جور نار

قراءة في توزّع مترشّحينا على أنواع الباكالوريا

نشرت

في

أتمنّى أولا النجاح والتوفيق لكل المترشّحين الجدّيين والمُثابرين المُكابدين للباكالوريا هذه السنة،  التوّاقين إلى إحراز أفضل المعدّلات وتحقيق أفضل النتائج التي ستُتيح لهم انتزاع المواقع الجامعية التي حلُموا بها والاختصاصات التي لا يتصوّرون أنفسهم متألّقين إلا في ثناياها،

<strong>منصف الخميري<strong>

كما أحيّي ثانيا آلاف التربويين والأمنيين المجنّدين لمراقبة الامتحانات وإصلاحها وتأمينها والسهر على سيرها في أفضل الظروف الممكنة، وبخاصة الأساتذة المصحّحين السّاعين إلى تحقيق أكبر قدر من الانصاف والموضوعية أمام أوراق امتحان لا يعرفون من هويّة أصحابها سوى منسوب الأمل العالي الذي زُرع فيها. وأعتقد أن التناول المجتمعي الواسع لمُجريات امتحانات الباكالوريا كحدث وطني بارز يمسّ الأغلبية الساحقة من العائلات التونسية، يعكس معطيَيْن على غاية من الأهمية في السياق التونسي اليوم :

  • دراسة الأبناء مازالت من حسن حظّ تونس تحتل موقعا مركزيا في اهتمامات العائلة التونسية وتُنفَق من أجلها الأموال الطائلة بل وتُباع من أجلها العقارات وتُرهن الأساور والأقراط، إيمانا عميقا منها بأن عقلية الكَفاف و”دبّر راسك تبات متعشّي” ولّى عهدها لكونها تشبه الكائنات البريّة أكثر…لفائدة منوال جديد يُجِلّ العلم والمعرفة لذاتهما ويطمح بواسطتهما إلى نيْل مُتع تندرج في سياق ما فوق الحسّي البسيط.
  • طموح التونسيين جميعهم إلى حسم المعركة الدائرة منذ سنوات بين مسلكين كبيرين يراودان فئات واسعة من شبابنا : مسلك المدرسة بمتطلباته وإكراهاته وحسن الاستعداد لخوضه، ومسلك المفسدة بإغراءاته ومخاطره ويُسر الإقبال عليه. ..حسم هذه المعركة الضّارية لفائدة ما يضمن سلامة أبنائنا وبناتنا وما يجعلهم في نفس مستوى شباب العالم المتقدّم … وأكثر.

ما يصدم لأول وهلة في الإحصاء العام للمترشحين لامتحان الباكالوريا (والذي لا يقول كل شيء للأسف بل يُخفي حقائق مرعبة أحيانا) هو :

أولا : عشرون ألف من المترشحين يفِدون من المعاهد الخاصة

وهو عدد غير قليل ( 15%) قابل للتضخّم خلال السنوات القادمة أمام الوهن الكبير الذي أصاب المدرسة العمومية وأعداد المستوفين حقّهم في الدراسة المتعاظمة والذين عجزت المنظومات الموازية عن استيعابهم وإعادة إدماجهم. إضافة إلى بروز مؤسسات خاصة تنشد “النموذجية” من خلال نوعية الكفاءات المنتدبة وظروف الدراسة وتستقطب عددا لا بأس به من العائلات المهاجرة الفارّة من نكد المدرسة العمومية وخيباتها.

ثانيا : ماضون رأسا نحو مدرسة دون  رياضيات، العمود الفقري لمعارف المستقبل

6 % فقط (8673 تلميذا) من المترشحين ينتسبون إلى شعبة الرياضيات التي تمثّل في منظومتنا التربوية التونسية خزّان الموارد التلمذية التي تتغذّى منها مسالك التميّز في التعليم العالي، وخاصة الأقسام التحضيرية للدراسات الهندسية والاختصاصات العلمية وبعض مجالات التصرف في مؤسسات جامعية بعينها. وهو انكماش مذهل مقارنة بالانتفاخ غير السويّ في شعب أخرى لا يُفتح أمامها ما يكفي من الآفاق الواعدة، ومقارنة أيضا بالحال التي كانت عليها هذه الشعبة خلال سنوات خلت لمّا كانت نسبة التوجيه إلى شعبة الرياضيات لا تقلّ عن 20 %. لكن الأخطر من ذلك حسب تقديري هو ما تُخفيه هذه النسبة الوطنية الكئيبة أصلا من تفاوت كبير بين الجهات والمعاهد في نفس الجهة أحيانا، حيث لا تزيد في بعض ولاياتنا الداخلية عن 1 أو 2 % واندثار نهائي لشعبة الرياضيات في بعض المؤسسات التربوية.

ثالثا : تورّم سرطاني في شعبة الاقتصاد والتصرّف لا يُنبئُ بأي خير

35% من جملة المترشحين للباكالوريا هذه السنة (أكثر من 48 ألف تلميذ) يعشّشون في شعبة الاقتصاد الشبيهة إلى حدّ كبير بخاصيّة من خاصيات الشخصية التونسية القاعدية وهي “الأخذ من كل شيء بطرف” و “تسليك الأمور بدلا من تعهّدها ببسالة” و “شوي شوي من كل شيء” الخ… لأنها تتطلب عند الالتحاق بها في السنة الثانية ثانوي قدرا من الرياضيات يكون غير مخجل ونزرا قليلا من الانكليزية وحبّتين جغرافيا مع وجود استحالة في الالتحاق بأية واحدة من الشعب الأخرى الحازمة أكثر في انتداب منتسبيها (باستثناء شعبة الآداب).

