إذا عدنا الى بلادنا العربية التي يعمها الجفاف بشكل عام فإن العلاقة بين الطاقة والمياه تميل الى عدم التوازن المشار اليه في الجزء الأول من هذه المقالة إذ هناك فيض في الطاقة الشمسية وغيض في موارد المياه.
على نقيض حالنا، تتمتع أقطار عديدة بالتوازن بين هذين الموردين الطبيعيين بعضهما البعض وبينهما وبين عدد السكان كما هو الحال نسبيا في الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الإتحادية والأرجنتين والبرازيل بل وحتى الصين والهند اللتين كانتا الى فترة لا تتجاوز نصف قرن من الزمان من الدول المستوردة للغذاء وانتقلتا الى مستوى الكفاية في نهاية الستينات من القرن الماضي في أعتاب ما عرف بالثورة الخضراء. فإذا اتضحت متلازمة العلاقة بين الماء والطاقة فإن من الممكن استثمار الطاقة في توليد المياه العذبة من المياه المالحة. بداية، لجأ الإنسان الى أبسط الوسائل المتمثلة بتبخير الماء المالح أي تحويله الى غاز الماء النقي.
هذه العملية بحاجة الى طاقة كبيرة، ثم إن تكثيف غاز الماء الى سائل هو أيضا عملية بحاجة الى طاقة تستثمر في عملية التبريد لتحويل البخار الى سائل. على سبيل المثال، تلزم طاقة مقدارها 2443 كيلو جول أو 584 كالوري لتبخير كيلوغرام واحد من الماء السائل الى بخار عند درجة حرارة 25 مائوية. هذه كمية مفرطة من الطاقة وهي توضح بطء ارتفاع درجة حرارة المسطحات المائية عند تعرضها لأشعة الشمس نهارا. و تستخدم تلك التقنية في تحلية مياه البحر خاصة في حالات توليد الكهرباء إذ تستخدم مياه البحر في عملية تبريد التوربينات المولدة للطاقة ثم يجري تبخير تلك المياه الحارة باستهلاك القليل من الطاقة نسبيا للحصول على بخار الماء العذب الذي يتم تكثيفه للحصول على سائل الماء المقطر.
منذ عقود قليلة وبتطور تقنيات صناعة الأغشية الجزيئية من مبلمرات (أو بوليميرات) عضوية ذات فتحات متناهية الصغر لا تسمح بعبور معظم الأيونات (الشوارد) الذائبة في الماء وهي عبارة عن كريات صلبة ذات أقطار تقاس ببضع نانومترات. النانومتر هو وحدة قياس تعادل مترا واحدا من ألف مليون متر. وبفهم العلاقة الفيزيائية بين الأملاح الذائبة وانخفاض طاقة الماء أو ما يعرف بالجهد الأوسموزي تغير نمط التفكير الإنساني على النحو التالي: لو كان لدينا حجرتان مفصولتان بجدار من غشاء المبلمرات المدعم ميكانيكيا بشبكة صلبة ووضعنا ماء مالحا في إحدى الحجرتين ثم ضغطنا الهواء في أعلى تلك الحجرة فإن الماء الملحي سيكتسب طاقة إضافية تمكنه من عبور الغشاء المبلمر دون مصاحبة الشوارد الذائبة أي أننا سنحصل على ماء نقي دونما حاجة الى استهلاك كم هائل من الطاقة اللازمة لتحويل سائل الماء الى غاز ثم من جديد تحويل الغاز الى سائل عن طريق التبريد. هذه طريفة اقتصادية للحصول على الماء العذب وهي الطريقة السائدة هذ ه الأيام خاصة في حالة المناطق الساحلية التي ليست بحاجة الى مزاوجة تخليق الطاقة الكهربائية وتحلية المياه وتعرف بالتناضح العكسي. كلفة تحلية متر مكعب من المياه العذبة بهذه الطريقة لا تتجاوز نصف الدولار الأمريكي. ولأنها تقنية سهلة التطبيق فقد شاع استعمالها لتحلية المياه على مستوى الوحدات السكنية ويعرفها العامة بالفلتر.
