جور نار

من وصايانا إلى التعليم العالي قبل انطلاق مناظرة التوجيه الجامعي (الجزء الثاني)

نشرت

في

وجّهنا في الجزء الأوّل من هذه الورقة يوم الاثنين الماضي جملة من النداءات والمقترحات إلى وزارة التعليم العالي استعدادا لمحطة هامة في مسيرة الآلاف المؤلّفة من الشباب مرفوقين بعائلاتهم وعُدّة أحلامهم ومُمسِكين بصُرّة طموحاتهم، وهي محطة التوجيه الجامعي…

<strong>منصف الخميري<strong>

 وكم وددتُ ألا أكون محقّا فيما ذهبت وسأذهب إليه وأن أكون قد بالغتُ في التحامل على أصحاب القرار فتردّ عليّ الوزارة المعنيّة، وتبعث فينا قليلا من الأمل والاطمئنان على ما ينتظر بناتنا وأبناءنا هذه السنة التي نتمنى أن تكون أفضل من سابقاتها.

وكانت أهم المسائل المُثارة في ذلك الجزء الأول بالنسبة إلى من فاته الاطلاع على محتواه :

  • مخاطر حجب دليل التوجيه الجامعي في نسخته الورقيّة
  • مُعاقبة التلاميذ الناجحين في دورة المراقبة
  • التنفيل الجغرافي كمظلمة تضرب مبدأ تكافؤ الفرص في العمق
  • إعادة التوجيه (14 – 17 أوت 2023) على قاعدة مجموع آخر موجّه في الدورة الرئيسية، حقّ ثابت ومقدّس لا يجوز المساس به. 
  • توزيع الطلبة الجدد بشكل جُزافي خلال الدورة النهائية كمجرّد هروب من المسؤولية

أما الجزء الثاني والأخير، فأخصصه لعدد من الاشكاليات الأخرى التي تنال حسب تقديري من مصداقية منظومة التوجيه الجامعي، وكفيلة في نفس الوقت بتجويد أدائها لو تتضافر الجهود من أجل تطويقها والحدّ من آثارها السلبية على مستقبل آلاف التلاميذ المترشحين لخوض غُمار الحياة الجامعية.

سادسا : تحديد طاقة الاستيعاب وتوزيع الطلبة على المسالك

من المؤكّد أن الجامعات هي أعرف الأجهزة بحاجياتها وظروف التكوين فيها والموارد البشرية الموضوعة على ذمّتها عمّالا وإداريين ومدرّسين ومخابر وقاعات الخ… ولكن تجربة كل السنوات السابقة أثبتت أن التقديرات التي توضع قبل بداية كل سنة جامعية تكتنفها بعض المبالغة في إعلاء مستوى “الصعوبات ونقص الموارد والامكانيات والحرص على جودة التكوين” وذلك لاعتبارين ثابتين اثنين يُدركهما الجميع وهما:

–  أغلب المؤسسات الجامعية في بلادنا مكتظّة ومزدحمة نظريا، لكنها تعمل غالبا بأقل من طاقة استيعابها بكثير على امتداد كامل السنة الجامعية ما عدا خلال فترة الامتحانات.

– كُلفة الطالب في أغلب مؤسسات التعليم العالي تكاد لا تساوي شيئا إذا توفّر شرط مادي بسيط وهو المقعد الخشبي الفردي، فبقية المستلزمات المادية والبشرية تتوفّر بشكل طبيعي لفائدة مائة طالب كما لمائة طالب زائد نصفهم أو ربُعهم.  

كما لا يفوتني ونحن بصدد الحديث عن طاقة الاستيعاب، أن أشير إلى أن بعض الباكالوريات مثل باكالوريا إعلامية نظلمها كثيرا عندما نفتح أمامها مقعدا واحدا أو اثنين في بعض المسالك (الأقرب إلى تكوينها الأساسي) فنُعجّز الناجحين فيها ونضطرّهم لاختيار مسالك أخرى. وأن أقول كذلك إن تلاميذ باكالوريا علوم تجريبية لا يتمّ استيعابهم في المسالك الأقرب إلى ملمحهم الأساسي (العلوم الطبية وشبه الطبية والبيولوجيا وعلوم الحياة والأرض …) إلا بنسبة ضئيلة جدا مقارنة بعدد الناجحين فيها ومقارنة كذلك بالمقبولين في هذه الشعب من باكالوريا رياضيات والباكالوريات الأخرى.

سابعا : لا تجعلوا صوت العِمادات المهنية أعلى من صوت وزارة الإشراف

في كل سنة تُطالعنا بعض العِمادات وخاصة عِمادة المهندسين ببيانات غريبة وعجيبة تعترض فيها على بعث بعض المسالك الجامعية ذات العلاقة بالهندسة وخاصة المراحل التحضيرية المندمجة للدراسات الهندسية، وتُهدّد بعدم تسجيل المتخرجين من هذه الشعب بسجلاّت العِمادة بدعوى الحرص على جودة التكوين والسهر على احترام المواصفات. وهي ظاهرة كثيرا ما تُربك المترشحين للتوجيه الجامعي، خاصة أمام الصمت المُريب الذي تنتهجه وزارة التعليم العالي وعدم ردّها بالحزم اللازم على مثل هذه التهديدات والتدخّل السّافر في توجّهات أقرّتها لجان تأهيل علمية سياديّة بناءً على دراسات استشرافية مسبقة.

