هل يفعل المشيشي ما لم يفعله غيره… أم يدفن رأسه في التراب؟؟
نشرت
قبل 4 سنوات
في
يتساءل الجميع شارعا و دولة و مؤسسات، عن مدى قدرة رئيس الحكومة على إخراج البلاد من الوضع التي تعيشه…و يتساءل الجميع عن إمكانية تطبيق القانون و إعادة مواقع الإنتاج إلى سلطة الدولة بعد أن استوطنتها الفوضى و أصبحت خارج سلطتها…فهل ينجح المشيشي حيث فشل غيره يا ترى؟؟ وهل يمتلك الجرأة الكافية لإعادة فتح كل مواقع الإنتاج بالقوّة في صورة عدم الوصول إلى حلّ سلمي يرضي جميع الأطراف؟ و السؤال الأهمّ هل ستقبل المجموعة التي أغلقت مواقع الإنتاج البترولية بإخلاء المكان غدا بعد الإعلان عن جميع فصول الاتفاق، وهل سيكرر المشيشي ما فعله بملف “الكامور” مع بقية ملفات غلق مواقع الإنتاج في بقية “المستوطنات” الاقتصادية؟؟
في خروجه الإعلامي الأخير حاول المشيشي تبرير فشله المنتظر، باتهام كل الحكومات التي سبقت حكومته بالتخاذل في العديد من الملفات، و اتهمها بتصدير كل أزماتها إلى من سيمسك بدواليب السلطة بعدها … لكنه لم يكن شجاعا و لم يذهب إلى التشخيص الأسلم لمن كان سببا في كل ما تعيشه البلاد اليوم…و ستعيشه غدا و ربما بعد غد…فكل الحكومات القادمة سترث إرثا ثقيلا من المديونية و العجز و التضخم …و جميع الحكومات لن تنجح في إخراج البلاد من وحل الأزمة ما لم تكن لها الشجاعة الكافية في تشخيص سليم و واقعي لأسباب ما نحن فيه.
ما هو هذا التشخيص الذي غفل عنه كل رؤساء حكومات ما بعد حكومة قايد السبسي التي جاءت على أنقاض حكومة الغنوشي الثانية؟؟ التشخيص الذي يرعب البعض ذكره هو كيف رضخنا لسلطة الشارع بعد 14 جانفي 2011…و كيف فشلت الدولة في كبح جماح الخارجين عن سلطتها ….و كيف فرّطت في مفاتيح مواقع الإنتاج إلى النقابات و “بلطجية” الفوضى التي أتت على الأخضر و اليابس بعد 14 جانفي… فأسباب ما نحن فيه لم تكن كما يزعم البعض، اختيارات خاطئة للحكومات المتعاقبة و فشلها في إيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ البلاد…و لم تكن أيضا عدم استقرار الوضع و تداول عديد الحكومات على التسيير مما أفسد كل المخططات التي كانت تهدف إلى النهوض بالبلاد و الخروج من الأزمة…فكل هذه الحجج و التبريرات ليست هي أصل الداء…و ليست السبب الرئيسي في ما نحن فيه اليوم…
البلاد بدأت في الانحدار إلى أسفل منذ 14 جانفي 2011 حين أطلقنا العنان للمطالب و الترضيات و تسوية الوضعيات…فالزيادات غير المدروسة و الكرم الحاتمي للحكومات المتعاقبة على البلاد من سنة 2011 إلى سنة 2014 أفرغت كل خزائن الدولة و أغرقت البلاد في الديون… و كل هذا بسبب تعنّت الاتحاد و غطرسته و طغيانه على البلاد و انخراطه الأعمى في ابتزاز الدولة….ففي عهد عبد السلام جراد رأينا العجب في التعامل مع المطالبة بالزيادات في الأجور…فكل اعتصام و ايقاف للإنتاج تقابله من طرف الاتحاد )ضغطا( و الحكومة )تنفيذا( زيادة في الأجور لتهدئة الأمور و الهروب من سماع كلمة “ديقاج”….فالخوف حينها بلغ أشدّه من الشارع و دكتاتورية الشارع المدعومة باستبداد النقابات، فكان الحلّ الأسهل و الأمثل لمن كانوا يقودون البلاد و الاتحاد، تلبية كل الرغبات و المطالب على حساب موارد الدولة….فالزيادات التي تمّ توزيعها يمنة و يسرة لم تقابلها زيادة في الإنتاج بل انحدرت كل مؤشرات الإنتاج إلى أسفل…
و ما زاد الطين بلّة هو أغنية “العفو العام” التي جاؤوا بها لإنقاذ رؤوسهم من الفوضى العارمة التي حلّت بالبلاد…فالعفو التشريعي العام أفرغ جزءا من خزينة الدولة…ثم جاء فرحات الراجحي ليزيد الأمور سوءا و تعقيدا بإعلانه العفو عن آلاف الأمنيين المطرودين دون دراسة لملفاتهم، فغرقت البلاد في موجة من قرارات تسوية الوضعيات أثقلت كاهل الخزينة …فما أقدم عليه الراجحي أصبح ككرة الثلج بانخراط كل مؤسسات الدولة في حملات تسوية للوضعيات أنهكت خزينة الدولة و ضاعفت حجم كتلة الأجور…ثم تواصل العبث بمقدّرات البلاد حين أعلن علي العريّض حملة لتسوية وضعيات كل الأمنيين في محاولة منه لاستقطاب المؤسسة الأمنية سياسيا بجميع أسلاكها فسقطنا في منحدر يصعب الخروج منه…
و تواصل الأمر على هذه الحالة مع وصول حسين العباسي إلى ساحة محمد علي أمينا عاما ثم نور الدين الطبوبي…فتضاعف عدد الاعتصامات و تعطيل مواقع الإنتاج إلى درجة أصبح التصرّف في موارد البلاد يوميا كأي دكان أو حانوت حي…ما تكسبه اليوم تصرفه غدا…فكل المواقع الإنتاجية الحساسة و الهامّة كانت معطّلة من طرف النقابات …و بدأت الدولة تبحث عن حلّ لخلاص أجور موظفيها…و لم تجد غير الاقتراض للمحافظة على استقرار الوضع…و رغم ذلك، و رغم دراية الاتحاد بوضع البلاد الاقتصادي و بما عليه وضع خزينة الدولة واصل هذا الأخير خنق البلاد قطاعيا و بالتناوب….
