تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 50

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

حطّت طائرة العودة بمطار تونس قرطاج …كان امامي وقتها خياران اثنان اوّلهما ان ابقى بالعاصمة يوما وليلة مع شلّة نهج كندا …وثانيهما ان اغادر توّا الى صفاقس …

عبد الكريم قطاطة

للامانة اشتقت الى اصدقاء شلّة نهج كندا …تقاسمنا ونحن نقطن نفس الشقة اجمل ايامي في تونس العاصمة … السكنى عادة مع اكثر من ثنائي يكون فيها احدهم الذي لم يسعفه القدر … “الحاطوطية” بمفهوم لعبة الخذروف .. اي ذلك الخذروف اللّي ياكل على راسو من التهرتيك … هذه اللفظة في لعبة الخذروف تعني وضع خذروف احدهم في قلب دائرة اللعبة والجميع يهوون عليه نقرا وخبطا …فيخرج من الدائرة “مدمدم” وحديثنا قياس ..مسكين اللي يطيح بين ايدينا ..ياكل ما كلا الطبل ليلة العرس … يصبح كاراكوز الشقة … وللامانة كنّا على قدر كبير من البلادة والمساطة ..خاصّة انا ورضا صديق عمري .. والجميل اننا رغم اننا كنّا نشيّطو على اللّي نتراكاوه، فاننا كنّا نحظى دوما بعلاقات في منتهى الجمال والصفاء مع كل شركائنا في ايّ مسكن تقاسمناه..

اذكر واقعة هامّة حدثت مع صديق من افضل الناس … صديقنا هذا تعلّق بامرأة متزوجة وبشكل مجنون …لم يعرف في الدنيا سواها لا جسدا ولا روحا ..هو ليس فقط “ممحون بخزرة عينيها” بل مهبول حتّى بقيعان ساقيها … كنّا في البداية نحترم جدا هذا الاخلاص والحب الجارف الذي يعيشه صديقنا ومن اجل ذلك كنّا كل عشيّة سبت نُخلي له الشقة ونتركه مع حبيبته ومع ام كلثوم ..هو يعشق اغنية انا في انتظارك ويُعدّ كاسيتها لتكون الاغنية المرافقة لهما اسبوعيا ..وهنا في هذا الباب لابدّ من الاشارة الى التنسيق الكامل الذي كان يسود متساكني الشقّة في كونديكتار الاسبوع .. فاذا كان خطّ التحرير يسمح ببرامج جماعية من نوع كلّ واحد وليلاه (واحيانا واعلجيّتاه، لا اشكال) ..اما اذا كانت البرامج ثنائية اي كوبل فآنذاك لن يُسمح لأيّ كان بالتواجد في الشقّة… وعلى ذكر كلمة “كوبل” كثيرا ما تُستعمل هذه اللفظة في غير محلّها عند شبابنا المثقّف بلغة العصر ..تدخل على حسابه او حسابها فاذا بك تقرأ في المعلومات الشخصية عبارة (اون كوبل) وماشي في بالهم انهم في صداقة مع طرف اخر ..يا شباب العّلى… العبارة تعني اثنين يعيشان معا كزوجين دون وثيقة رسمية، دون عقد قران … او تلك النوعية التي تريد ان تعبّر عن قلقها من وضع البلاد فتقول: J’ai le mal du pays … يا شباب الدمّار والميزيريا ..تلك العبارة تُطلق فقط على من يعيش غربة الوطن ويشعر بالحنين الجارف له …..عالم صايع قوي …

صديقنا هذا تورّط بشكل مدمن في علاقته بتلك المرأة ..لا يرى الدنيا الا من خلال عينيها ..لا جمال عنده يساوي فلسا امام جمالها امام سفساريها ..وبدأت انا ورضا نتساءل: اش عجبو فيها ..؟؟ كانت جد متواضعة الجمال .. ولكن عدنا الى قاعدة “خوذو عيني شوفو بيها”… كانت تكبره ب15 سنة … ولكن متى كانت المشاعر تُقاس بالسنوات وفارق العمر ..؟؟… الا انّ ما شغل بالنا وقتها سؤال مُلحّ: (وبعد ..؟؟؟) هو ينتمي الى عائلة يصفها البعض بـ”كبيرة” وهي على خطوات من الخمسين عمرا ولها 5 اطفال … اذن وبعد؟؟؟ العمر يتقدّم بصديقنا إذ تجاوز الثلاثين …الى اين ؟؟ قررنا انا ورضا ان نتطارح معه الموضوع علّنا نجد اجابة عن (وبعد) وكان طرحنا هادئا رصينا وبكل حبّ لهذا الصديق العزيز …كان طرح الموضوع مفاجئا جدّا له بل قابله بقلق يصل الى حد الانزعاج ..لم يجرؤ على القول (اش يهمّكم) ولكن نظرة عينيه الى الاسفل قالتها ..لم يجب عن سؤالنا … اعدنا طرح السؤال بشكل مغاير: يخخي تفكّر في انّك ترتبط بيها ..؟؟ سؤالنا حمل نوعين من المشاعر اوّلهما قناعتنا انذاك ولحد يوم الناس هذا بأن الحب من اسمى ما خُلق في الحياة ..لذلك احترمنا ذلك الحب ..وثانيهما ماهي الحلول الاخرى التي يفكّر فيها؟ …

صديقنا لم يكن معنا ..بل لم نستطع حتى فهم اين ذهب … نظراته شاردة لا بريق فيها ولا حياة …مسكته من كتفه وقلت: يا سيّد رحنا نكلمو فيك انطق .. أخذ يدي بلطفه المعهود وسحبها من على كتفه وقال كلمة واحدة: ما نعرفش ..قام بعدها الى حجرته كالجندي المهزوم …كورقة توت تهاوت من شجرتها ..كان يجرّ رجليه بل هما اللتان كانتا تجرّانه .. كان الموجوع والمُحبّ والتائه والمكلوم .. عشنا تلك اللحظة نحن كذلك بكثير من الوجع والالم والتّيه … تبادلنا نظرة وقلت لرضا صديقي: “يمّة على خونا فلان …يجب ان نفعل شيئا ما” …عزمنا على الخروج لنتدبّر الامر بكلّ جدّية ..صديقنا في حاجة الينا وحان الامر للتدخّل ..مررنا على غرفته ونحن نعتزم الخروج فاذا به في فرشو مغطّي من راسو لساسو… ذلك المشهد زاد فينا اصرارا على التشبث بـ(زايد يلزمنا ننقذوه) ….في مثل هذه الامور كنت غالبا العقل المدبّر … في الايجابي وفي المقالب ايضا …انتحينا مكانا في مقهى شعبي بلافايات وبدانا تدارس الحالة …كنت ابحث عن حل جذري لمشكلة صديقي المسكين … ولم يطل انتظار رضا …بادرته بالقول: “تلك المرأة يجب ان تخرج من حياة صاحبنا ..هو لا يفكّر في الارتباط بها ..اذن يجب ان تخرج من حياته” ..لكزني رضا ببعض الشتائم ثم اضاف: “جبت الصيد من وذنو توّة، هذا نعرفوه اش جبت جديد ؟؟؟” … نظرت اليه بسخرية ورددتها عليه واستطعت قائلا: “اسكت واسمعني يا بهيم” … “ايّا هات اش عندك يا سي البغل” … هكذا ردّها عليّ …

اخذت نفسا عميقا من سيجارتي المنته رافقتها كعادتي كعبة الحلوى الفليّو انذاك والتي تحوّلت الى حلوى ابلا الان … وبدات اسرد حيثيات السيناريو: “اسمعني مليح …يوم السبت المقبل وعند مغادرة تلك السيدة الشقة سنتبعها لنكتشف محلّ سكناها ثم نعود ..في السبت الذي يليه ستجدنا امام منزلها وسنهدّدها بكشف سرّها لزوجها ان هي واصلت علاقتها مع صديقنا …وبعدها نرى ردّة فعلها امام تهديدنا وعلى ضوء ذلك نتصرّف” … واضفت: “فهمت يا سي الجحش؟”… طأطأ رضا راسه وقال: “يخلي دار امّك كيفاش لقيتها، فكرة جهنّمية !” …وكان ذلك …كان … نعم كان …لأني عندما اقرّر شيئا ما او اعد بشيء ما، اقول دوما ..سيكون …

