تابعنا على

جور نار

كيف يكون التلميذ متميّزا اليوْم … رغم أنف مدرسة غير متميّزة ؟

“المعدّلات العالية هي دائما مؤشر تميّز، لكن المعدّلات المتوسّطة ليست دائما علامة فشل” ـ بهجة الحياة إيبانوي

نشرت

في

يبدو أن التحوّلات العميقة الحاصلة اليوم في العالم على مستوى مَلْمَح المهن الجديدة ومناخات الرّقمنة المُعمّمة وأنماط العمل المستحدثة وأنواع المهارات المطلوبة، واستفاقة الانسانية على اكتشاف مكوّنات منسيّة من الذكاء المُخلِّصِ من سَطْوة نموذج الذكاء المدرسي التقليدي، والمُحرِّر من النمذجة القاتلة للبراعم والأجِنّة أحيانا … يبدو أن هذه النُّقلة الحديثة الجارية حاليا هي الآن بصدد نحت ملامح تلميذ المستقبل، وخاصة بلورة تعريف جديد لمفهوم التلميذ المتميز والقادر على اقتحام أبواب المستقبل بأكثر يُسرا  وبناء مسار واعد بصورة ذاتية.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

قد تسمح لي بعض التجربة في علاقة بمدرستنا وجامعاتنا التونسية وبالدراسة والعمل بالخارج بالوقوف على بعض الاستنتاجات، وقد تُتيح لي بعض الأمثلة الحية التي عايشتها الوقوف على واقع متفوّقين درسوا في أكبر الجامعات العالمية وعادوا إلى تونس مُنهَكين نفسيا ودراسيا، ومتوسّطين صمدوا وقاوموا وتدبّروا وثابروا وكان لهم ما يريدون وأحيانا أكثر مما يريدون … قد يسمح لي كل ذلك بوضع تصوّر ولو بصفة سريعة وعامة لمن هوّ التلميذ المتميز مستقبلا في ضوء التحولات المذكورة آنفا :

التلميذ الواعد أوّلا هو التلميذ النّاجي من الابتدائي

لم يعُد سرّا أو مجرّد تخمين كون الطفل يتشكل جزء كبير من شخصيته والنواة الصلبة لديه وتنمو بذور ما سيصبح إمكانيات ومهارات وقدرات فيما بعد… خلال المرحلة التحضيرية (إن وُجدت) والمرحلة الابتدائية. والمطلوب اليوم أصبح عبور الطفل لهذه المرحلة بأخف الأضرار والتشوّهات إن لم تتوفّر البيئة التربوية التي نما فيها (مستوى كفاءة المعلّمين ومضامين البرامج والمناهج الدراسية وجودة الحياة المدرسية…) على ما يجعل سبع سنوات بِكْر ، طبقة سميكة من الفِطنة والشّغف والنّباهة. 

التلميذ الألمعي ثانيا هو تلميذ ماسك بناصية التكنولوجيا ولكن ليس سجينا لها

اللوحات الرقمية والحواسيب المتطوّرة والهواتف نافذة الذكاء تُستعمل وسط كثير من العائلات كأدوات إلهاء أو كوسائل إشباع عاطفي أو كذلك كمُحفّزات محفوفة بخطر الإدمان الأبله، ونادرا ما يتمّ توظيفها لتعزيز المناعة الذهنية واكتساب القدرة على تخصيب العقل وحسن استعمال مكنوناته الجبّارة.

التلميذ المتميّز  ثالثا  هو تلميذ يُطالع كما يأكل

هذا النموذج من التلاميذ يُطالع  بنهم وشغف كبيرين ليصبح باحثا عن كتابِه بعيدا عن دفع والديْه وإلحاحهما، لأن القراءة كما يؤكده خبراء العلوم العصبية “تساعد على مقاومة تهرّم القدرات الذهنية وتُنمّي الذاكرة وتُعزّز روح التعاطف والغيْريّة”  علاوة على أنها ترتقي بالقدرات التخيُّليّة، وتسمح كذلك بتحقيق هُدنة واسترخاء ضروريّين في زحمة يوم كامل من القصف المركّز الذي تمارسه ملايين المواقع الالكترونية والصفحات المتخصصة في قنص انتباه المتفرّج الرّقمي والتطبيقات المُدجّجة بالكمائن المشهديّة المُغرية.

والمطالعة حسب تجربتي الشخصية، خاصة عندما تكون مُركّزة ومنتبهة لتفاصيل ما يُقال (لا فقط صورا وخيالات لتمضية الوقت) ترفع من منسوب اللغة التي يتملّكها الفرد (كمّا ونوعا) وتُدرّبه على أن يكون مزهوّا حدّ الانتشاء تحت تأثير لغة مُطرّزة ونفائس بلاغيّة قُدّت من ذكاء كبار المُفكّرين وعبقريّتهم… وكل ذلك دون منشّطات خارجية مُدمّرة، والمطالعة أيضا كاسِرة لضيق الأفق وكاسحة لجميع أنواع الحدود التي تفرضها اللغة والدّين والثقافة والجمارك.

