جور نار

التونسي والسيارة

نشرت

في

“البدوى حرفته الأولى كانت الرعى ثم تطورت للتجارة أو الإغارة، مهن لا تتطلب منطقا وفكرا بقدر ما تتطلب مهارة أداء، لذلك فهو يحفظ لا يدرس، يتعلم بالتقليد والمحاكاة والتكرار، يستخدم سلاحه ويده قبل عقله ولسانه.. البدوى ثقافته سمعية يتلو أقوال وأشعار الغير ولا يعترف بمنطق أو فلسفة، ومن الصعب عليه أن يبتكر أو يسلك طريقا بعيدا عمّا درج عليه والده.”

محمد حسين يونس “التكنولوجيا والعقل البدوي” موقع الحوار المتمدّن

<strong>منصف الخميري<strong>

أنا على ما يُشبه اليقين أن التونسي لم يغادر بدويّته تماما في قيادته لسيّارته ونسج وشائج وجدانية معها والتعامل مع باقي مستعملي الطريق العام، وهو لم يقتحم عالم الميكانيك من باب السيطرة على ناصية العلوم وترويض التكنولوجيا وتوظيف المعرفة العلمية الدقيقة لصنع السيارة وما شابهها بل هو الذي اقتحم عليه عالمه البِكر المحكوم بخليط من السّكينة الأزليّة وانعدام السرعة والقدريّة والتبرّك والتعاويذ والأدعية… والعلاقة الحميمية واللحمية المباشرة مع دوابّه وخرفانه، يلمسها في مواضع مختلفة ويتحسّس مواطن اكتنازها ويطوف بها فيما يُشبه التبرّك ويتأمّلها عن بُعد في إعجاب وانبساط.

رصيد اصطلاحي أقرب إلى عالم الزراعة والحيوان لا إلى عالم التكنولوجيا

السيارة لدينا لا تُثير حديثا مطوّلا بين الناس في علاقة بخاصيات الديازال والتيربو والديناميكية الهوائية والمحركات الهجينة والمحروقات الرّديفة والزيوت والسوائل الهيدروليكية ودورة التبريد في السيارة بل ننتشي بإطلاق تسميات من بيئتنا عليها في غير اهتمام مطلقا بعُصارة مسار طويل من الجهد والتفكير والتصميم والخطأ والتجريب ومُنتج آلاف المهندسين النوابغ في مجالاتهم، فهي الشّهبة والعترة والزرقة والدّرعة والغزالة ومقرّبة الأبعاد والتركتور الجدع (المُهرّب من ليبيا) والكميون لنڨر أو الأفطس… ولمّا يهمّ صاحب السيارة بالتحوّل إلى العاصمة يقول “غدوة كان عشنا نلفّتلها خشمها لتونس وباسم الله مرساها ومجراها” إضافة إلى  تعليق قرون البقر وذيول الأسماك وحدوة (حذاء) الحصان في الواجهات الأمامية للشاحنات وضرورة “إسالة الدمّ” بمعنى ذبح خروف أو اقتناء كمية محترمة من اللحوم للاحتفاء بقدوم هذا الكائن المُشتهى.

السيارة في مخيالنا العام لا تختلف كثيرا عن الدّابة ونتعامل معها كدابّة أكثر منها كوسيلة نقل تحكمها قوانين اشتغال دقيقة مبنيّة على تعريف الميكانيك منذ القِدم بكونه “فنّ صناعة الآلة“، فترانا نستعمل دوّاسة السرعة كما نستعمل المهماز لحفز الحصان على التقدم والجري ونستعمل الفرامل كما نستعمل اللّجام ونُميل الرأس يمينا أو شمالا عندما تبلغ السيارة سرعة ننبهر بها. بعض السوّاق في ربوعنا لا يقودون سياراتهم وفق “مقتضيات التعاطي مع الآلات المعقّدة غير المحكومة ذاتيا مثل السيارة والحاسوب والهاتف والطائرات التقليدية…” بل يعتبرون أنفسهم فرسانا أشاوس في حالة ركض وسباق (نقول في عاميّتنا نهار الكل الكرهبة يركض بيها ركيض ويبرطع بيها كالحصان)، وهم فرسان لا يُشقُّ لهم غُبار لسرعة عَدْوهم وخفة وطئهم. وقد وصل الأمر ببعض فلاحينا الأثرياء المستثمرين في غراسة التفّاح إلى تنظيم مسابقات في  “نطاح سيارات الديماكس” المصفّحة جيدا في واجهاتها الأمامية. وفي علاقة بهذا ربّما كانت سيارات الأجرة في الجماهيرية تُدعى “سيارات الرّكوبة العامة“.