السؤال الأكثر الحاحا هو كيف يمكننا الحصول على طاقة رخيصة وصديقة للبيئة في ظل معضلة الاحترار الكوني وما يلاحظ هذه الأيام من انتشار حرائق الغابات على امتداد مساحة نصف الكرة الأرضية الشمالي والتي تأكل الأخضر واليابس وتترك الأرض خلفها قاعا صفصفا. تستقبل الأرض على حافة غلافها الجوي ما معدله السنوي 1361 واط لكل متر مربع من طاقة الإشعاع الشمسي المكونة من طيف عريض من الإشعاعات. هنا لابد من التنويه الى أن الواط يعادل جولا واحدا في الثانية أي أننا عندما نقول إن هذه اللمبة تستهلك خمسين واطا فإننا نعني أنها تستهلك خمسين جولا في الثانية خلال فترة إضاءتها. بناء على ما سبق، فإن ما يصل السطح الخارجي للغلاف الجوي لكوكبنا هو 1361 جولا لكل متر مربع في الثانية الواحدة. وبسبب عوامل عديدة كامتصاص الطاقة بواسطة العديد من الجزيئات الكيميائية أو الغيوم أو تشتتها بواسطة دقائق العوالق الصلبة في الغلاف الجوي فإن ما يصل من طاقة الشمس عندما تكون عمودية فوق مستوى سطح البحر في يوم صاف هو نحو 1000 واط للمتر المربع لكن متوسط هذا الرقم السنوي ينخفض الى 340 واط للمتر المربع. بالطبع، تقل هذه الطاقة عندما نتحدث عن سطح صحراء متربة كما هو حال معظم مساحات بلادنا العربية أو مناطق جغرافية كثيرة الغيوم. هنا تجدر الإشارة الى أن ما يصل سطح الأرض من طاقة الإشعاع الشمسي في غضون ساعتين من الزمن يعادل ما تستهلكه البشرية من طاقة طيلة عام كامل.
منذ تطور الحياة النباتية الخضراء أي المحتوية على اليخضور (الكلوروفيل) تمكنت تلك الكائنات الحية من تطوير مركبات كيميائية تستطيع اقتناص الطاقة الإشعاعية للشمس وتخزينها على صورة روابط كيميائية تستخدم في بناء أجسامها وإجراء عمليات الأيض (التمثيل الغذائي). نطلق على تلك النباتات وبعض أصناف البكتيريا صفة “ذاتية التغذية” أي التي لا تحتاج الى مواد عضوية بل تخلق تلك المواد من ثاني أكسيد الكربون والماء من أجل النمو وممارسة أنشطتها الحيوية. وبتطور الحياة، نشأت أنواع حيوية متباينة منها الحيوانات التي تلتهم المادة العضوية النباتية وتستخدمها في بناء أجسامها وممارسة أنشطتها الحيوية كالحركة والدفء عن طريق عمليات الهضم وتحرير مخزون المادة العضوية من الطاقة.
وبتطور وعي الإنسان (الذي يعتاش على النباتات ولحوم الحيوانات المعتاشة بدورها على النباتات) لاحظ أن حرق المادة العضوية النباتية يولد طاقة مفيدة استخدمها للتدفئة ثم لشواء أو طهي طعامه. هذه النار “الأسطورية” كانت الدافع وراء تأليهها من قبل بعض الحضارات. استمر الإنسان في استثمار الحرارة الكامنة في التركيبات العضوية غذاء وكساء عبر عمره الحضاري تقريبا حتى بداية الثورة الصناعية حيث تمكن الإنسان من ربط حرارة الحرق الكيميائي للمركبات العضوية بإمكانية توليد طاقة ميكانيكية ناجمة عن حصر بخار الماء المتولد في حيز مغلق يتم إطلاقه على دفعات تمكن من تحريك عمود محوري يؤدي دورانه الى حركة عجلات حديدية فكانت بداية ثورة صناعية في عالم الترحال والنقل والاستكشاف والاختلاط الإنساني. وبعد فترة قصيرة أمكن للإنسان إجراء عملية الحرق الكيميائي في حيز مغلق يولد طاقة حركية متعاظمة فكان عصر آلات الاحتراق الداخلي الذي نحن على عتبات وداعه بل ووداع عصر الاعتماد على النبات للحصول على الطاقة عن طريق الحرق العضوي …..