ثامنا : لا تجعلوا باكالوريتنا التونسية خزّانا للتعليم العالي الخاص والدراسة بالخارج

أعتقد أن أفضل مثال في تونس لمعرفة كيف ينظر بعض التلاميذ الناجحين في الباكالوريا وعائلاتهم إلى معروضات التكوين في التعليم العالي، هو علاقة التلاميذ التونسيين المنتمين إلى المعاهد الفرنسية حيث يترشحون بحماس شديد لنيل مقاعد في أفضل ما لدينا من مؤسسات وشعب دراسية (على معنى الصّيت الاجتماعي لهذه المواقع الدراسية ومستوى تشغيليتها فيما بعد)، وفي صورة تعذّر ذلك نظرا إلى محدودية المقاعد المعروضة للتناظر نسبيا أمام هؤلاء، يهرع جميعهم إلى الجامعات الفرنسية دون الالتفات وراءهم.

المؤسف أننا نعيش نفس الواقع تقريبا مع تونسيين آخرين تضيق بهم سبل التوجيه الجامعي وتحول معدلاتهم والانكماش المبالغ فيه لطاقة الاستيعاب في العديد من المسالك الجامعية وكل الإجراءات الضاغطة الأخرى، دون الحصول على ما يرغبون فيه من دراسات، فليتجئون مكرهين إما إلى التعليم العالي الخاص حتى وإن تطلب ذلك تضحيات عائلية جسيمة، أو الدراسة بالخارج لمن تتوفر لعائلته إمكانية الإنفاق على مسارات دراسية باهظة جدا.

وعليه، فإنه من واجب التعليم العالي أن يسعى قدر الإمكان إلى التقليص من نسبة المُحبَطين والمُغادرين …. وأنا متأكد تماما أن هناك إمكانية حقيقة لإنقاذ بعض الآلاف من الباحثين عن أحلامهم في ربوع أخرى… لو توفّرت بعض الإرادة والنظر بعين العقل والوطنية إلى مثل هذه الاشكاليات.

تاسعا : كفّوا عن صراعات المؤسسات التي تنعكس بشكل سلبي على طاقة الاستيعاب هنا وهناك

عشنا تجارب مريرة خلال السنوات القليلة الماضية تمثلت في صراع خفيّ بين بعض الجامعات أو المجالس العلمية في بعض المؤسسات، تؤدّي في النهاية إلى محاولة توجيه التلاميذ المتميزين بأكبر عدد ممكن نحو المؤسسات المحسوبة على الفرنكوفونية (لغايات لا علاقة لها مطلقا بمستقبل الطلبة الجدد أو جودة التكوين بقدر ما لها علاقة مباشرة بطموحات القائمين على حظوظ التعليم العالي في فترات معينة) على حساب مؤسسات أخرى تُبجّل التدريس باللغة الانكليزية على سبيل المثال. أو كذلك التقليص من طاقة استيعاب بعض الأقسام التحضيرية لفائدة المراحل التحضيرية المندمجة حتى لا ينحصر انتماء المتميزين إلى الأقسام الدراسية التقليدية. أو التقليص من طاقة استيعاب الشعب شبه الطبية (غير المحكومة باجتياز اختبارات) لتدعيم التوجيه الأولي بمجموع النقاط لفائدة أقسام علوم التمريض من أجل التحكم في العدد النهائي للمقبولين من خلال التدخل في عمل لجان الاختبارات، الخ…

عاشرا : الرقم الأخضر المجاني لوزارة التربية جدير بالدّعم والتثمين

أخيرا، نسجّل أن وزارة التعليم العالي لم تنتبه تقريبا خلال الصائفة الماضية إلى التجربة الناجحة جدا التي قامت بها الجمعية التونسية للاعلام والتوجيه بالشراكة مع وزارة التربية، والمتمثلة في وضع الرقم الأخضر لوزارة التربية على ذمّة التلاميذ الناجحين في الباكالوريا وعائلاتهم للإجابة عن استفساراتهم وتساؤلاتهم من قِبل مجموعة كبيرة من مستشاري الاعلام والتوجيه بشكل تطوّعي طيلة كامل مدة تعمير بطاقات الاختيارات… وعليه، فإنه من أبسط واجبات التعليم العالي أن تتعهّد هؤلاء بتحيين معلوماتهم وإقدارهم على النهوض بمهامهم كأفضل ما يكون، من خلال تنظيم دورات تدريبية مسبّقة والاعتراف لهم رمزيا بما يبذلونه من جهد لمعاضدة جهودها في تأطير الناجحين الجدد ومرافقتهم في خطّ طريقهم نحو ولوج الجامعة بمسالكها وثناياها الوعرة.

تمّت

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version