بعد اسبوعين وبعد اكتشاف عنوانها وجدتنا قرب منزلها ..رحّبت بنا بكل سرور مندهشة من وجودنا .قالت: كيف السبّة انتوما هنا …راكم في حومتي ..؟؟”… لم نردّ على سؤالها ..كنّا متاهّبين لمعركة ..والمعارك عادة لا تحتاج الى مقدّمات او اطباق لفتح الشهيّة ..لم نكن يومها في حاجة الى سلايط لخوض المعركة ..كان الحوار مُلخّصا في قراءة نصّ حكم … الحكم مشاعريّا كم هو قاس، ولكن في المعارك، الرحمة لا … امّا ان تقتل او تُقتل … قلت لها باسلوب لا مجال فيه للحوار او النقاش …هو للتنفيذ فقط: “اسمع يا بنت الناس فلان يلزمو يخرج من حياتك …عشتو مع بعضكم سنوات جميلة نعم ولكن صار الوقت اللي كل واحد يشدّ طريقو …كان تحبّو بالحق خليه يبعد عليك وتبعد عليه… يلزمو ياخو ويكوّن اسرة …ترضالو في العمر هذا يقعد هكك؟ ..ما تعرفش انو الارتباط بيك حاجة مستحيلة؟ تنجم انتي تسلّم في صغارك الخمسة ؟؟.. كان تنجّم قللّي اذن هو اليوم هو غدوة ..وكان عندك حلّ اخر قللّي” …

لم تردّ بحرف واحد .. لم اترك لها المجال كي تأخذ جرعة اوكسيجين … واصلت الانقضاض… قلت لها: “كلامي معقول والاّ لا ؟؟؟”…لم تردّ ..”كان انا ظالمك قللّي” ..واصلت صمتها ..وقتها كان احساسي بأني نجحت في الاجهاز عليها وربحت المعركة ..وضعت يدي على كتفها وقلت: “شوف يا للاّ اذا مازلت تجي لفلان والاّ تحاول تتّصل بيه راهو المرة الجاية ما نجيشكش انا … راني نكلف حد باش يقول لراجلك وين تمشي كل عشيّة سبت… ما نحبلكش المضرّة لا ليك ولا ليه اما ما تلزّنيش … افهم كلامي بالڨدا وراني مانيش نفدلك ..تصبح على خير” … صدقا داخلي كان يقول: مااخيبك يا عبدالكريم علاش عملت هكّة …؟؟ … انت الذي تقدّس الحبّ والمحبين ..كيف لك ان تقتل عصفورين متحابّين .؟؟… ماذا فعلت بناسك متعبد في هيكل الحب ..؟؟؟ كم انت بشع وانت ترى امرأة تبكي بحرقة دون ان تذرف دمعة واحدة …؟؟؟ ما ابشع ان يبكي الواحد منّا دون ان يذرف دمعة واحدة ..وما اروع شهيّة البكاء عندما نفتح لها مصاريع ابوابها …هل جربّتم تسونامي البكاء وهو ينهمر كشلالات نياغارا ..صدقا كم اعشق ذاتي وانا على قبر عيادة في جلّ زياراتي لها متشوّقا باكيا الى حد الثُّمالة ….ياااااااااااااااااااااااااااااااااه “بجنّن” وانا كطفل صغير يبكي على صدر امّه حتّى وهي في قبرها …

كانت تلك مشاعري كانسان وانا اودّع تلك المرأة … ولكن صوت عقلي كان يقول: حسنا فعلت ..لانه لا اجابة عن (الى اين؟) …ربّما كنت اواسي نفسي بالقول: “انا اعطيتها فرصتها لحلول اخرى”… ولكنّها عبّرت بصمتها عن عدميّة حلول اخرى ..اما بالنسبة لصديقنا فكان الامر مختلفا … نجحت خطتنا في ابعادها عن دائرته واعرف انه سيتدمّر عندما يعرف الحقيقة… ولكن ابدا ان يكون الدّمار خاليا من امل في اعادة البناء … كنّا ننتظر بكثير من الخوف والريبة يوم السبت …وكعادته استعد لاستقبال حبيبته بنفس الديكور… ديكور حبّه وهيامه وديكور ام كلثوم وانااااااااااااااااااااااااااا في انتظارك ..كنت انظر اليه انا ورضا وكان كلانا يستمع الى الست ويردّد: ونحن في انتظار من صنف آخر ..؟؟ هل سيغضب منّا صديقنا لو علم بسيناريو المؤامرة ..؟؟ من منهما سيكون الضحية في تيتانيك ..؟؟ روز في ذلك الفيلم الرهيب نجت لأن جاك ضحّى بحياته من اجل ان تعيش روز ..فهل تضحّي فلانة من اجل ان يعيش صديقنا ..؟؟

لم نستطع صدقا يومها ان نواكب انتظاره ….قلقه … .هواجسه …ابتعدنا قليلا عن شقتنا بنهج كندا ولكن في موقع يضمن لنا مراقبة زوار العمارة… كنّا كعونين سريين نراقب وصول ارهابي لمسرح التفجير …يااااااااااااااااااااااااااااه لم تات الخليلة …ومع ميلان اشعة شمس العشية لمبارحة السماء، هاهو صديقنا يخرج من باب العمارة … اسرعنا الاختفاء حتّى لا يرانا ..وحتّى لا نراه ايضا ..كنّا مبتهجين بانتصار الخطّة نعم ولكن كنّا نعيش كمّا مهولا من الشفقة على صديقنا …يومها كنا نعرف انه سيهاتفها آلاف المرّات… ولكن لم نكن ندري هل استجابت لهاتفه او ردّ عليه ذلك الصوت الناعم عادة والمدمّر احيانا الى حد القرف والذي يصفعك وصاحبته تقول (لا يمكن الاستجابة لطلبكم ..الرقم المطلوب ليس في وضع اشتغال في الوقت الحاضر، الرجاء اعادة الطلب في وقت لاحق)… وهات من هاكة اللاوي متاعهم ..اوريدو على اورونج على تليكوم “معشر سُرّاق”… الم يكن كافيا ان ياتيك ذلك الصوت باوجز العبارات من فصيلة (مخاطبكم مشغول)؟؟؟ لازم هاكة الكتاب تقراوه علينا باش تربحوا فينا …؟؟ الله لا تربّحكم على بعضكم يا سُرّاق يا قُطعية … في بلاد اتّملات بالسرّاق والقطعيّة …وزيد عاد هاكة البونيس يتصبّ توّة يوفى توّة … تحبّوني نعاودها ..؟؟؟ برّاو الله لا تربّحكم (ونزيدهم بونيس من عندي) لادنيا ولا اخرة …

يومها وعندما عاد صديقنا الى الشقة كان الانكسار بعينه … كان وكأنه ما كان …سالته دون ان انظر اليه خوفا من اكتشاف امري: “اشبيك موش قد بعضك؟” …صمت ثم اجاب بصوت غير مسموع بالمرّة: “فلانة لم تات وهاتفها لا يردّ” ..سمعته حتى وهو يحكي بصوت غير مسموع …اجبت وانا ادير له ظهري: “ربّما ظروفها ما سمحتلهاش” ..رد باقتضاب: “عمرها ما عملتها” …حاولتُ تمييع القضية على منبر الامم المتحدة وانا انظر إليه بكل براءة الذئب الخبيث وقلت: “عاد اشبيه الليلة انزل على الكسكسي من غير لحم” …لم يعبأ بفذلكتي البايخة وحمل نفسه الى غرفته، لينام دون ان ينام ودون حتّى كسكسي …

وتكرّر الامر في السبت الموالي ..وتكررت مشاهد الانكسار والوجيعة والالم عند صديقنا وتاكّد انتصارنا في الفصل الاوّل من المعركة …والان كيف يمكن لنا ان نُنهي القضيّة مع صديقنا ..؟؟ رضا ارتأى ان نترك الأمور للايام مختصرا في (يكبر وينسى)… الاّ انّي لم اتعود في تعاملي مع اصدقائي على الخديعة والصمت عليها …فبقدر ايماني بوجوب ما قررت ان يكون، بقدر رفضي المطلق ان اُخفي عن صديقي كل ما حدث حتى لو خسرته ..ربّما ايضا هي قناعتي الدائمة بأن طيّ الملفّات دون مكاشفة حقيقية من ارذل المخادعات… ثمّ أيضا غروري النرجسي الذي يقول ستنتصر ما دمت شفافا نزيها …واعيا بعمق ما تفعل …وقررت مكاشفته بكل ما حدث اي بمؤامرتنا انا ورضا … دعوته الى ترشف قهوة معا بعد انتهاء عمله المرموق في احدى المؤسسات المرموقة، لامر هام يخصّه ..وحضر ورويت له كلّ تفاصيل التفاصيل …نهض من مجلسنا بالمقهى وغادر دون ايّ رد فعل ..لكن اساريره كانت توحي بغضب شديد وبالم كبير …كان رضا يردد: “قلتلك يا غفاص خللي الامور تمشي بطبيعتها ..يعجبك توة اللي عملتو؟” … لكن بعنادي وغروري كنت واثقا من أني فعلت ما يجب فعله …