هذا الصنف من السوّاق لا يراعي مقتضيات العلم والتكنولوجيا ولكن خاصة لا يراعي مقتضيات السّير في الفضاء العام الذي يتقاسمه مع سائر المستخدمين للطريق العام. والسلوك المواطني ينبني على جملة من القيم لم يتربّ عليها مثل الكياسة وإفساح المجال والتقيّد بالقواعد الصّارمة التي تواضعت عليها المجتمعات المدنيّة واللطف والتهذيب والاحترام ورِفعة الأخلاق والإسهام قدر الإمكان في تيسير الحركة لا في مزيد تعقيدها. على العكس من ذلك تماما، السائق المتأصّل في بداوته الحرون يركن سيارته كما تُركن البعير ولا يستعمل منبّهات تغيير اتجاه السير لأنه يستبطن أنه يركض في الخلاء المهجور، ولا يعتريه أي شعور بالحرج إن هو أغلق كل منافذ العبور ليتبادل أطراف الحديث العلفي مع صديق له قادم من الاتجاه المقابل أو لينزل بكامل كلكله بحثا عن خبز طازج قُبيل الآذان. وعادة ما ينزعج كثيرا من انزعاجك عندما تجرؤ على إدانة تصرفاته البكماء. أما البيئة فهو مصطلح غريب بالنسبة إليه، يتمثّل الباءة ربما لكنه لا يتورّع البتّة عن إلقاء فضلاته وأعقاب سجائره على حافة الطريق متسببا في مزيد ازدهار التلوث وحرائق حقول الحبوب صيفا.

تعوّدنا في تونس منذ الطفرة الأفغانية التي دعّمناها تونسيا وجزائريا بكل ما أوتينا من تعطش تاريخي لإراقة دماء الآخرين على مشاهد تشبه إلى حدّ كبير ما نراه في شوارع كابول وكاراتشي ولاهور والبنجاب وكشمير حيث تتداخل العربات في بعضها البعض ويختلط المارة وتشتبك الخيالات كأنها كومة من أسلاك معدنية يعسر تخليصها، وتتحوّل واجهات سيارات الأجرة وشاحنات النقل البعيد  إلى حيطان لتعليق الدازيباو . فهذا عائد بإذن الله، وذاك يتمنى لك ضعف ما تتمنّاه له، وآخرون يعلقون دعاء ركوب أو تحصين السيارة “سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مُقرنين، وإنا إلى ربّنا لمُنقلبون” . سُئل في هذا السياق شيخ خليجي عمّا إذا كان هناك دعاء خاص بشراء سيارة جديدة فأجابه “لم يرد نص ثابت أو واضح في شأن شراء سيارة جديدة ، وكل ما ورد فقط هو دعاء ركوب الدابة سواء كانت سيارة أو طائرة أو قطارا أو حيوانا”

السائق لدينا كذلك يُسيئُه التذكّر أن ألمانيّا أو أستراليّا غير مسلم وراء صنع “رُكوبته”، فيُسارع إلى استحضار مُسكّنات ومُهدّئات سريعة الفاعليّة ما دام تراثه يزدحم بكل المبررات الممكنة التي يجيب بها عن كل الانزياحات المُحزنة مثل “تسخير الآخرين لخدمتنا” و”أن أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس” الخ… 

السائق التونسي المغوار كذلك لا يتحمل أن تقع مجاوزته بصورة عامة وتكون الطامة الكبرى عندما تكون القائمة بالمجاوزة امرأة، يستشيط غضبا وينسى أن الطريق العام ليس مجالا لاستعراض الفحولة والبطولة… وكم من حادث مروري قاتل ذهبت ضحيته نساء لم يمارسن أكثر من حقّهنّ الطبيعي في السياقة والتوقّف والمجاوزة … وإضفاء مسحة جمالية تُليّن قليلا قتامة المشهد المروري في بلادنا.

وفي مجال مدى وجاهة قيادة المرأة للسيارة، اختلف علماء الأمة وفقهاؤها وأئمّتها وتشابكوا أحيانا، ذلك أنه حين نزول الوحي لم يكن ثمة سيارة، بل كانت الدواب كالإبل والخيل والبغال والحمير.. ولا نجد نصا يقول: “لايجوز للمرأة أن تقود شيئا من هذه الدواب”.. فإذا كان كذلك فالحكم إذن في الأصل هو الإباحة..

ألم نقل إن السيارة في ثقافتنا البعيدة هي مجرد دابّة من الدواب رزقها على الله وكسبها يستدعي كتابة “ما شاء الله”؟


انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version