جور نار

سلوكات ضالّة في هذا الفضاء الأزرق

نشرت

في

أرى أنه كما لطاولة الأكل آدابها، وللحديث أصوله، وللعلاقات البشرية نواميسها، وممارسة السياسة محاذيرها… فإن لهذا الفضاء التواصلي الجديد قواعد ضمنيّة أيضا نشرا وتعبيرا وتفاعلا تُحتّمُ علينا جميعا التقيّد بها واحترامها في سياق مدوّنة لا مرئيّة نستدلُّ بها ونُؤطّر وفقها سلوكاتنا وتهويماتنا درءًا للانتصاب الفوضوي وتسوّر حيطان الغير  وهتك ستر أعراض الناس.

<strong>منصف الخميري<strong>

وقد أصبح الأمر ملحّا حسب اعتقـــادي خــاصة في ضوء اعتبــارين أســــــــاسيين هما :

أولا تحوّل فضاء الفايسبوك إلى “دار مْقام” يقضّي بعضنا بين صفحاته ونوافذه وفيديوهاته الوقت الطويل حتى يخيّل إليك أن المستعمل يُخيّم داخله ليلا نهارا حتى وهو يُعالج تخليص سمكته المشويّة من أشواكها أو يقود سيّارته أو يُلقي درسا واعظا، وثانيا لأنه غالبا ما تتحوّل هذه المساحة المنذورة أصلا للتقليص من حجم اتساع العالم والتبادل المثمر والتعبير المرح والجاد على حدّ سواء…تتحوّل إلى بؤرة للتوتّر  وشد الأعصاب وحطّ المعنويات والإساءة للناس وهتك الأعراض وتفريغ جميع أحمال النفايات والعقد النفسية. ونتيجة لذلك، كثيرا ما نعثر من حين لآخر على تدوينات لأشخاص محترمين وأصحاب مواقف مشرّفة ومؤسّسة يعبرون فيها عن ضجرهم وقرارهم بمغادرة هذا الفضاء دون رجعة.

أردت أن أتقاسم معكم هذه المرة بعض ما يُزعج ويُعكّر مزاجنا ونحن نتصفّح ما يكتبه أو يعلق به الناس على بعضهم البعض، مُكتفيا بما هو صارخ فيها ومُسيء ويتعارض مع أبسط قواعد العيش الافتراضي المشترك… مع الاعتذار سلفا لكل الذين سيعتبرون أنفسهم معنيّين بما سأقول لآنني معنيّ مثلهم ببعض الزلاّت وسوء التقدير ولأنني كذلك لا أقصد الإساءة المتعمّدة لأيّ كان ولا أستحضر أسماءً بعينها وأنا أؤثّث هذه الورقة.

  1. لا تُشهر سوى مظاهر السعادة المجانية غير المُكلفة

كثيرون هم الذين يحاولون جاهدين صباحا مساءً شدّ انتباه الناس إلى حجم الرفاه الذي يعيشونه وجودة الأكلات التي يطهونها أو يتناولونها في أفخر المطاعم وإلى منسوب سعادتهم الباذخة، متجاهلين أن الثراء موحشٌ والأموال بذيئةٌ ورغد العيش وقِحٌ أحيانا عندما يتم إشهارُ كل ذلك أمام أعين أغلبية شعبية تتحسّس جيوبها جيدا قبل الإقدام على شراء السّردين وبعض حبّات الماندرين. وإذا لم يكن لديك رصيد تستمدّ منه بعض القيمة الذاتية غير سجلّ الأطباق الغذائية باهظة الثمن من قبيل لحم الفيليه بالبهارات الهندية والكافيار والسّوشي … فاعلم أن أثرى أثرياء العالم لا يُفشي أطباقه ولا ينشر منابع سعادته الخاصة لأن المعنى الحقيقي بالنسبة إلى كثيرين منهم، يحاولون العثور عليه في أروقة الفنون والعروض الموسيقية الراقية والاستثمار في أعمال يعتبرونها ذات قيمة انسانية مضافة.

