جور نار

ما الأفضل بالنسبة إلى مدرستنا… التنويه بالأسوياء أم الإشارة إلى “النّعجة الجرباء” ؟

نشرت

في

نعيش مع كل عودة مدرسية تهليلا بدور المربّين (معلّمين وأساتذة بالخصوص) وإشادة بتضحياتهم وتشهيرا بالظروف الصعبة التي يعملون فيها وتنويها بدورهم في تربية الأجيال مع استجلاب مكثّف لأقوال طيبة ودالّة، لكننا مججناها من فرط المضغ واللّوْك، فأصبحت مبتذلة ولا تعكس حقيقة ما يجري في مدارسنا من قبيل “المعلم أعظم مهنة على وجه الأرض …إذ تتخرج على يده كل المهن الأخرى” أو “لو لم أكن ملِكًا لكنتُ معلّما” أو “تقوم الاوطان على كاهل ثلاثة : فلاح يغذّيه، وجندي يحميه، ومعلّم يربّيه” الخ…

<strong>منصف الخميري<strong>

كل هذا سجلّ محمود لا أملك كمربّ سابق إلا أن أبتهج له وأؤيّده بل وأزيد عليه بأنه لو كان محصول الفعل التعليمي قابلا للقيس الكمّي الدقيق مثل إنتاج الحبوب أو تعليب السّردين أو تركيب أسلاك السيّارات، لأدرك المجتمع وأهل السياسة أن فعل المربّين يُقاس بنسبة تواجد المنحرفين في المتر مربّع، ونسبة المقبولين سنويا في مناظرات وطنية حديدية لا يطالها التشكيك من حسن حظّنا، وحجم الطلب على خرّيجي جامعاتنا التونسية خاصة في مجالات دقيقة بعينها وطنيا ودوليا. (يُذكر هنا أن كلمة “بطالة أصحاب الشهائد العليا” لا تصف الحقيقة كاملة بل تغطّي جزءًا أساسيا منها وهي أن مؤسسات كثيرة تبحث دائما عن مئات الخرّيجين الذين يكونون بملمح معيّن ومهارات محدّدة ولا تجدهم في صفوف الباحثين عن شغل من أصحاب الشهائد الجامعية !).

اخترتُ أن لا أتحدث ضمن هذه الورقة عن المربّين الذين يجتهدون في إفادة تلاميذهم وفتح عقولهم على معارف جديدة ومعلومات سديدة … فذاك واجبهم، ولن أتعرّض للمربّين الذين يبحثون ويكدّون ويتجنّدون ويفنون أعمارهم لجعل تلاميذهم ينجحون بتميّز في الاستحقاقات التي تنتظرهم… فهذا دورهم الطبيعي، ولن أصفّق طويلا للمربّين الذين يسعون إلى عدم التغيّب إلا متى كانوا مُجبرين على ذلك لأسباب قاهرة، أو الذين يحاولون قدر الإمكان تحييد الظروف المحيطة الصعبة المُعيقة للإقبال بشراهة على التحصيل المدرسي… لأن ذلك يندرج في صلب عملهم وأخلاقيات المهنة التي اختاروها لأنفسهم ولم يفرضها عليهم أحدٌ. ولأنهم محمولون على ذلك بالقانون وبالأخلاق، أخلاقيات عمل المربّي.

يقول المثل الشائع “المتابع لا يهتمّ بالقطارات التي تصل في مواقيتها المحدّدة” !

سأحاول التنبيه دون أي تحامل إلى بعض الظواهر غير الطبيعية المساهمة في قتامة المشهد التربوي في بلادنا، وجعل شريحة هامة من تلاميذنا ينفرون المدرسة ويعجزون عن التصالح مع إكراهاتها وواجباتها ونسق التعلمات فيها. … لأن هذه الجوانب رغم هامشيتها النسبية أحيانا مقارنة بما تأتيه أغلبية المربّين من فعل جبّار، لا نجرؤ دائما على إثارتها خوفا على صورتنا من مزيد التحلّل في المرآة.

وقد يتساءل البعض لِم تناول قطاع المربّين بالذات والحال أن كل القطاعات بدون استثناء من أمنيين وقضاء وإداريين ووزراء … تعجّ بالمارقين والسّفهاء والنّعاج الجرباء والرؤوس الجرداء؟ ببساطة لأنني عايشت طويلا فئة التبشيريين (كما كنت أسمّيهم، نسبة إلى مادّة الطباشير ووظيفة التبشير لا على معنى التنصير بل على معنى التبصير). وأزعم أنني أعرف الكثير ممّا نصمت عنه بجُبن خوفا على مستقبل أبنائنا، ومن ناحية أخرى، فإن نسبة 4 % أو 5 % فقط في قطاع يضمّ أكثر من 150 ألف مدرّس بين الابتدائي والثانوي عمومي تُعطي جحافل من المدرّسين غير الأسوياء والذين يشكلون خطرا حقيقيا على أجيال بكاملها.

وهذه هي حسب رأيي بعض الفئات ذات السموميّة العالية التي على مدرستنا محاربتها دون مواربة وبجرأة ووضوح  :  

المتغيّبون على الدوام والمُغلّبون لتفاصيل حياتهم الخاصة على تفاصيل دروسهم العامة.

المُناورون (والمُناورات خاصة) والمُخاتلون و”المُكمبصون” لجرجرة تلاميذهم بدهاء نحو مستودعات الدروس الخصوصية.

الحاجبون لمعلومات أساسية في صميم الدرس من أجل غصب التلاميذ على استكمالها بمقابل في البيوت المُهيّأة للغرض.

النقابيون الفاشلون الذين يلوكون الشعارات البالية من قبيل “مدرسة شعبية وتعليم ديمقراطي وثقافة وطنية” ويعلّقون كل هِنات نظامنا التعليمي على شمّاعة تردّي ظروف التدريس وغياب المستلزمات وتلكّؤ الوزارة في إجراء “إصلاح تربوي عاجل وشامل”… وأبدا على حبل أداء المدرّسين ومستوى تكوينهم ومسؤوليتهم الفردية في الارتقاء بفعلهم البيداعوجي داخل الفصول.

الممتنعون بإصرار خرافي عن القراءة والمُقسمون بأغلظ الأيمان على تطليق الكتاب بالثلاث واعتبار  أن الكتاب كتابٌ أوحد أو أن الحياة أكبر كتاب (كان يقولها أستاذ فلسفة في “مدينة الشرارة الأولى” عندما يُعرض عليه عنوان جديد له علاقة ببرنامج الباكالوريا).

المحافظون على نفس الكراريس ونفس الدفاتر الصفراء التي تظل ترافقهم من المهد إلى اللحد في ظل التطور اليومي المتسارع للعلوم والنظريات والمقاربات.

المتمارضون الذين يعرفون أن الشهائد الطبية التي يسندها بسخاء بعض الأطباء النفسانيين يصعب الطعن فيها ولا تخضع عادة إلى العيادات المضادّة.

المعلّمات اللواتي توظّفن براءة الأطفال للنبش في خصوصيات العائلات والسؤال عمّا إذا كان الأب من الصائمين أو المفطرين أو السؤال عمّن كان يصلّي ضمن أفراد العائلة. (حصل هذا معي شخصيا).

المتأدلجون السّاعون دوما إلى تلغيم العقول لتتفجّر يوما في وجه رسّام بريء (فولينسكي وكابو) أو كاتب متميّز (نجيب محفوظ وفرج فودة) أو سينمائي كبير( العقّاد) أو سياسي شاهق (شكري والبراهمي) … أو عاشقيْن في ريعان شبابهما لا علاقة لهما لا بالدين ولا بالمتديّنين بل فحسب بالحب والمحبّين (ضحايا مسرح الباتاكلان في فرنسا)…

المُربّون المسطّحون (نسبة إلى نظرية تسطيح الأرض عند شيوخ الدين) الذي يجرؤون على التشكيك في ما بات يُعرف بمسلّمات العلم في سائر مدارس المعمورة (ضد ما تقوله برامجنا الرسمية المعتمدة) مثل كرويّة الأرض ونظرية النشوء والتطور واكتشاف الكواكب الأخرى والتفسير العلمي للزلازل والكوارث الطبيعية.

الدّاعون إلى القفز على بعض الدروس غير المتطابقة مع “قناعاتهم المقدّسة” خاصة إذا تعلّق الأمر بوسائل منع الحمل أو الوقاية من الأمراض المنقولة جنسيّا أو الحبّ في أبعاده الحميميّة.

الحائزون على إقامة دائمة “متميّزة فوق الرتبة” في دهاليز الفايسبوك ومنعطفاته يردّدون ما تيسّر من الحِكم المُستهلكة والأقوال المنسوبة لدوستويفسكي وجلال الدين الرومي ولا يجدون لا الرغبة ولا الوقت للإبحار في عشرات محرّكات البحث لإخصاب دروسهم وتدقيق معلوماتهم والنّهل من نفائس المراجع والقواميس.

الرّافضون للتمييز بين مهنة سُوّاق الحافلات أو عمّال المخابز من ناحية (وهي مهن ثابتة يؤدّيها أصحابها وفق قواعد محدّدة لا تستدعي كثيرا من الاجتهاد أو الابتكار) ومهنة التدريس من ناحية أخرى التي تتطلب تطويرا يوميا وتفاعلا حينيّا مع ذوات تلمذية متحركة وبحثا دائما عمّا يُغني ويُثري وعينا ساهرة تنظر صوب “ما يجب تحصيله حتما من قِبل الجميع لمواجهة المراحل اللاحقة”.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version