المشكل في أن هذا التضخّم غير الطبيعي في شعبة “مرنة أو ليّنة شيئا ما في تقدير التلاميذ وأوليائهم” يكون عادة على حساب توازنات أساسية في علاقة ببقية مكوّنات خارطة المسالك والشعب في التعليم الثانوي، زد على ذلك أن جمهور الاقتصاد والتصرف عُرف في جزء كبير منه على الأقل بكونه غير مؤهّل من حيث تكوينه الأساسي لمعاندة المتفوّقين في شعب أخرى مثل الرياضيات والعلوم التجريبية خاصة عندما يتنافسون جميعهم على نفس العروض المفتوحة أمام كل الباكالوريات بنسب محدّدة سلفا… إضافة إلى كل ذلك، ثمة مفارقة أخرى تتمثل في أن التعليم العالي يسعى دائما (باعتباره المتصرف الوحيد والأوحد في توزيع الناجحين في الباكالوريا على ما يعرضه من مسالك تكوينية) إلى تعبئة اختصاصات التميّز المتصلة بالمحاسبة والمالية والتصرف والتسويق والتجارة والبنوك والتأمين والموارد البشرية وإدارة الأعمال … (أي كل تلك الاختصاصات المحسوبة أصلا على من درس شيئا من أصولها ومبادئها في شعبة الاقتصاد والتصرف في التعليم الثانوي) تعبئتها بشكل أساسي بناجحين قادمين من الرياضيات أو العلوم التجريبية رغم جهلهم تماما بأساسيات هذه الاختصاصات لكنهم يستقوون بتميّزهم في مادة الرياضيات والمجالات المرتبطة بها.

رابعا : شعبة علوم الإعلامية، فخامة التسمية يخذلها بؤس التعامل معها في التعليم العالي

7% (9282 تلميذ) من المترشحين لامتحان الباكالوريا ينتسبون إلى شعبة الإعلامية وهي نسبة متقاربة جدا مع شعب الرياضيات، وهنا أقول مباشرة إن دمج هاتين الشعبتين في مسلك واحد نُطلق عليه “شعبة رياضيات إعلامية” أو – وهو الاختيار الأسلم ربما – الإبقاء على شعبة علمية جامعة واحدة تمتد على ثلاث سنوات، وتُلوّن خلال السنة الأخيرة إما باختيار الإعلامية لمن ينوي متابعة دراسته الجامعية بمسالك الرقميات بصورة عامة (دون غلق الباب أمامه إن هو عدّل رأيه ورغب في التوجّه نحو اختصاصات أخرى غير مرتبطة عضويا بالإعلامية وتطبيقاتها) أو باختيار الرياضيات “العليا” لمن ينوي الالتحاق بالدراسات الهندسية والعلوم الصحيحة، أو اختيار البيولوجيا بالنسبة لمن يستهدف شعبا مثل الفلاحة والبيولوجيا والطب والاختصاصات شبه الطبية.

مشكلة مسلك الإعلامية (غير الموجود أصلا في أغلب المنظومات التربوية في العالم باعتباره مجالا مرتبطا أشد الارتباط بالرياضيات ومندمجا فيها) أنه لا يجد ترحيبا واسعا من قِبل التعليم العالي الذي يفضّل عليه الرياضيات، خاصة بعد تجارب السنوات الأولى في المراحل التحضيرية للدراسات الهندسية فينتج عن ذلك تحديد طاقة استيعاب بمقعد يتيم أو مقعدين في بعض الاختصاصات يتنافس عليها مئات المترشحين من حاملي باكالوريا إعلامية، فترتفع مجاميع النقاط بشكل تعجيزي وتُسدّ طرق الالتحاق بشعب هي الأقرب نظريا إلى حاملي هذه الباكالوريا.

وكأنه في وعي التعليم العالي غير المنطوق تنقسم الافاق المفتوحة في الجامعة في مجالات الإعلامية وما جاورها إلى آفاق “صلبة” أي الاختصاصات المرموقة المفتوحة بعد المناظرة الوطنية للدخول إلى مدارس الهندسة والتي لا يقدر عليها سوى المتميزين القادمين من شعبة الرياضيات، مقابل صنف ثان من اختصاصات “الدرجة الثانية” الشبيهة باختصاصات مؤهل التقني السامي في التكوين المهني مثل تكنولوجيات الإعلامية في المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية والإعلامية الصناعية الخ… المصمّمة لاستيعاب حاملي باكالوريا إعلامية.

أخيرا

الحل في اعتقادي لا يكمن في التعسّف على النسب وتوزيع التلاميذ على الشعب المدرسية المعروضة بشكل مغشوش يحقق نوعا من التوازن الزائف بين مختلف الشعب المدرسية، بل يتمثل في مراجعة جوهرية للتعلّمات في كل المستويات ووضع خطة وطنية تنهض بمستوى المكتسبات الأساسية خاصة في التعليم الأساسي، وكذلك إقدار المعلّمين والأساتذة على التعامل بشكل مختلف مع هذه المواد عبر مناهج جديدة ومقاربات مجدّدة.

2 تعليقان

صن نار

Exit mobile version