  • لا تصوّر نفسك وأنت تؤدّي واجبك الذي تتقاضى أجرا مقابله

تُلاحَظ هذه الظاهرة بصورة خاصة في عدّة مجالات مهنية (ربما لإحساس خفي لدى أصحابها بالضّيم وعدم الاعتراف المجتمعي بالمجهود الذي يبذلونه) وتتمثل في عرض صور إشهارية لدروس وورشات ومساحات تنشيطية وفعاليات مختلفة، تندرج كلها في صلب ما هم محمولون على أدائه إزاء تلاميذ أو طلبة ليس من حقّنا إيتيقيّا أن نعرّض ملامحهم ولباسهم وأنواع أحذيتهم وارتسامات وجوههم للعموم خاصة عندما لا نطلب منهم الموافقة الصريحة سلفا.  وفي هذا السياق، يجدر التنويه بمن يؤدّون مهامّ دقيقة جدا وذات نفع اجتماعي ووطني ثابت مثل الأطباء والممرضين الذين يهِبون الحياة كل يوم وأعوان الديوانة الذين يحبطون في كل لحظة عمليات تهريب الكابتاغون وأسلحة الإرهاب والاغتيال إلى حدود وقت غير بعيد والأمنيين الذين يطاردون فلول الإجرام ليلا نهارا … ولكنهم يمتنعون عن عرض كل ذلك مرئيا في الساحات العامّة.

  • للمرض والموت حُرمة لا يجوز انتهاكها

لا أحد يشكّ في أن بعض الناس يُقدمون على تصوير مرضاهم أو موتاهم (نعم حدث ذلك أكثر من مرّة للأسف) من منطلق إبداء الحبّ والتعلّق والتعبير عن الوجع إزاء وضع مقدّر لا نستطيع إزاءَهُ شيئا، ولكن بعضهم يفعل ذلك أيضا للقول “ها قد تحمّلتُ عبءَ أداء الزيارة وعدتُ فلان أو فلانة في المستشفى أو في المصحة”… وهو أمر لا يستقيم لأن الحزن يُعاش بشكل حميمي والألم الذاتي غير قابل للتقاسم والشخص الذي كان في يوم من الأيام قويّا ووسيما وفي كامل ألقه وعنفوانه لا يرضى أن نُظهره للناس وهو معتلّ وهزيل ومُنهك.

  • المطالبة بالمحاسبة والمساءلة شيءٌ، أما التشفّي وتلويث أعراض الناس فذلك شيءٌ آخر

مناخ الإيقافات المُهيمن على كل مظاهر الحياة الأخرى في ربوعنا أمرٌ لا يبعث على الابتهاج والارتياح لأنه يعكس خللا ما في سلوكنا كتونسيين وشُبهات إجرام وتواطؤ وضلوع في الإرهاب والتآمر على بلدنا ووحدته وهذا في حدّ ذاته – لو تأكّد- مؤشر خطير (لا يتواتر كثيرا مثله في باقي بلدان العالم) على أن التونسيين لا إسمنت يوحّدهم سوى ترصّد ما يمكن شفطه ولهفه في غفلة من أجهزة رقابة مُخترقة. وبالتالي فإن الوضع الطبيعي هو أن نتقاسم العيش في بلد يكون فيه الإجرام استثناءً والاعتداء على خزينة الدولة خيانة وطنية مُوجبة للتجريد من الجنسية. المتهمون لهم حرمة هم أيضا ولهم عائلات وأبناء وصداقات ومن ثبت تورّطه منهم أو تلطّخت يداه بدماء الأبرياء ما عليه إلا أن يدفع ثمن ذلك. (تحضرني في هذا السياق، قصّتان موجِعتان : قصّة بعض من أجواري “الأتقياء جدا” وزّعوا الحلويّات يوم اغتيال الشهيد شكري بلعيد في فيفري 2013، وقصّة صديق عزيز عليّ له على هذي البلاد أفضال كثيرة وعطاءات جزيلة نكّلت به الجريدة المشبوهة “الثورة نيوز” في 2011 ونسبت له قصورا وعقارات وحسابات بنكية خيالية… والحال أنه مازال إلى اليوم يُسدّد أقساط القرض الذي اشترى به شقة متوسّطة المستوى في حيّ للموظفين بالعاصمة).