التلميذ المُستقبلي رابعا هو تلميذ اتصالي

هو تلميذ لا فقط يُتقن العدّ والقراءة والكتابة بل كذلك يُجيد الكلام ويُحسن الحديث. (انتبهوا قليلا إلى انسيابيّة الحديث لدى تلميذ الـ 15 سنة في تونس مع نظيره الألماني، أو السويدي وستكتشفون أن الطفل أو الشاب التونسي  يُجيب عادة بمقاطع لغوية مبتورة مثل “لاباس مريقل” أو “سافا سلّكتها” أو “نحب كيف نكبر نعمل مشروع والا حْكاية” … بينما يقدر نظيره على تأليف جُمل واضحة المعنى والتركيب إلى حدّ كبير كأن يقول “أعتقد أن شباب اليوم يقرأ أقل من جيل الآباء والأمهات ولكن خاصة جيلي أنا يقرأ أقل من أجل المتعة الخالصة” (هذه شهادة واقعية لشاب فرنسي عمره 16 سنة). المهارة الاتصالية كتابة وكلاما شفويا جواز ثمين عابر للقارات دون تأشيرات بائدة وسلاح فعّال أثناء حوارات الانتداب التي يُديرها كبار المختصين في صيد الكفاءات وتخيّر أفضل الموارد البشرية.

التلميذ النّاجح خامسا هو تلميذ مستقلّ بعد عتبة عمريّة معيّنة

أذكر أن صاحب أفضل معدل في باكالوريا إعلامية في جهة من جهات بلادي خلال السنة قبل الماضية تحدثت إليه وكم صدمني عندما أكّد لي أن الكوفيد والدراسة بنظام الأفواج وبعض الضّجر من مضامين بعض المواد وطريقة تدريسها، جعلته لا يحضر سوى ثلاث حصص بالمعهد الذي درس به طيلة سنة دراسية كاملة. مستقلّ هنا بمعنى تلميذ مسؤول، يتدبّر أوقات المراجعة دون ضغط أو ملاحقة ويتخلص بتعقّل من سلطة الأستاذ كمصدر أوحد للمعرفة ويتعلم بصورة ذاتية (37 مليون متعلّم بصفة حرّة في منصّة “كورسيرا” الأمريكية بمساهمة 150 جامعة عبر العالم في 2018).

التلميذ الذي لا خوف عليه سادسا هو تلميذ متوازن

هو فرد متصالح مع جسده ومُطمئنّ دون غُلوّ أو تبخيس إلى أصوله العائلية والاجتماعية، حاملٌ لقيم إيجابية يؤثثها حب الناس وتثمين الذات واحترام الآخر ونبذ الغرور وقلة الحياء. وهي طِباع ممكنة تماما مَوْكولة للأولياء والمربّين … حتى يكون الطفل واليافعون عامة متخلصين من مُعيقات التواصل مع الآخر مهما كان، أقول هذا لأن عددا كبيرا جدا من الصعوبات التي يعانيها التلاميذ مردُّها خجل مبالغ فيه وخوف من الكلام وذعر من الإجابة وتهيّب فتّاك إزاء مفاتحة شخص من الجنس الآخر… هو تلميذ واقف جيّدا في حذائه كما يُقال.

التلميذ ذو الشأن أخيرا هو الذي يستحضر كل هذه الآفاق

العالم لا يعرف أين يمضي تحديدا لكنّه لا يكفّ عن محاولة توقّع ما سيحدث مستقبلا. يُقدّر المتخصصون في رصد توجهات سوق الشغل العالمية أن المهن التي ستنتدِب أكثر من غيرها في المستقبل هي :

مهن الصحة ومهن الخدمات الموجهة للأشخاص ومهن البيئة والتكوين والتدريب وفق معايير جديدة coaching وتقنيو الإعلامية وحماية المعطيات والمختصون في الحماية السيبرنية والذكاء الاصطناعي في كل المجالات الاقتصادية والروبوتيك والمؤثرون ومصمّمو المواقع على الواب والمهن القانونية في المجال الرقمي وصانعو المحتوى. هنا لا بد من الإشارة إلى أن المحتوى الأسهل استهلاكا هو الفيديو  (حسب مؤسسة سيسكو الشهيرة في الاعلامية والشبكات 80 بالمائة من المحتويات في المستقبل ستكون عبر الفيديو)، وكذلك مطوّرو البرمجيات المحمولة  (258 مليار تحميل لتطبيقات مختلفة خلال 2022).   

من يضع صوْب عينيْه هذه الآفاق المتنوّعة والمُثيرة سيتدبّر بالتأكيد أمر مستلزماتها ويمضي إلى مستقبل مُشرق هو سيّدُهُ.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار