتائج ليُسند ذلك الامتياز الثمين إلى تلميذ آخر من أبناء أصحاب السلطة والجاه في زمن لا شفافية فيه ولا مساءلة أو مكاشفة !
الدّرس المستخلص :
يمكن أن يكون التلميذ متوسط النتائج في مراحل معينة من مسيرته الدراسية، ولكن يكفي أن يشتعل فتيل الرغبة والدافعية على نحو ما لتنطلق كل المحركات في الاشتغال بكل إمكانياتها وبلوغ السرعات المطلوبة… مع ضرورة توفّر قدرة ذاتية على “التجنّد” بمعنى أن يكون التلميذ “جنديّا” ينتعل جزمته الحربية كل صباح ويلبس بذلته العسكرية استعدادا لخوض معركته المقدّسة ضدّ ظلمة الكوابح والموانع والحتميّات.
الرياضيّات مادّة دكتاتورية تقصم ظهر أجيال مدرسية بكاملها، والمشكل في اعتقادي ليس في طبيعة المادة في حدّ ذاتها بل في طريقة تدريسها وقيام أمثال سي لصفر على حظوظ تمكّن التلاميذ من ناصيتها.
من الحلول الممكنة التي يستطيع من خلالها نظامنا التربوي تدارك بعض معضلاته: تنويع المسالك الدراسية أمام طالبيها وفتح معابر مرنة وثابتة ودائمة لعودة مَن ضَل الطريق في الشعب الطويلة نحو شعب أقل طموحا (لكنها ذات قدرة تمهينيّة قويّة) وعودة من تميّز في شعب “المتوسّطين” إلى التّحليق مجدّدا بأجنحة اشتدّ عودها في الأثناء.