لم تعش البلاد هدنة اجتماعية بمعنى الهدنة منذ 14 جانفي 2011 …فالإضراب تلو الإضراب و قطع الطريق تلو الآخر…هذه حالنا منذ 2011 الخوف من فقدان المواقع و المناصب جعل الجميع يتنازل و يفتح الباب واسعا أمام الفوضى… كلمة “ديقاج” أرعبت كل من كان يتمتع بخطّة وظيفية فانخرط الجميع في ابتزاز الدولة وتلبية كل مطالب التسويات و الترضيات، حتى أنهكت خزينة الدولة وارتمت كل الحكومات في أحضان الدول و المنظمات المانحة، فغرقت الدولة في وحل غير مسبوق من المديونية والعجز…
و اليوم كيف يمكن لحكومة المشيشي إيقاف النزيف و إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟؟ و هل ينجح في جرّ الاتحاد إلى شراكة فعلية خالية من دسم الابتزاز تصاحبها هدنة طويلة الأمد رغم أن الاتحاد مقدم على مؤتمر قد يضطره إلى الدخول عنوة في حزمة جديدة من المفاوضات الاجتماعية تزيد الطين بلّة وتعكّر وضع خزينة الدولة … فهل يُقدم المشيشي على محاولة جدّية لكبح جماح الاتحاد وإيقاف النزيف أم يدفن رأسه كجميع من سبقوه في التراب لتسقط البلاد في قبضة المجهول… المشيشي يدرك جيدا أنه لن يعوّل على الأحزاب فهذه الأخيرة تخلّت عن دورها الاجتماعي وخيّرت البقاء على الربوة ومشاهدة ما يجري و مهادنة الاتحاد خوفا من سطوته التخريبية…
قد يخرج المشيشي من القصبة في صورة عدم نجاحه في جرّ الاتحاد إلى هدنة طويلة الأمد فالأحزاب لن تغامر بالدخول في حرب مع ساحة محمد علي لأنها لا تريد تحمّل تبعات أي فشل حكومي يوسّع الهوّة بينها و بين قواعدها …فالأحزاب لا تريد شيئا من المشيشي غير بعض المواقع و الخطط لمن سترشحهم لذلك، لكنها لن تغامر بتبني حكومة المشيشي و مشاركته تبعات أي فشل يغرقها في الوحل…و قد لا تهتم أصلا لو ذهبت حكومة المشيشي وذهب هو معها…فالأحزاب اليوم تبحث عن طريقة تبقيها على قيد الحياة وبعضها يريد البقاء خارج السجون حتى موعد الانتخابات القادمة…خاصة أنها على بينة كاملة من نوايا ساكن قرطاج تجاه جميع الأحزاب وتجاه بعض قياداتها…
خلاصة ما يجري في البلاد هو أننا مقدمون على أحلك فترة من تاريخنا الحديث…و ما لم تقع مراجعة العلاقة بين الدولة و الاتحاد لن ننجح في ايجاد حلّ و لو جزئي لما نحن فيه و إنقاذ البلاد من الوضع الذي تردّت فيه…فالدولة و من ورائها البلاد خسرت كثيرا بسبب الخوف…و الارتباك …و الغباء السياسي و الإملاءات و الترضيات التي فاقت كل الحدود…و اليوم يريد بعضنا إعادتنا إلى نفس مربع الفوضى و سلطة و قانون الشارع بحجة أن “الشعب يريد”…. حذار… فالقادم قد يكون أخطر من كل ما مر بهذه البلاد…