عبد القادر المقري:
هو يمكن من عشر سنوات، عشرين، ربما منذ مطلع هذا القرن اليابس، حصل ما يشبه الرِدّة الحضارية التي لم يعشها كوكبنا منذ اكتشاف الزراعة والكتابة وإنشاء المدن… أي ما قبل بابل وطيبة وأثينا وقرطاج… ردة إلى ظلام الهمجية والتعصب ولغة القوة والفظاظة وسوء التربية…
من أصغر فزغول يدوّن أو يعلّق في فايسبوك، إلى رئيس أكبر دولة في العالم، صرنا نتفرج ذاهلين على انحطاط الخطاب وفجاجة المواقف وزوال الحدود بين اللائق وغير اللائق… كل الكلام الذي يتبادر إلى الذهن صار يخرج عاريا دون حرج أو مراعاة أو تردد جميل تحكمه أخلاق وبضبطه إحساس… كنا ذات سنة نلوم سامي الفهري على قصص الزبالة ومفرداتها التي يرصّع بها أعماله ومنشورات قناته التجارية… كنا ندين ذلك على اعتبار أنه نشاز في عالم أرقى وأكمل… ولكن حين التفتنا يمينا ويسارا، وأبحرنا في لجة ما يرد من كل ناحية، وجدنا أن الدنيا كلها بناسها وحوادثها أصبحت زفتا على زفت…
هذه الأيام مثلا قام دونالد ترامب وقعد وأعلن رغبته في شراء غزة… وللذين ينقصهم الاطلاع، غزة هذه ليست ماركة سيارات أو فصيلة أبقار أو علبة حليب مركّز، بل جزء من وطن داخله شعب حي وخارجه ملايين يحلمون بالعودة إلى بيوت سلبت منهم… شعب لديه إرادة ومشاعر وقدرة على الفرح والغضب والثورة والفعل وردّ الفعل… والذكي المتحضّر هو من كان دائما وعلى مر العصور، يحسب ألف حساب لمشاعر الآخر ولردة فعله، ولمنظومة قيم تعِبَ فلاسفة وحكماء وأنبياء في صوغها طوال ألفيّات… وهذا ما كان يجهله إنسان المغارة، وها قد أعادت إنتاجه زمر البرابرة الجدد…
ربما هي الأزمات الاقتصادية المتتالية، وربما هي الأزمات الأخلاقية الناتجة عنها كما حلل كارل ماركس، وربما هي الأزمات الصحية الكاذبة كما يجزم ترامب، وربما هي أزمات شحّ الثروات وتزايد التعداد كما تنبأ مالتوس، أو هو تقلب المناخ كما استخلص مؤتمر باريس… وربما، وربما… ولكن الأكيد أن كل هذا مجتمعا أفرز أجيالا وثقافات عدوانية، فجّة، عديمة الذوق، كارهة للجمال، مطبّعة مع القبح… سينما السنوات الأخيرة صارت مرتعا لكافة الفظاعات الممكنة… إن لم يكن الفيلم من أوله لآخره، فعلى الأقل يحشرون مشهدا أو اثنين يدفعانك إلى الغثيان، يثيران التقزز…ولجان الرقابة لم تعد تشتغل على هذه التفاصيل، وأصبح مسموحا لديها بأن يسيل الدم وتيقر البطون إلخ مما لا أقدر على وصفه فضلا عن مشاهدته وسماعه…
في سنيّ الدراسة، كنا في مادة التلفزيون مع أستاذنا رضا النجار، وكان الموضوع فك شفرة تصريحات الساسة والإفادة من ذلك عند التعليق عليها… ومن الأمثلة التي سردها مؤسس المركز الإفريقي لتكوين الصحفيين، تصريح من أربع أو خمس جمل فاه به الوزير والأمين العام السابق للجامعة العربية الشاذلي القليبي… هذا التصريح قدمه لنا الأستاذ على أنه ناريّ خطير… قرأنا الجمل الخمس من اليمين إلى الشمال، ثم من الشمال إلى اليمين، ثم من فوق إلى أعلى طردا وعكسا.. فلم نكد نفهم إلا باقة مجاملات وتحايا ودّ وأخوّة وصفّا عربيا مرصوصا لا ريب ولا استرابة فيه… إلا أن سي رضا علق عليها قائلا: أرأيتم كل هذا الودّ والورد؟ إنه تغليف جيّد لعبارة واحدة: أنا رافض رافض رافض… عجبا، قلنا له… فأجابنا: احذفوا المفردات الدبلوماسية المتأدبة، وأعيدوا القراءة، تجدوا ما قلته لكم… وبالفعل قمنا بالحذف وإعادة القراءة فوجدنا أن الرجل صفع مخاطبه بلسانه، بل “سلح عليه” كما يردد القدماء… عندها ختم أستاذنا حصته بجملة أخيرة كالمتنهّد: لهذا بقي “مسيو” قليبي في مناصبه، كل هذه السنين…
ـ يتبع ـ