لا بدّ من التوضيح منذ البداية أنّ تعبير “أساطير تربوية” أو “خرافات بيداغوجية” Légendes pédagogiques استعمله الفيلسوف الكندي نورمان بايّارجون الذي درّس طويلا بكلية علوم التربية بمونريال.
يقول بايارجون:“صنعتُ مفهوم الخُرافة البيداغوجية عندما استطعتُ – أنا الذي أُصدم دائما بهيمنة المعتقدات غير المؤسّسة في حقل التربية والتي تكون أحيانا غريبة ومدهشة- الربط بين هذه المعتقدات والأساطير الحضرية التي أصبحت مألوفة بكل تأكيد بالنسبة إلى الكثيرين منكم”.
ويقصد بايّارجون بهذا المفهوم تلك الحكايات التي يتداولها جميع الناس في الفضاء العام أو على مواقع التواصل الاجتماعي في الشأن المدرسي وتكون غير مؤسّسة على نتائج ثابتة لدراسات أو بحوث علمية وأكاديمية مشهود بصدقيّتها.
أما في السياق التونسي، فهنالك أيضا الكثير من المعتقدات التربوية الشائعة بين الناس ولكن بإخضاعها إلى شيء من العقلنة والتمحيص سرعان ما نكتشف إما خطأها أو على الأقل بروز الحاجة الملحّة إلى تنسيبها ومزيد إعمال النظر فيها.
وهذه بعضها :
أولا : المرونة والليونة في التعامل مع التلاميذ… تساعدان على نجاحهم
غالبا ما تُفهم المرونة في مدرستنا وخارجها على أنها مُرادف للتسامح المغلوط إزاء كل ما يأتيه التلميذ وضرورة امتناع المدرسة والمُدرّسين على التسبّب في خلق مناخ من الضغط النفسي الذي يؤثر سلبا على معنوياته ونتائجه. بينما الليونة المطلوبة في الوسط المدرسي هي عدم المسارعة إلى العقاب والسهر على القطع مع العقوبات الكاسرة وتفهّم أسباب التجاوزات المختلفة وخلق المناخات العلائقية الملائمة لبناء علاقات متوازنة. فالحزم مطلوب والانضباط في السلوك إزاء الآخرين وإزاء الدرس والمعرفة هو الذي يخلق تمليذا متوازنا ومتحضّرا ومنضبطا.
ففي المدارس الصينية على سبيل المثال “المعروفة بجديتها المفرطة” حسب أغلب التقارير الدولية، تأسس نظام صارم جدا لكن لم يمنع الأطفال (كما رأيناهم في الأشرطة الوثائقية التي تبثها التلفزات الأوروبية) من اللعب واللهو والابتسامة والفرح البيّن وهم يتوجّهون نحو أقسامهم. وهنا، ليس من حقّنا كتونسيين أن نتناسى بشيء من الكبرياء والمكابرة أن التلميذ التونسي مصنّف في المرتبة الأخيرة عالميا (بعد التلميذ الفرنسي) على مجموع 72 جنسية على مستوى الانضباط المدرسي والاستقامة في السلوك!!! فالمرونة لا تنفع مطلقا مع هذا الملمح الذي ساهم في صنعه منطق “فلذات أكبادنا” و “الطفل الملك” و “مشكلة ولدي أنّو حسّاس برشة”…
ثانيا : الأساتذة كَسَالى و”شايخين” بالعطل
ليس هناك أبلغ من الأرقام في تأكيد أو تفنيد مثل هذه “الخرافات التربوية” التي يتناقلها الناس جميعا. فالأرقام الدولية تقول ان الأستاذ يُقضّي حوالي 10 ساعات أسبوعيا في إعداد دروسه و 6 ساعات في إصلاح الفروض والتمارين والأعمال المختلفة و 3 ساعات في البحث عن الوثائق والمراجع لتدعيم دروسه… دون احتساب الـ 20 ساعة في المعدّل التي يُقضّيها الأستاذ داخل الفصل. أي تقريبا بمعدّل حجم العمل الموكول إلى العمال الزراعيين وأعوان المخابز وسوّاق القطارات…أي 40 ساعة وأكثر.
وعليه، لا يصُحّ القول مطلقا ان الأساتذة – في معظمهم- لا يبذلون جهدا كافيا في علاقة بواجباتهم المهنية خاصة إذا ما أضفنا معاناتهم اليومية إزاء 3 ضغوط كبرى : الإحساس بالعجز إزاء شريحة كبيرة من التلاميذ يفِدون عليه دون تملّك أدنى للمكتسبات الأساسية، والشعور بالغُبن أمام أجر يتدحرج كل يوم ليصبح أدنى من منحة المتشرّدين في أوروبا، وحصول القناعة بأن مركب المدرسة العمومية يغرق أمام أعين دولة أصابها الإعياء والصّمم والعمى.
ثالثا : العلم في الرّاسْ وليس في الكرّاسْ
أطفالنا بصورة عامة لا يعتنون بخطّهم ولا يولون أهمية كبرى لكرّاساتهم التي يمزّقونها إربا إربا في نهاية كل سنة دراسية (ملاحظة: أنا على استعداد اليوم لدفع أي مبلغ لو أُمكّن من إحدى كرّاساتي وأنا طفل صغير)… وظاهرة تقطيع الكراسات أمام المؤسسات التربوية قد تقترن بذلك الشعار البائس الذي يقول ان العلم ليس في الكراس بل في رؤوس بعضهم الفارغة التي تعشّش فيها الأساطير وتخاريف صُنّاع المقولات الخاوية. فكنوز العلم وجواهر المعرفة ودُرر الثقافة مُخبّأة بعناية طيّ الكتب التي ألّفها السّابقون والمراجع التي يكدّ من أجلها المعاصرون. المشكل في رأيي لا يكمن في المرور من الورقي إلى الرقمي لكونها في النهاية مسألة محامل لا غير ولكن المشكل الأكبر يكمن في المرور من الأثر المكتوب حبريّا أو رقميا إلى “ثقافة” الصورة المشهدية والجملة البرقية والتناولات السطحيّة المعمّمة.
