الشاعر السّوري بحر لاواديسا. وهو يحمل هذا الاسم تيمّناً بكلمة “لاواديسا” التي تعني “اللاذقيّة” باللغة الإغريقية : مدينة أدونيس وسعد الله ونّوس ونديم محمد وبدوي الجبل وحنّا مينه.
لن أتحدّث طيّ هذه الورقة عن المشروع السياسي والاجتماعي للشهيد شكري بلعيد ولا عن مسيرته الشخصية والطلابية الثرية أو كلّ ما يُحسب له في علاقة بفكرة إنجاز المشروع التاريخي الدقيق والمتمثل في بناء صرح التنظيم الوطني الذي يتّسع لجميع العائلات التقدمية المنتسبة لتونس الأخرى (بصرف النظر عن مآلاتها اليوم)، لتونس الجديدة، لتونس المنحازة لأبنائها المنحازين لها…
سأتحدث عن شكري بلعيد الإنسان والصديق، شكري غير المتداول في الإعلام وفي ما يُكتب عنه هنا وهناك.
كان شكري رجلا شعبيا لا يتكلّف الانحياز لعامّة الناس، هو دائما كما هو، مع من قرأ صموئيل هانتنغتون ومع من توقّفت به عجلة القراءة في الأرملة المُرضع و كسّار الحصى ومع من لا يحالفه الحظ في ولوج معابد الدراسة ومقاعدها. كنت أقول لأصدقائي دائما إنّ شكري (على عكس كل الرموز الكبيرة الأخرى) من اليسير جدا أن تُمسك به و أن تُهاتفه وأن تتواعد معه وأن تدعوه إلى الحضور من أجل تأييد شخص أو تحرك أو احتجاج ما، بالرغم من كمّ الالتزامات والواجبات التي كانت مُحمّلة بها حقيبته اليدويّة السميكة. وإذا صادف أن يكون مُرافعا مُجلجلا في تلك اللحظة التي يطلبونه فيها لا ينسى أبدا أن يُعيد الاتصال بجميع من اتصلوا به حالما ينتهي. سهلُ المنال أيضا لأنّ فطور غدائه في أنهج العاصمة وأزقّتها كان شبه حفلة يومية تضمّ لفيفا متنوّعا من المحامين والمبدعين و الإعلاميين والنقابيين …للحديث بشأن مُجريات الأحداث ونتائج رصد حصيلة الأضرار المسجّلة بعد مرور الغربان وجحافل الجراد والقُطعان. أمّا زعماء النومنكلاتورا بمختلف انتماءاتهم فكان السّلوك الارستقراطي إليهم أقرب وأعذب ويقيهم شرّ الاختلاط بالعامة وخطر إنفاق ورقة نقدية إضافية.
وكان شكري طيّبا خلوقا معطاء، يبحث دائما عن أعذار للمُسيئين والسيّئين، لا يأبه كثيرا للمُهاترات السامّة وما تلوكه ألسن “المُجدّفين بلا عنوان” كما كان يحلو له أن يُسمّيهم. يقتسم مع رفاقه وأصدقائه ثمن حليب نيروز وندى لأنّه حييّ وذو نبل لا يُدركه من لم يتعرف إليه عن قرب. لم يكن خطابه صادما أو ردود فعله كابحة حتى مع الذين يستهدفونه، لا يقول “أنت جاهل” بل “ثمة عديد الكتب الأخرى التي لم تقرأها بعدُ”، ولا يقول “أنت كاذب” بل “لم تقل كل الحقيقة” …إلا عندما يتعلّق الأمر بـ “شيخ الكذّابين” الذي لم يترك كذبة واحدة إلا وأطلق عنانها، وكان آخرها كذبة الــ 590 ألف موطن شغل ستوفّرها حركة النهضة للتونسيات والتونسيين حسب دراسات علمية صلبة أعدّها 180 خبيرا في الاقتصاد ǃ