  • في الخطاب المُستخدم من قِبل مستعملي الفضاء الأزرق

___لا تُنهي النقاش من جهة واحدة : عندما تُنهي تدوينتك بتعبير “قف انتهى“، ذلك يعني ببساطة أنك أصبحت نبيّا، وكلامك يشبه الوحي أو الحديث المقدّس الذي لا يقبلُ تعقيبا أو تنسيبا أو تشكيكا. وعليه، من الأفضل أن تختم فكرتك النسبيّة بالضرورة بالقول “هذا رأي يحتمل الخطأ وسوء التقدير طبعا“.

___هذا الفضاء الذي أفنى مئات المهندسين أعمارهم في تطويره ليس ساحة لتصفية حساباتك مع الحْمَاوات والسّلايف !   تدوينات كثيرة تملأ الفضاء الأررق تبدأ بــ “قالوا ناس بكري” مصحوبة بمثل شعبي مُلغّم بالمعاني الحافّة وتنتهي بكلمة “مقصودة” أو “أقولها وأمضي“… بنيّة التعبير عن ردّة فعل ظلت مكتومة لم تعرف طريقها لمغادرة حلق صاحبتها لحجم الإحراج الذي قد تسبّبه أو مراعاة لابن عزيز إذا كان المستهدف كنّة مشاكسة.

___لا تقل “أنا لست مسؤولا عن فهمك لما قلتُ” ! لأن أصول التواصل المتّزن والسّوي تجعل المتكلّم مسؤولا عمّا يقول صياغة وفهما وتأويلا… تماما كما تقولُكَ ملامح وجهك دون وعي منك أحيانا. ألم يقل كبير الاتصاليّين واتسلافيك “جُعِل الكلام للتستّر على الواقع… لكن التعبير يكشفُه ويُعرّيه“.

  • اجعلوا منشوراتكم منسجمة مع عناوين الصفحات “المتخصّصة” وصوركم متناغمة مع طبيعة الظرف الذي أملى ظهوركم.

كثيرا ما تعترضنا صفحات لها مجال اهتمام مخصوص مثل “صفحة محبّي غارسيا ماركيز” على سبيل المثال ولكن لا يتردّد من يُديرها في تأثيثها بخبر تسعير الموز أو تهريب الأبقار نحو الجزائر، أو نشر خبر “حلّ المجالس البلدية” في صفحة متخصصة في التعريف بالأغاني التونسية القديمة ! أو تلك الفتاة التي كتبت “فلسطين دم في الشرايين رحمك الله يا شيرين” ولكن عوض أن تضع صورة الصحفية الفلسطينية الشهيدة وضعت صورتها الخاصة مُبرزة تقليعة شعرها وأحمر شفاهها.

ملاحظة أخيرة في شكل تضرّع ورجاء : لا تُكثروا من صورة النبتة أو الشجرة التي تنبثق من بين شقوق الصخور الكلسية وترفقونها بمقولة نيتشة  “إن الإنسان مثله مثل الشجرة، كلما رنا إلى الأعالي وإلى النور إلا ونحت جذوره في الأرض“، وكذلك صورة البنت الفقيرة التي تبيع زهورا بريّة على قارعة الطريق مرفوقة بعبارة “كان جات راقصة ملاهي أو فنانة راهو عندها آلاف من اللايكات” ! أو كذلك إرفاق صفة الشراسة بالنقابيين المتوفّين رحمهم الله جميعا لأن الشراسة والضّراوة مكانها الطبيعي هو الغابات والبراري.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version