رابعا : النجاح بمعدّلات عالية يضمن المستقبل
يجب استبدال هذا الشعار بـ “النجاح بمؤهلات جيدة وشخصية متوازنة يضمن المستقبل”، لأن المعدّلات العالية تضمن الالتحاق بمؤسسات جامعية يتكثّف الإقبال عليها بعد الباكالوريا وبالتالي يرتفع سعر الدخول إليها ولكن المؤهلات الحياتية الواعدة شيء آخر تماما. كم من معدّلات عالية عاد أصحابها من الجامعات الألمانية أو الفرنسية وهم منكسرون لأسباب تتعلق عادة بالقدرة على التأقلم وفقدان المهارات العلائقية وعدم التدرّب على المبادرة وغياب القدرة الفردية على مواجهة الصعوبات وعُسر التعويل على الذات في حلّ إشكاليات يومية… وكلها اقتدارات مطلوبة لم يتهيّأ لها أبناؤنا وبناتنا بشكل مرضي أثناء مراحل دراساتهم الأولى.
خامسا : ذوو النتائج الضعيفة فحسب يتطلبون مرافقة ودعما
يتوزع المتعلّمون عادة إلى 3 أصناف كبرى : الذين هم بحاجة إلى اللحاق برأس الكوكبة، والذين هم بحاجة إلى المحافظة على نسق تعلّمهم وتثبيت مكتسباتهم، والذين بهم رغبة جامحة للتقدم بسرعة أكبر مقارنة بباقي أفراد المجموعة. وفي الحالات الثلاثة، يحتاج الطفل أو الشاب إلى من يساعده (داخل القسم وخارجه وسط العائلة وبعيدا عن دكاكين الشحن المدرسي) من أجل تدقيق وتجويد ما تعلمه في المدرسة وتحفيزه لجعله يُقبل على التعلّم بابتهاج وعدم امتعاض… وهو استثمار أكاديمي ستتضح نجاعته مع مرور الوقت قبل حلول الدراسات الجامعية.
سادسا : مستوى التعليم كان أفضل في السابق
“يا حسرة على قراية بكري” و “مستوى التعليم طاح” و “برة شوف التلامذة اليوم كيفاش يكتبو” الخ… خطاب الحنين هذا يكاد يؤثث كل البيوت وكل المقاهي التونسية لأن قتامة المدرسة في الماضي كانت صامتة ومسكوت عنها بعناية بوليسية فائقة، وحجم الانقطاع أصبح فاضحا جدا لأن التمدرس أضحى بالملايين وليس ببعض الآلاف فقط كما كان في السابق.
كنا ربما نكتب بشكل جيد والبعض منا يعرف جيدا قواعد الحساب أو قواعد رسم الهمزة ويحفظ عن ظهر قلب حروف الجرّ أو الفرق بين الصفة والحال، لكننا لم نكن نعرف الحواسيب ومتاهات العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي وتحليل المعطيات في وقت قياسي وبالتالي القدرة على اتخاذ القرارات. فأبناؤنا وبناتنا اليوم أقدر منا بكثير (لما كنا في سنّهم) على فهم المركّب وأسرع منا في اكتساب المهارات وأكثر قدرة منا على اكتساب مفاتيح ولوج العالم بلغاته وحضاراته ومقتضياته المختلفة.
أولا صفة “الشمولية” لا تعني أن تتحدث أدبيّات الإصلاح السابقة واللاحقة عن كل الجوانب التي تهمّ الفعل التربوي كالحياة المدرسية والتجهيزات والتعلّمات وخارطة الشعب ومنظومة التوجيه والبرامج والكتب المدرسية الخ… بل تعني أساسا أن تمسح المعالجات المقترحة كافة المرافق ذات العلاقة بالمدرسة وأن تؤمن الدولة في أعلى مستوياتها بأن التربية تعلو ولا يُعلى عليها (تصوّرا وتمويلا وتحشيدا) وأن يصبح التدريس مهارة استثنائية يتعيّن على القائمين به “الاستفاقة مبكّرا جدا” كما يقول التعبير الفرنسي وأن يُصبح لدينا في تونس مدرسة (بمستوياتها التحضيرية والابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية والمهنية) بمستوى هدر يقارب درجة الصفر. بمعنى أن أي تلميذ أو طالب أو متكوّن يجب أن يُلبسهُ المجتمع “سِوارا إلكترونيا تربويا” يسمح بالتعرّف على مربّع تواجده الذي لا يجب أن يخرج عن دائرة الدراسات العامة أو المراحل التكوينية التمهينية في شتى المجالات أو الدورات التدريبية المُفضية إلى تشغيل مباشر أو الحلقات التأهيلية الدامجة في مجالات مخصوصة وطنيا ودوليا.
وبالتالي يمكن أن نُنجز أفضل إصلاح تربوي على الإطلاق تنظيرا وإنشاءً وصياغة ولا يُفضي بالضرورة إلى نتائج ميدانية ملموسة تنهض يمُخرجات المدرسة وترتقي بأدائها.