وكان شكري ثابتا ومتماسكا في غير ادّعاء. كان الطّلب على فصاحته ووضوح رؤيته وسعة اطلاعه وجُرأته كبيرا جدا من المنابر الإعلامية المختلفة والحرص من رفاقه على العناية بالشأن التنظيمي والسياسي شديدا، ولكن شكري الذي كانت تسكنه روح معطوب الوناس المطرب الجزائري الملقّب بأسد منطقة القبائل و الذي اغتاله رصاص الإسلام السياسي الجبان في 25 جوان 1998 والمنسوبة إليه المقولة الشهيرة “أنا من جنس المحاربين، يستطيعون قتلي ولكنهم لن يخرسوا صوتي أبدا. أفضّل أن أموت من أجل أفكاري بدلا من الموت ضجرا أو تحت وطأة الشيخوخة“… كان شكري يُفضّل المعارك الميدانية المباشرة في البطاحي والسّاحات (كملاكم تضيق به حلبات المواجهة المُقنّنة)، لذلك كنت تراه مع إعلاميّي الإذاعة الوطنية في شارع الحرية ومع الفنانين والمبدعين في خصّة باردو ومع عائلات القضاة الـــ 82 الذين عزلهم نور الدين البحيري جورا ومع فريق قناة نسمة في قصر العدالة و مع الأهالي في منزل بوزيان ومع النقابيين في سليانة وجندوبة ومع العسكريين عندما نبّه إلى خطورة استراتيجية إنهاكهم الممنهج لفتح ثغرات على الحدود من أجل تسهيل مرور الإرهابيين… تلك هي السّاحات التي كانت الأقرب إلى وجدانه ومُهجته وضميره العميق.
وكان شكري متواضعا وغير دعيّ ومُتقنا بفطرة تلقائية فيه لما يُصطلح عليه بالعادات الجيدة أو فنون الحياة الحسنة. كنا كثيرا ما نلتقي معه خلال الأشهر التي سبقت تشكيل الجبهة الشعبية من أجل مناقشة موقع المستقلين غير المنتظمين حزبيا داخل هياكل هذا الكيان الائتلافي الجديد. كان يؤمن كثيرا بأن الجبهة عليها ان تتجاوز الأحزاب لتصبح خيمة كبيرة لمن لا خيمة حزبية له. كان يُصغي إلى تحفظات “المستقلين” و تصوراتهم و تذمّرهم من النزعة الانتمائية الضيّقة لمناضلي الأحزاب بكل ودّ (نعم بكل ودّ، هكذا كان يقول لي صديقي أحمد المانسي الذي يُجيد استعمال تعبير “بكل انتباه”) حتى يكاد يتحول الى مناضل مستقل مثلنا و هو الأمين العام لحزب سياسي قائم.
وفي الختام، إليكم كلاما يكاد لا يقال.
معروفون سياسيّا وحتى اسميّا من حرّضوا على الشهيد شكري بلعيد وعملوا على تشويهه وتكفيره وإباحة دمه تمهيدا لإبعاده بقوة رصاص مدفوع الثمن قطريّا وتركيّا… لكن ما نخجل من الاعتراف به هو أن هؤلاء يُشبهون تماما جزءًا مهمّا من الشعب التونسي المُعادي عضويّا (وبصفة عفوية تحت وطأة ثقافة الجهل المقدّس) للموسومين بالإلحاد والحداثة وحتى مجرد عدم التديّن، ودليلي القاطع ما أسرّ لي به “عطّار الحومة” ومفاده أن عديد المواطنين “الأتقياء” يوم 06 فيفري 2013 كانوا يقتنون المستلزمات المختلفة لإعداد المُرطّبات ابتهاجا باغتيال شكري بلعيد.
أذكّر بهذا من أجل “تحريك السكّين” في أغوار الجرح التونسي والإقرار الموجع بأن روح القتل والتنكيل بالخصوم كامنة عميقا فينا … و لا بدّ من معركة ثقافية طويلة الأمد للقطع نهائيا مع ثقافة قطع رقاب المختلفين.