اتممنا قهوتنا وعدنا الى الشقة ….لم نجد صديقنا …عاد الى البيت ونحن نيام وخرج ونحن نيام ..طبيعة عملي تسمح لي بأن اكون من قبيلة آل نعاس …ذهبنا اليه في مقرّ عمله … رفض استقبالنا …انتظرناه حتى يخرج وقت الغداء فخرج من الباب الخلفي (موش كان سي العريض طلع يستنى فيهم من قدام جاوه من تالي ..الفارق انو احنا ما عندناش الاستخبارات اللي عندو …شفتو البهايم قداش يحسبونا بهايم ..؟؟؟)… انتظرنا عودته ليلا… لم يعد …في الغد اكتشفنا انه انتقل بالسكنى الى شقة اخرى لاحد اصدقائنا …هذا يعني القطيعة ….ويعيد سي رضا صديقي نفس الاسطوانة (عجبك؟…حتى يصل بي الى ما نتُن من شتائم وسباب)… ولأني من مخلوقات الله التي جُبلت على الصبر وبكل برودة دم لم تكن تمسّني شتيمته بقدر ما كنت افكّر في صديقي الآخر الذي سيضيع نفسه، وسيضيع منّا ايضا …وقررت ان انهض باكرا ذات يوم وان العن النعاس وان انتصب امام مؤسسته كالقدر المحتوم كالقضاء …وهاهو ..وقفت امامه ومنعته من مواصلة السير وقلت: “انا خوك يا فلان …خوك راني موش عدوك …وعلى خاطر نحبّك كان يلزم نعمل هكاك …مانيش خوانجي… مانيش شرّير وانتي تعرف هذا …نحبك تفيق على روحك … نحبك تعرف انك معاها في طريق مسدود …كان عندك حل اخر قللي وانا نمشي توّ نجيبهالك …قللّي وما تسكتش عليّ”…

و انهرت بكاء بكيت بكلّ حرقة …بكيت بصدق الدنيا لصديق كانت تقول عنه عيّادة (هاكة سيدكم الكل)… وهل يّفتى في الاصدقاء وفيهم عيّادة؟؟ … عندما بكيت عانقني صديقي بكل حنّية وكانت تلك الحركة الرائعة … تفطنتم لها ..؟؟ نعم انّها الطبطبة … ولمّا واصلت نشيجي وانا نتشلهق …وقتها سمعت صوته الذي لم استمع اليه منذ ثلاثة ايّام وهو يقول: “حتّى انا خوك ..اما حقّك قلتلي” ..مسكته من اعلى ذراعيه وقلت: “تحّب تضرب اضرب… تحبّ تسبّ سبّ” .. ولم يتركني اتمّ كلامي حيث وبابتسامة صغرونة جدا ولكنّها صادقة اوقف الديسكور بقوله: “اش فيك ما يتضرب …زوز اعواد يتحرّكو” …عانقته من جديد وقلت له: “زوز اعواد يتحرّكو صحيح اما يفعلو” … وكبرت ابتسامته هذه المرة وقال: “نروّحو هالويكاند لصفاقس؟” ..قلتلو نمشي معاك لجهنّم …

تفارقنا على امل اللقاء وقت تناول الغداء في المنزل… مسحت بقايا الدموع من عينيّ وكم وجدتني وقتها في حاجة لأن أرقص… أن أغنّي… أن أصيح… وأن أقول لصديقي رضا: شُفي صديقنا فلان يا بهيم… نعم كانت تلك التجربة عندي بمثابة الشفاء من مفترق طرق… وفي مفترق ازقة مطار قرطاج يوم عودتي من باريس كانت هنالك شقة نهج كندا بألف حكاية وحكاية… وكانت ايضا دار التلفزة التونسية وعديد الزملاء الاعزاء على قلبي… وفي بُقيعة صغيرة من ساقية الدائر كان هنالك شلّة وخطيبة وكانت عائلة وكانت عيّادة… ومن كان يستطيع ان ينافسها على ايّ اختيار…؟؟؟ من يجرؤ …؟؟؟؟ عذرا ايّها الوافي… جئت متأخرا جدا… لأن من يجرؤ هي ملكية ادبية تاريخية تخصّ عيّادة وكلّ من يعرف عيّادة في حياتها الاولى أو في حياتها الثانية وهي في برجها القبري الجميل… من يجرؤ وانا في مطار تونس قرطاج.ان يناقش في مسلكي وطريقي وشوقي لن يكون الا لعيّادة؟؟؟؟ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 115

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عبد الكريم قطاطة

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟

في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…

مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…

تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…

اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…

إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…

قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…

الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟

موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…

قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!

نشرت

في

محمد الأطرش:

كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.

سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.

الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.

هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟

أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…

ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟

يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 114

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

عبد الكريم قطاطة

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار